الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل
.تفسير الآية رقم (93): القول في تأويل قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [93].{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} قال الزمخشري: المعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم، لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه، فتبعوه على تحريمه.تنبيهات:الأول: روي، فيما حرمه إسرائيل على نفسه، أنه لحوم الإبل وألبانها، رواه الإمام أحمد في قصة، والترمذي وقال: حسن غريب. وروي عن ابن عباس والضحاك والسدي وغيرهم موقوفاً عليهم أنه العروق. قالوا: كان يعتريه عرق النسا بالليل فيزعجه، فنذر لئن عوفي لا يأكل عرقاً، ولا يأكل ولد ماله عرق، فاتبعه بنوه في إخراج العروق من اللحم استناناً به، واقتداء بطريقه، قال الرازي: ونقل القفال رحمه الله عن ترجمة التوراة أن يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان، بعث بُرُداً إلى أخيه عيسو إلى أرض ساعير، فانصرف الرسول إليه وقال: إن عيسو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل، فذعر يعقوب وحزن جدًّا، فصلى ودعا، وقدم هدايا لأخيه، وذكر القصة، إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل، فدنا ذلك الرجل، ووضع إصبعه على موضع عرق النسا، فخدرت تلك العصبة وجفت، فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق- انتهى- قلت: والقصة مسوقة في سفر التكوين من التوراة في الأصحاح الثاني والثلاثين.الثاني: التحريم المذكور، على الرواية الأولى، أعني لحوم الإبل وألبانها، فكان تبرراً وتعبداً وتزهداً وقهراً للنفس، طلباً لمرضاة الحق تعالى. وعلى الثانية: فإما وفاء بالنذر وإما تداوياً، وإما لكونه يجد نفسه تعافه- والله أعلم- فالتحريم بمعنى الامتناع.الثالث: قال الزمخشري: الآية رد على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} إلى قوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146]. وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه، وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم. فقالوا: لسنا بأول من حرمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم، كانت محرمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جراً. إلى أن انتهى التحريم إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا. وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصد عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل وما عدد من مساوئهم- انتهى-.{قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: في دعواكم أنه تحريم قديم- وفي أمره صلى الله عليه وسلم بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم بما هو ناطق به، من أن تحريم ما حرم عليهم حادث لا قديم، كما يدعونه- أعظم برهان على صدقه وكذبهم إذ لم يجسروا على إخراج التوراة. فبهتوا وانقلبوا صاغرين..تفسير الآية رقم (94): القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [94].{فَمَنِ افْتَرَىَ} أي: تعمد: {عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ} أي: في أمر المطاعم وغيرها: {مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لتعرضهم إلى أن يهتكهم تعالى ويعذبهم..تفسير الآية رقم (95): القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [95].{قُلْ صَدَقَ اللّهُ} تعريض بكذبهم، أي: ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون: {فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أي: ملة الإسلام التي عليها محمد صلى الله عليه وسلم، ومن آمن معه، والتي هي في الأصل ملة إبراهيم عليه السلام، حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه: {حَنِيفاً} أي: مائلاً عن الأديان الزائفة: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تعريض بما في اليهودية والنصرانية من شرك إثبات الولد أو إلهية عيسى، فكيف يزعمون أنهم على ملته، وما كان يدعو إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى وهو الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم؟!..تفسير الآية رقم (96): القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [96].{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} أي: لنسكهم وعباداتهم: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} أي: للبيت الذي ببكة، أي: فيها. وفي ترك الموصوف من التفخيم ما لا يخفى. وبكة لغة في مكة، فإن العرب تعاقب بين الباء والميم كما في قولهم: ضربة لازب ولازم، والنميط والنبيط في اسم موضع بالدهناء، وقولهم أمر راتب وراتم وأغبطت الحمى وأغمطت. وقيل: مكة البلد، وبكة موضع المسجد، سميت بذلك: لدقها أعناق الجبابرة، فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى، أو لازدحام الناس بها من بكَّهُ إذا فرقه ووضعه وإذا زاحمه، كما أن مكة من مكّهُ: أهلكه ونقصه، لأنها تهلك من ظلم فيها وألحد، وتنقص الذنوب أو تنفيها كما في القاموس- وقد ذهب بعضهم إلى أن مكة هي ميشا أو ماسا المذكورة في التوراة، وآخر إلى أنه مأخوذ من اسم واحد من أولاد إسماعيل وهو مسّا {مُبَارَكاً} أي: كثير الخير، لما يحصل لمن حجه واعتمره واعتكف عنده وطاف حوله، من الثواب وتكفير الذنوب: {وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} لأنه قبلتهم ومتعبدهم.تنبيه:ذكر بعض المفسرين أن المراد بالأولية كونه أولاً في الوضع والبناء، ورووا في ذلك آثاراً، منها أنه تعالى خلق هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً من الأرضين، ومنها: أنه تعالى بعث ملائكة لبناء بيت في الأرض على مثال البيت المعمور، وذلك قبل خلق آدم، ومنها: أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق السماء والأرض، وأنه خلق قبل الأرض بألفي عام. وليس في هذه الآثار خبر صحيح يعول عليه. والمتعين أن المراد: أول بيت وضع مسجداً، كما بينته رواية ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه في هذه الآية قال: كانت البيوت قبله، ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله تعالى. وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي: مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام» قلت: ثم أي:؟ قال: «المسجد الأقصى» قلت: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعدُ فصلّه، فإن الفضل فيه».قال ابن القيم في زاد المعاد: وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به، فقال: معلوم أن سليمان بن داود الذي بنى المسجد الأقصى. وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام. وهذا من جهل القائل، فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وسلم، بعد بناء إبراهيم عليه السلام بهذا المقدار. انتهى..تفسير الآية رقم (97): القول في تأويل قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [97].{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} وهو الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت. قال ابن كثير: وقد كان ملتصقاً بجدار البيت، حتى أخره عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق، بحيث يتمكن الطواف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده، حيث قال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125]، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة. قال المفسرين: ثمرة الآية: الترغيب في زيارة البعض الحرم وفعل الطاعات فيه، لأنه تعالى وصفة بالبركة والهدى وجعل فيه آيات بينات.لطيفة:مقام إبراهيم مبتدأ حذف خبره، أي: منها مقام إبراهيم، أو بدل من آيات، بدل البعض من الكل، أو عطف بيان، إما وحده باعتبار كونه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى، وعلى نبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً} أو باعتبار اشتماله على آيات كثيرة. قالوا: فإن كل واحد من أثر قدميه في صخرة صماء، وغوصه فيها إلى الكعبين، وإلانة بعض الصخور دون بعض، وإبقاءه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام، وحفظه، مع كثرة الأعداء، ألوف السنين، آية مستقلة. ويؤيده قراءة {آية بينة} على التوحيد، وإما بما يفهم من قوله عز وجل:{وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} فإنه وإن كان جملة مستأنفة ابتدائية أو شرطية، لكنها في قوة أن يقال: وأمن من دخله فتكون بحسب المعنى والمآل، معطوفة على مقام إبراهيم، ولا يخفى أن الاثنين نوع من الجمع فيكتفى بذلك، أو يحمل على أنه ذكر من تلك الآيات اثنتان، وطوى ذكر ما عداهما دلالة على كثرتها- أفاده أبو السعود-. قال المهايمي: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} رمي الطير أصحاب الفيل بحجارة من سجيل، وتعجيل عقوبة من عتا فيه، وإجابة دعاء من دعاء تحت ميزابه، وإذعان النفوس لتوقيره من غير زاجر، ومن أعظمها: النازل منزلة الكل، مقام إبراهيم، الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت، كلما علا الجدار ارتفع الحجر في الهواء، ثم لين، فغرقت فيه قدماه، كأنهما في طين، فبقي أثره إلى يوم القيامة. ومن آياته: أن من دخله كان آمناً من نهب العرب وقتالهم، وقد أمن صيده وأشجاره. قال أبو السعود: ومعنى أمن داخله: أمنه من التعرض له كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]، وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} [إبراهيم: 35]، وكان الرجل لو جرَّ كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُطلب. وعن عمر رضي الله عنه: لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى خرج عنه.تنبيه:ما أفادته الآية من إثبات الأمان لداخله إنما هو بتحريمه الشرعيّ الذي وردت به الآيات، وأوضحته الأحاديث والآثار. ففي الصحيحين، واللفظ لمسلم، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا». وقال يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته، إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها». فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: «إلا الإذخر». ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه، ولهما، واللفظ مسلم أيضاً، عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد، وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له: إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب». فقيل لأبي شريح: ما قال لك؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح. إن الحرم لا يعيذ عاصياً، ولا فارّاً بدمٍ، ولا فاراً بخربةٍ.قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: قوله فلا يحل لأحد أن يسفك بها دماً، هذا التحريم لسفك الدم المختص بها، وهو الذي يباح في غيرها، ويحرم فيها، لكونها حرماً، كما أن تحريم عضد الشجرة بها واختلاء خلائها والتقاط لقطتها، هو أمر مختص بها، وهو مباح في غيرها، إذ الجميع في كلام واحد، ونظام واحد، وإلا بطلت فائدة التخصيص، وهذا أنواع:أحدها: وهو الذي ساقه أبو شريح العدوي لأجله: أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تقاتل، لاسيما إن كان لها تأويل. كما امتنع أهل مكة من مبايعة يزيد، وبايعوا ابن الزبير. فلم يكن قتالهم ونصب المنجنيق عليهم وإحلال حرم الله جائزاً بالنص والإجماع، وإنما خالف في ذلك عَمْرو بن سعيد الفاسق وشيعته، وعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه وهواه فقال: إن الحرم لا يعيذ عاصياً. فيقال له: هو لا يعيذ عاصياً من عذاب الله، ولو لم يُعذّه من سفك دمه لم يكن حرماً بالنسبة إلى الآدميين، وكان حرماً بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم، وهو لم يزل يعيذ العصاة من عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه، وقام الإسلام على ذلك، وإنما لم يعد مقيس بن صُبابة وابن خطل ومن سمي معهما؛ لأنه في تلك الساعة لم يكن حرماً بل حلاً، فلما انقضت ساعة الحرب عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السموات والأرض. وكانت العرب في جاهليتها، يرى الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم فلا يهيجه، وكان ذلك بينهم خاصة الحرم الذي صار بها حرماً. ثم جاء الإسلام فأكد ذلك وقواه، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن من الأمة من يتأسى به في إحلاله بالقتال والقتل، فقطع الإلحاق وقال لأصحابه: «فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك»، وعلى هذا فمن أتى حداً أو قصاصاً خارج الحرم يوجب القتل، ثم لجأ إليه، لم يجز إقامته عليه فيه. وذكر الإمام أحمد عن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. وذكر عن عبد الله بن عُمَر أنه قال: لو وجدت فيه قاتل عمر ما بدهته. وعن ابن عباس أنه قال: لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه، وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم، بل لا يحفظ عن تابعيّ ولا صحابيّ خلافه. وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله ومن وافقه من أهل العراق، والإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث. وذهب مالك والشافعي إلى أنه يستوفي منه في الحرم كما يستوفي منه في الحل، وهو اختيار ابن المنذر، واحتج لهذا القول بعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل مكان وزمان، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، وبما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارّاً بدم ولا بخربة». وبأنه لو كان الحدود والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم، ولم يمنعه من إقامته عليه، وبأنه لو أتى فيه بما يوجب حداً أو قصاصاً لم يعذه الحرم ولم يمنع من إقامته، فكذلك إذا أتاه خارجه ثم لجأ إليه، إذ كونه حرماً بالنسبة إلى عصمته لا يختلف بين الأمرين، وبأنه حيوان أبيح قتله لفساده، فلم يفترق الحال بين قتله لاجئاً إلى الحرم وبين كونه قد أوجب ما أبيح قتله فيه، كالحية والحدأة والكلب العقور، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم». فنبه بقتلهن في الحل والحرم على العلة- وهي فسقهن- ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعاً من قتلهن، وكذلك فاسق بني آدم الذي قد استوجب القتل. قال الأولون: ليس في هذا ما يعارض ما ذكرنا من الأدلة، ولاسيما قوله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخلف في خبره تعالى، وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه، وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]. وقوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57].وما عدا هذا من الأقوال الباطلة فلا يلتفت إليه كقول بعضهم: من دخله كان آمناً من النار، وقول بعضهم: كان آمناً من الموت على غير الإسلام، ونحو ذلك، فكم ممن دخله وهو في قعر الجحيم. وأما العمومات الدالة على استيفاء الحدود القصاص في كل زمان ومكان فيقال أولاً: لا تعرض في تلك العمومات لزمان الاستيفاء ولا مكانه، كما لا تعرض فيها لشروطه وعدم موانعه، فإن اللفظ لا يدل عليها بوضعه، ولا بتضمنه فهو مطلق بالنسبة إليها، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع لم يقل إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام، فلا يقول محصِّلٌ إن قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]. مخصوص بالمنكوحة في عدتها أو بغير إذن وليها، أو بغير شهود، فهكذا النصوص العامة في استيفاء الحدود والقصاص لا تعرض فيها لزمنه ولا مكانه ولا شرطه ولا مانعه، ولو قدر تناول اللفظ لذلك لوجب تخصيصه بالأدلة الدالة على المنع، لئلا يبطل موجبها، ووجب حمل اللفظ العام على ما عداها كسائر نظائره، وإذا خصصتم تلك العمومات بالحامل والمرضع والمريض الذي يرجى برؤه، والحال المحرّمة للاستيفاء كشدة المرض أو البرد أوالحر، فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة؟ وإن قلتم: ليس ذلك تخصيصاً بل تقييداً لمطلقها كلنا لكم هذا الصاع سواء بسواء. وأما قتل ابن خطل فقد تقدم أنه كان في وقت الحل، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قطع الإلحاق، ونص على أن ذلك من خصائصه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإنما أحلت لي ساعة من نهار»، صريح في أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم في تلك الساعة خاصة، إذ لو كان حلالاً في كل وقت، لم يختص بتلك الساعة، وهذا صريح في أن الدم الحلال في غيرها حرام فيها، فيما عدا تلك الساعة. وأما قوله: الحرم لا يعيذ عاصياً، فهو من كلام الفاسق عَمْرو بن سعيد الأشدق، يرد به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين روى له أبو شريح الكعبي هذا الحديث، كما جاء مبيناً في الصحيح، فكيف يقدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأما قولكم: لو كان الحد والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم منه، فهذه المسألة فيها قولان للعلماء: وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد رحمه الله، فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها، ومن فرق قال: سفك الدم إما ينصرف إلى القتل ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريمه ما دونه، لأن حرمة النفس أعظم، والانتهاك بالقتل أشد، قالوا: ولأن الحد بالجلد أو القطع يجري مجرى التأديب، فلم يمنع منه، كتأديب السيد عبده. وظاهر هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس ما دونها في ذلك. قال أبو بكر: هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمه: أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل، قال: والعمل على أن كل جانٍ دخل الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه، قالوا: وحينئذ فنجيبكم بالجواب المركب، وهو أنه إن كان بين النفس وما دونها في ذلك فرق مؤثر بطل الإلزام، وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر سوينا بينهما في الحكم وبطل الاعتراض، فتحقق بطلانه على التقديرين. قالوا: وأما قولكم إن الحرم لا يعيذ من هتك فيه الحرمة إذ أتى بما يوجب الحد، فكذلك اللاجئ إليه، فهو جمع بين ما فرق الله ورسوله والصحابة بينهما. فروى الإمام أحمد، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: من سرق أو قتل في الحد ثم دخل الحرم فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى، حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه الحد. وإن سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم. وذكر الأثرم عن ابن عباس أيضاً: من أحدث حدثاً في الحرم، أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء، وقد أمر الله سبحانه بقتل من قاتل في الحرم فقال: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ}. والفرق بين اللاجئ والمتهتك فيه من وجوه:أحدها: أن الجاني فيه هاتك لحرمته بإقدامه على الجناية فيه، بخلاف من جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه معظّم لحرمته مستشعر بها بالتجائه إليه، فقياس أحدهما على الآخر باطل.الثاني: أن الجاني فيه بمنزلة المفسد الجاني على بساط الملك في داره وحرمه، ومن جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه بمنزلة من جنى خارج بساط الملك وحرمه ثم دخل إلى حرمه مستجيراً.الثالث: أن الجاني في الحرم قد هتك حرمة الله سبحانه وحرمة بيته وحرمه، فهو هاتك لحرمتين بخلاف غيره.الرابع: أنه لو لم يقم الحد على الجناة في الحرم لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله، فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، ولو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الجرائم في الحرم لتعطلت حدود الله وعم الضرر للحرم وأهله.والخامس: أن اللاجئ إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل اللاجئ إلى بيت الرب تعالى المتعلق بأستاره، فلا يناسب حاله ولا حال بيته وحرمه أن يهاج، بخلاف المقدم على انتهاك حرمته.فظهر سر الفرق، وتبين أن ما قاله ابن عباس هو محض الفقه. وأما قولكم: إنه حيوان مفسد فأبيح قتله في الحل والحرم كالكلب العقور فلا يصح القياس، فإن الكلب العقور طبعه الأذى، فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله. وأما الآدمي فالأصل فيه الحرمة وحرمته عظيمة، فإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات، فإن الحرم يعصمها، وأيضاً فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور والحية والحدأة كحاجة أهل الحل سواء، فلو أعاذها الحرم لعظم عليهم الضرر بها. انتهى من الجزء الثاني من صفحة 177 إلى صفحة 180.ولما ذكر تعالى فضائل البيت ومناقبه، أردفه بذكر إيجاب الحج فقال: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} اللام في البيت للعهد. وحجه: قصده للزيارة بالنسك المعروف. وكسر الحاء وفتحها لغتان، وهما قراءتان سبعيتان، وفي الآية مباحث:الأول: في إعرابها قال أبو السعود في صدر الآية: جملة من مبتدأ هو: {حِجُّ الْبَيْتِ} وخبر هو: {لِلّهِ} وقوله تعالى: {عَلَى النَّاسِ} متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، أو بمحذوف هو حال من الضمير المستكن في الجار، والعامل فيه ذلك الاستقرار، ويجوز أن يكون: {عَلَى النَّاسِ} هو الخبر، و{لله} متعلق بما تعلق به الخبر. ثم قال في قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} في محل الخبر على أنه بدل من: {النَّاسِ} بدل البعض من الكل مخصص لعمومه، فالضمير العائد إلى المبدل منه محذوف، أي: من استطاع منهم، وقيل: بدل الكل، على أن المراد بالناس هو البعض المستطيع، فلا حاجة إلى الضمير. وقيل: في محل الرفع، على أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هم من استطاع. وقيل: في حيز النصب بتقدير أعني.الثاني: هذه الآية هي آية وجوب الحج عند الجمهور. وقيل: بل هي قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، والأول أظهر. وفي فتح البيان: اللام في قوله: {لله} هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام، ثم زاد هذا المعنى تأكيداً حرف: {عَلَى} فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب. كما إذا قال القائل: لفلان عليّ كذا، فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه، وتعظيماً لحرمته. وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعاً ضرورياً.الثالث: يجب الحج على المكلف في العمر مرة واحدة، بالنص والإجماع، روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس إنه فرض الله عليكم الحج فحجوا». فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت. حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم». ثم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه». وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج»، فقام الأقرع بن حابس فقال: يا رسول الله أفي كل عام؟ فقال: «لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها. الحج مرة. فمن زاد فهو تطوع».الرابع: استطاعة السبيل عبارة عن إمكان الوصول إليه. قال ابن المنذر: اختلف العلماء في قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فقالت طائفة: الآية على العموم، إذ لا نعلم خبراً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا إجماعاً لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضاً، فعلى كل مستطيع للحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة الحج، على ظاهر الآية. قال: وروينا عن عِكْرِمَة أنه قال: الاستطاعة: الصحة. وقال الضحاك: إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه. فقال له قائل: أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ قال: لا، بل ينطلق إليه ولو حبواً، قال: فكذلك يجب عليه حج البيت. وقال مالك: الاستطاعة على إطاقة الناس، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي، وآخر يقدر على المشي على رجليه. وقالت طائفة: الاستطاعة: الزاد والراحلة، كذلك قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد بن حنبل، واحتجوا بحديث ابن عمر أن رجلاً قال: يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: «الزاد والراحلة»- رواه الترمذي- وفي إسناده الخوزي فيه مقال. قال ابن كثير: لكن قد تابعه غيره. وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث. ورواه الحاكم من حديث قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله عز وجل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}. فقيل: ما السبيل؟ قال: «الزاد والراحلة»، ثم قال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.الخامس: قال الإمام ابن القيم الدمشقي رضي الله عنه في زاد المعاد في سياق هديه صلى الله عليه وسلم في حجته: لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة، وهي حجة الوداع، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر، واختلف هل حج قبل الهجرة؟.وروى الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: حج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعد ما هاجر، معها عَمْرة. قال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث سفيان. قال: وسألت محمداً- يعني البخاري- عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري. وفي رواية: لا يعد هذا الحديث محفوظاً. ولما نزل فرض الحج بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير، فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر. وأما قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، فإنها، وإن نزلت سنة ست عام الحديبية، فليس فيها فريضة الحج، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء. فإن قيل: فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة؟ قيل: لأن صدر سورة آل عِمْرَان نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصالحهم على أداء الجزية والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع، وفيها نزل صدر سورة آل عِمْرَان، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة. ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم لما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية. ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان في سنة تسع. وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج، وأردفه بعلي رضي الله عنه، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف والله أعلم. وقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} إما مستأنف لوعيد من كفر به تعالى، لا تعلق له بما قبله، وإما أنه متعلق به ومنتظم معه، وهو أظهر وأبلغ. والكفر، على هذا، إما بمعنى جحد فريضة الحج، أو بمعنى ترك ما تقدم الأمر به. ونظيره في السنة ما رواه النسائي والترمذي عن بريدة مرفوعاً: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر». وعن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة- أخرجه الترمذي- ولأبي داود عن جابر مرفوعاً: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة» ولفظ مسلم: «بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة». وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً، وذلك أن الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}». قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال. وقد روى الحافظ أبو بكر الإسماعيلي عن عُمَر بن الخطاب قال: من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه مات يهودياً أو نصرانيا. قال ابن كثير: إسناده صحيح إلى عمر رضي الله عنه: وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال: قال عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث رجلاً إلى هذه الأمصار، فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين. قال السيوطي في الإكليل: وقد استدل بظاهر الآية ابن حبيب على أن من ترك الحج، وإن لم ينكره، كفر. ثم قال: وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر: من كان يجد وهو موسر صحيح ولم يحج، كان سيماه بين عينيه كافر، ثم تلا هذه الآية.تنبيه:هذه الآية الكريمة حازت من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه، فمنها الإتيان باللام وعلى في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}. يعني: أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته، ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}، وفيه ضربان من التأكيد:أحدهما: أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له.والثاني: أن الإيضاح بعد الإبهام، والتفصل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين.ومنها: قوله: {وَمَن كَفَرَ} مكان من لم يحج تغليظاً على تارك الحج.ومنها: ذكر الاستغناء عنه. وذلك مما يد على المقت والسخط والخذلان.ومنها: قوله: {عَنِ الْعَالَمِينَ}، ولم يقل: عنه. وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه- أشار لذلك الزمخشري- ثم عنف تعالى كفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق بقوله:
|