الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (3): {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)}{بَصِيرًا إِنَّا هديناه السبيل} لأنه جملة مستأنفة تعليلية في معنى {إِنَّا هديناه} أي دللناه على ما يوصله من الدلائل السمعية كالآيات التنزيلية والعقلية كالآيات الأفاقية والأنفسية وهو إنما يكون بعد التكليف والابتلاء {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} حالان من مفعول هدينا وأما للتفصيل باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات أي هديناه ودللناه على ما يوصل إلى البغية في حالتيه جميعًا من الشكر والكفر أو للتقسيم للمهدي باختلاف الذوات والصفات أي هديناه السبيل مقصومًا إليه بعضهم شاكر بالاهتداء للحق وطريقه بالأخذ فيه وبعضهم كفور بالإعراض عنه وحاصله دللناه على الهداية والإسلام فمنهم مهتد مسلم ومنهم ضال كافر وقيل حالان من السبيل أي عرفناه السبيل إما سبيلًا شاكرًا وإما سبيلًا كفورًا على وصف السبيل بوصف سالكه مجازًا والمراد به لا يخفى وعن السدي أن السبيل هنا سبيل الخروج من الرحم وليس بشيء أصلًا وقرأ أبو السمال وأبو العاج أما بفتح الهمزة في الموضعين وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب وهي التي عدها بعض الناس على ما قال أبو حيان في حروف العطف وأنشدوا:وجعلها الزمخشري أما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط على معنى أما شاكرًا فبتوفيقنا وأما كفورًا فبسوء اختياره وهذا التقدير إبراز منه للمذهب قيل ولا عليه أن يجعله من باب {يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا} [البقرة: 26] كأنه قيل أما شاكرًا فبهدايتنا أي دعائنا أو اقدارنا على ما فسر به الهداية وأما كفورًا فبها أيضًا لاختلاف وجه الدعاء لأن الهداية هاهنا ليست في مقابلة الضلال وهذا جار على المذهبين وسالم عن حذف ما لا دليل عليه وجوز في الانتصاف أن يكون التقدير أما شاكرًا فمثاب وأما كفورًا فمعاقب وإيراد الكفور بصيغة المبالغة لمراعاة الفواصل والإشعار بأن الإنسان قلما يخلو من كفران ما وإنما المؤاخذ عليه الكفر المفرط. .تفسير الآية رقم (4): {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)}{إِنَّا أَعْتَدْنَا} هيأنا {للكافرين} من إفراد الإنسان الذي هديناه السبيل {سلاسل} بها يقادون {وأغلالا} بها يقيدون {وَسَعِيرًا} بها يحرقون وتقديم وعيدهم مع تأخرهم للجمع بينهما في الذكر كما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] الآية ولأن الانذار أنسب بالمقام وحقيق بالاهتمام ولأن تصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن على أن وصفهم تفصيلًا را يخل تقديمه بتجارب أطراف النظم الكريم وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر والأعمش سلاسلًا بالتنوين وصلًا وبالألف المبدلة منه وقفًا وقال الزمخشري وفيه وجهان. أحدهما: أن تكون هذه النون بدلًا عن حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف والثاني أن يكون صاحب القراءة ممن ضرى برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف وفي الأول أن الإبدال من حروف الإطلاق في غير الشعر قليل كيف وضم إليه إجراء الوصل مجرى الوقف وفي الثاني تجويز القراءة بالتشهي دون سداد وجهها في العربية والوجه أنه لقصد الازدواج والمشاكلة فقد جوزوا لذلك صرف ما لا ينصرف لاسيما الجمع فإنه سبب ضعيف لشبهه بالمفرد في جمعه كصواحبات يوسف ونواكسي الأبطار ولهذا جوز بعضهم صرفه مطلقًا كما قيل:وحكى الأخفش عن قوم من العرب أن لغتهم صرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل من وصرف سلاسلًا ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة وفي مصحف أبي وعبد الله بن مسعود وروى هشام عن ابن عامر سلاسل في الوصل وسلاسلًا بألف دون تنوين في الوقف. .تفسير الآية رقم (5): {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)}{إِنَّ الابرار} شروع في بيان حسن حال الشاكرين إثر بيان حال سوء الكافرين وإيرادهم بعنوان البر للإشعار بما استحقوا به ما نالوه من الكرامة السنية مع تجديد صفة مدح لهم والابرار جمع بر كرب وأرباب أو بار كشاهد وأشهاد بناء على أن فاعلًا يجمع على أفعال والبر المطيع المتوسع في فعل الخير وقيل من يؤدي حق الله تعالى ويوفي بالنذر وعن الحسن وهو الذي لا يؤذي الذر ولا يرضي الشر {يَشْرَبُونَ} في الآخرة {مِن كَأْسٍ} هي كما قال الزجاج الإناء إذا كان فيه الشراب فإذا لم يكن لم يسم كأسًا وقال الراغب الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسًا والمشهور أنها تطلق حقيقة على الزجاجة إذا كانت فيها خمر ومجازًا على الخمر بعلاقة المجاورة والمراد بها هاهنا قيل الخمر فمن تبعيضية أو بيانية وقيل الزجاجة التي فيها الخمر فمن ابتدائية وقوله تعالى: {كَانَ مِزَاجُهَا كافورا} أظهر ملاءمة للأول والظاهر أن هذا على منوال {كان الله عليمًا حكيمًا} [النساء: 17] والمجيء بالفعل للتحقيق والدوام وقيل كان تامة من قوله تعالى: {كن فيكون} [يس: 82] والمزاج ما يمزج به كالحزام لما يحزم به فهو اسم آلة وكافور على ما قال الكلبي علم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور وعرفه وبرده وصرف لتوافق الآي والكلام على حذف مضاف أي ماء كافور والجملة صفة كأس وهذا القول خلاف الظاهر ولعله إن لم يصح فيه خبر لا يقبل وقرأ عبد الله قافورًا بالقاف بدل الكاف وهما كثيرًا ما يتعاقبان في الكلمة كقولهم عربي قح وكح وقوله تعالى:.تفسير الآية رقم (6): {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)}{عَيْنًا} بدل من كافور وقال قتادة يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك وذلك لبرودة الكافور وبياضه وطيب رائحته فالكافور عناه المعروف وقيل أن خمر الجنة قد أودعها الله تعالى إذ خلقها أوصاف الكافور الممدوحة فكونه مزاجًا مجاز في الاتصاف بذلك فعينا على هذين القولين بدل من محل كأس على تقدير مضاف أي يشربون خمرًا خمر عين أو نصب على الاختصاص بإضمار أعني أو أخص كما قال المبرد وقيل على الحال من ضمير {مزاجها} وقيل من كأس وساغ لوصفه وأريد بذلك وصفها بالكثرة والصفاء وقيل منصوب بفعل يفسره ما بعد أعني قوله تعالى: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} على تقدير مضاف أيضًا أي يشربون ماء عين يشرب بها إلخ وتعقب بأن الجملة صفة عينًا فلا يعمل فعلها بها وما لا يعمل لا يفسر عاملًا وأجيب نع كونها صفة على هذا الوجه والتركيب عليه نحو رجلًا ضربته نعم هي صفة عين على غير هذا الوجه والباء للإلصاق وليست للتعدية وهي متعلقة معنى حذوف أي يشرب الخمر ممزوجة بها أي بالعين عباد الله وهو كما تقول شربت الماء بالعسل هذا إذا جعل {كافور} علم عين في الجنة وأما على القولين الآخرين فقيل وجه الباء أن يجعل الكلام من باب:لإفادة المبالغة وقيل الباء للتعدية وضمن يشرب معنى يروي فعدى بها وقيل هي عنى من وقيل هي زائدة والمعنى يشربها كما في قول الهذلي: ويعضد هذا قراءة ابن أبي عبلة يشربها وقيل ضمير بها للكاس والمعنى يشربون العين بتلك الكأس وعليه يجوز أن يكون عينًا مفعولًا ليشرب مقدمًا عليه وعباد الله المؤمنين أهل الجنة {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} صفة أخرى لعينا أي يجرونها حيث شاؤا من منازلهم إجراء سهلًا لا يمتنع عليهم على أن التنكير للتنويع أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن شوزب أنه قال معهم قضبان ذهب يفجرون بها فيتبع الماء قضبانهم وفي بعض الآثار أن هذه العين في دار رسول الله صلى الله عليه وسلم تفجر إلى دور الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين. .تفسير الآية رقم (7): {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)}{تَفْجِيرًا يُوفُونَ بالنذر} استئناف مسوق لبيان ما لأجله يرزقون هذا النعيم مشتمل على نوع تفصيل لما ينبئ عنه اسم الابرار إجمالًا كأنه قيل ماذا يفعلون حتى ينالوا تلك المرتبة العالية فقيل يوفون إلخ وأفيد أنه استئناف للبيان ومع ذلك عدل عن أوفوا إلى المضارع للاستحضار والدلالة على الاستمرار والوفاء بالنذر كناية عن أداء الواجبات كلها العلم ما عداه بالطريق الأولى وإشارة النص فإن من أوفى بما أوجبه على نفسه كان إيفاء ما أوجبه الله تعالى عليه أهم له وأحرى وجعل ذلك كناية هو الذي يقتضيه ما روى عن قتادة وعن عكرمة ومجاهد إبقاؤه على الظاهر قالا أي إذا نذروا طاعة فعلوها {ويخافون يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ} عذابه {مُسْتَطِيرًا} فاشيًا منتشرًا في الأقطار غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى وللطلب أيضًا دلالة على ذلك لأن ما يطلب من شأنه أن يبالغ فيه وفي وصفهم بذلك إشعار بحسن عقيدتهم واجتنابهم عن المعاصي..تفسير الآية رقم (8): {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)}{وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ} أي كائنين على حب الطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه فهو من باب التتميم ويجاوبه من القرآن قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وروى عن ابن عباس ومجاهد أو على حب الإطعام بأن يكون ذلك بطيب نفس وعدم تكلف وإليه ذهب الحسن بن الفضل وهو حسن أو كائنين على حب الله تعالى أو إطعامًا كائنًا على حبه تعالى ولوجهه سبحانه وابتغاء مرضاته عز وجل وإليه ذهب الفضيل بن عياض وأبو سليمان الداراني فعلى حبه من باب التكميل وزيفه بعضهم وقال الأول هو الوجه ويجاوبه القرآن على أن في قوله تعالى: {لِوَجْهِ الله} [الإنسان: 9] بَعْدَ غنية عن قوله سبحانه: {نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} وفيه نظر بل لعله الأنسب لذاك وذكر الطعام مع أن الإطعام يغني عنه لتعيين مرجع الضمير على الأول ولأن الطعام كالعلم فيما فيه قوام البدن واستقامة البنية وبقاء النفس ففي التصريح به تأكيد لفخامة فعلهم على الأخيرين ويجوز أن يعتبر على الأول أيضًا ثم الظاهر أن المراد بإطعام الطعام حقيقته وقيل هو كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمواساة معهم بأي وجه كان وإن لم يك ذلك بالطعام بعينه فكأنه ينفعون بوجوه المنافع {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} قيل أي أسير كان فعن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول أحسن إليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه وقال قتادة كان أسيرهم يومئذ المشرك وأخوك المسلم أحق أن تطعمه وأخرج ابن عساكر عن مجاهد أنه قال لما صدر النبي صلى الله عليه وسلم بالأسارى من بدر انفق سبعة من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن وسعد وأبو عبيدة بن الجراح على أسارى مشركي بدر فقالت الأنصار قتلناهم في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم وتعينونهم بالنفقة فأنزل الله تعالى فيهم عشرة آية أن الأبرار يشربون إلى قوله تعالى: {عينًا فيها تسمى سلسبيلًا} [الإنسان: 5-18] ففيه دليل على أن إطعام الأسارى وإن كانوا من أهل الشرك حسن ويرجى ثوابه والخبر الأول قال ابن حجر لم يذكره من يعتمد عليه من أهل الحديث وقال ابن العراقي لم أقف عليه والخبر الثاني لم أره لفرد غير ابن عساكر ولا وثوق لي بصحته وهو يقتضي مدنية هذه الآيات وقد علمت الخلاف في ذلك نعم عند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات وقال ابن جبير وعطاء هو الأسير من أهل القبلة قال الطيبي هذا إنما يستقيم إذا اتفق الإطعام في دار الحرب من المسلم لأسير في أيديهم وقيل هو الأسير المسلم ترك في بلاد الكفار رهينة وخرج لطلب الفداء وروى محيي السنة عن مجاهد وابن جبير وعطاء أنهم قالوا هو المسجون من أهل القبلة وفيه دليل على أن إطعام أهل الحبوس المسلمين حسن وقد يقال لا يحسن إطعام المحبوس لوفاء دين يقدر على وفائه إنما امتنع عنه تعنتًا ولغرض من الأغراض النفسانية وعن أبي سعيد الخدري هو المملوك والمسجون وتسمية المسجون أسيرًا مجاز لمنعه عن الخروج وأما تسمية المملوك فمجاز أيضًا لكن قيل باعتبار ما كان وقيل باعتبار شبهه به في تقييده بأسار الأمر وعدم تمكنه من فعل ما يهوى وعد الغريم أسيرًا لقوله صلى الله عليه وسلم «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك» وهو على التشبيه البليغ إلا أنه قيل في هذا الخبر ما قيل في الخبر الأول وقال أبو حمزة اليماني هي الزوجة وضعفه هاهنا ظاهر.
|