.فصل في ثياب أهل الجنة وحللهم:
وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«من يدخل الْجَنَّة ينعم ولا يبأس، لا تبلى، ثيابه، ولا يفنى شبابه، في الْجَنَّة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر». رواه مسلم.وَعَنْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ ضَوْءُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالزُّمْرَةُ الثَّانِيَة عَلَى لَوْنِ أَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ واحد مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ مِنَ الْحُورِ الْعَيْنِ، عَلَى كُلّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً، يرى مخ سوقهما من وراء لحومهما وحللهما كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء». رواه الطبراني بإسناد صحيح، والبيهقي بإسناد حسن، وتقدم حديث أَبِي هُرَيْرَةِ المتفق عَلَيْهِ بنحوه.وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَّكِئُ فِي الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ، ثُمَّ تَأْتِيهِ امْرَأَة فَتَضْرِبُ مَنْكِبَهُ فَيَنْظُرُ وَجْهَهُ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنْ الْمِرْآةِ، وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَيَرُدُّ السَّلامَ وَيَسْأَلُهَا مَنْ أَنْتَ؟ فَتَقُولُ: أَنَا مِنْ الْمَزِيدِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ ثَوْبًا أَدْنَاهَا مِثْلُ النُّعْمَانِ مِنْ طُوبَى، فَيَنْفُذُهَا بَصَرُهُ حَتَّى يَرَى مُخَّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، وَإِنَّ عَلَيْهَا مِنْ التِّيجَانِ إِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ مِنْهَا لَتُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ». رواه أَحَمَد من طَرِيق ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم، وابن حبان في صحيحه من طَرِيق عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم.وروى الترمذي منه ذكر التيجان فقط من رواية رشدين عن عمرو بن الحارث، وَقَالَ: لا نعرفه إِلا من حديث رشدين.وعن شريح بن عبيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال كعب: لو أن ثوبًا من ثياب أَهْل الْجَنَّة لبس اليوم في الدُّنْيَا لصعق من ينظر إليه، وما حملته أبصارهم. رواه ابن أبي الدُّنْيَا. ويأتي حديث أنس المرفوع:
«ولو اطلعت امرأة من نساء أَهْل الْجَنَّة إلى الأَرْض لملأت ما بينهما ريحًا، ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها- يعني خمارها- على رأسها خَيْر من الدُّنْيَا وما فيها». رواه البخاري، ومسلم.
بِقَدْرِ الْكَدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِي ** وَمَنْ طَلَبَ الْعُلَى سَهَرَ اللَّيَالِيوَمَنْ طَلَبَ الْعُلا مِنْ غَيْرِ كَدٍّ ** أَضَاعَ الْعُمْرَ فِي طَلَبِ الْمَحَالِتَرُومَ الْخُلْدَ ثُمَّ تَنَامُ عَنْهَا ** يَغُوصُ الْبَحْرَ مَنْ طَلَبَ اللآليوفي الصحيحين من حديث عَبْد اللهِ بن قيس قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ لِلْعَبْدِ المُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَة طُولُهَا سِتُّونَ مِيلاً لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهمْ لا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا». وأخَرَجَ ابن أبي الدُّنْيَا عن سعيد بن جبير: إن شهوته لتجري في جسده سبعين عامًا يجد اللذة ولا يلحقهم بذَلِكَ جنابة فيحتاجون إلى التطهير ولا ضعف ولا انحلال قوة، وطؤهم وطء التذاذ، نعيم لا آفة فيه بوجه من الوجوه. وأخَرَجَ أبو نعيم قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«يستطع نور في الْجَنَّة فيرفعون رؤوسهم فإذا هُوَ من ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها». وإلى هَذَا أشار الشاعر:
فَلَوْ أَنَّ حُورًا فِي الدَّيَاجِي تَبَسَّمَتْ ** تَجَلَّى دُجَى الظَّلْمَاءِ فِي الأَرْضِ نُورُهَاوَلَوْ مُزِجَ الْمَاءُ الأُجَاجُ بِرِيقِهَا ** لأَصْبَحَ عَذْبًا سَلْسَبِيلاً بِحُورُهَاآخر:
يَا عَاشِقًا لِلْغَوَانِي مُغْرَمًا بِهَوَى ** دَارِ الْغُرُورِ وَعَيْشٍ شِيبَ بِالْكَدَرِإِنَّ الْغَوَانِي الْحِسَانَ الْحُورَ مَسْكَنُهَا ** دَارُ السُّرُورِ عَلَى فُرشٍ عَلَى السُّرُرفِي سُنْدُس الْفُرْشِ أَقْمَارٌ عَلَى سُرُرٍ ** مِن الْيَواقِيتِ فِي قَصْرٍ مِن الدُّرَرِيُشَاهِدُ الْمُخَّ فِي السَّاقَينِ نَاظِرُهَا ** مِنْ فَوْقِ سَبْعِينَ مَلْبُوسًا مِن الْحِبَرِقَدْ طِلْنَّ شَوْقًا إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ كَمَا ** يَشْتَاقُ لِلْغَائِبِ الْمَحْبُوبِ فِي السَّفَراللَّهُمَّ قَوِّي إِيمَانِنَا بِكَ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوب ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَأَمِّنَّا مَنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللهُ أَعْظَمَ مِمَّا جَالَ فِي الْفِكَر ** وَحُكْمُهُ فِي الْبَرَايَا حُكْمُ مُقْتَدِرِمَوْلَىً عَظِيمٌ حَكِيمٌ وَاحِدٌ صَمَدٌ ** حَيُّ قَدِ يُرْمُرِ يدُ فَاطِرَ الْفِطَرِيَا رَبُّ يَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ صَلِّ عَلَى ** رَسُولِكَ الْمُجْتَبِي مِنْ أَطْهَرِ الْبَشَرِوَآلِهِ وَالصِّحَابِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ ** أَهْلِ التُّقَى وَالْوَفَا وَالنُّصْحِ لِلْبَشَرِأَشْكُو إليْكَ أُمُورًا أَنْتَ تَعْلَمُهَا ** فُتُورَ عَزْمِي وَمَا فَرَّطْتُ فِي عُمُرِيوَفَرْطَ مَيْلِي إِلَى الدُّنْيَا وَقَدْ حَسَرَتْ ** عَنْ سَاعِدِ الْغَدْرِ فِي الآصَالِ وَالْبُكَريَا رَبِّ زِدْنِي تَوْفِيقًا وَمَعْرِفَةً ** وَحُسْنَ عَاقِبَةٍ فِي الْوِرْدِ وَالصَّدَرِقَدْ أَصْبَحَ الْخَلْقُ فِي خَوْضٍ وَفِي ذُعُرٍ ** وَزَوْرِ لَهْوٍ وَهُمْ فِي أَعْظَمِ الْخَطَرِوَلِلْقِيَامَةِ أَشْرَاطٌ وَقَدْ ظَهَرَتْ ** بَعْضُ الْعَلامَاتِ وَالْبَاقِي عَلَى الأَثَرِقَلَّ الْوَفَاءُ فَلا عَهْدٌ وَلا ذِمَمُ ** وَاسْتَحْكَمَ الْجَهْلُ فِي الْبَادِينَ وَالْحَضَرِدَعَوْا لأَدْيَانِهِمْ بِالْبَخْسِ مِنْ سُحْتٍ ** وَأَظْهَرُوا الْفِسْقَ وَالْعُدْوَانَ بِالأَشَرِوَجَاهُروا بِالْمَعَاصِي وَارْتَضَوْا بِدَعًا ** عَمَّتْ فَصَاحِبُهَا يَمْشِي بِلا حَذَرِوَطَالِبُ الْحَقِّ بَيْنَ النَّاسِ مُسْتَتِرٌ ** وَصَاحِبُ الإِفْكِ فِيهِمْ غَيْرُ مُسْتَتِرِوَالْوَزْنُ بِالْوَيْلِ وَالأَهْوَاءِ مُعْتَبَرٌ ** وَالْوَزْنُ بِالْحَقِّ فِيهِمْ غَيْرُ مُعْتَبَرِوَقَدْ بَدَا النَّقْضُ بِالإِسْلامِ مُشْتَهِرًا ** وَبُدِّلَتْ صَفْوَةُ الْخَيْرَاتِ بِالْكَدَرِفَسَوْفَ يَخْرُجُ دَجَّالُ الضَّلالَةِ فِي ** هَرَجٍ وَقُحْطٍ كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِوَيَدَّعِي أَنَّهُ رَبُّ الْعِبَادِ وَهَلْ ** تَخْفَى صِفَاتُ كَذُوبٍ ظَاهِرِ الْعَوَرفَنَارُهُ جَنَّةُ طُوبَى لِدَاخِلِهَا ** وَزُورُ جَنَّتِهِ نَارٌ مِنَ السُّعُرِشَهْرٌ وَعَشْرٌ لَيَإلى طُولَ مُدَّتِهِ ** لَكِنَّهُ عَجَبٌ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِفَيَبْعَثُ اللهُ عِيسَى نَاصِرًا حَكَمًا ** عَدْلاً وَيَعْضِدُهُ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِفَيَتْبَعُ الْكَاذِبَ الْبَاغِي وَيَقْتُلُهُ ** وَيَمْحَقُ اللهُ أَهْلَ الْبَغْي وَالضَّرَرِوَقَامَ عِيسَى يُقِيمُ الْحَقَّ مُتَّبِعًا ** شَرِيعَةَ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرِفِي أَرْبَعِينَ مِنَ الأَعْوَامِ مُخْصِبَةٌ ** فَيَكْسِبُ الْمَالَ فِيهَا كُلُّ مُفْتَقِرِحَتَّى إِذَا أَنْفَذَ اللهُ الْقَضَاءَ دَعَى ** عِيسَى فَأَفْنَاهُمُ الْمَوْلَى عَلَى قَدْرِوَعَادَ لِلنَّاسِ عِيدُ الْخَيْرِ مُكْتَمِلاً ** حَتَّى يَتِمَّ لِعِيسَى آخِرُ الْعُمُرِوَالشَّمْسُ حِينَ تُرَى فِي الْغَرْبِ طَالِعَةً ** طُلُوعُهَا آيَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْكِبَرِفَعِنْدَ ذَلِكَ لا إِيمَانَ يُقْبَلُ مِنْ ** أَهْلِ الْجُحُودِ وَلا عُذْرٌ لِمُعْتَذِروَدَابَةٌ فِي وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ لَهَا ** وَسْمٌ مِنْ النُّورِ وَالْكُفَّارِ بِالْقَتَرِوَخَلْفُهَا الْفِتْنَةُ الدَّجَالُ قَبْلَهُمَا ** أَوْ بَعْدَ قَدْ وَرَدَ الْقَوْلانِ فِي الْخَبَرِوَكَمْ خَرَابٍ وَكَمْ خَسْفٍ وَزَلْزَلَةٍ ** وَفِيحِ نَارِ وَآيَاتٍ مِنَ النُّذُرِوَنَفْخَةٌ تُذْهِبُ الأَرْوَاحَ شِدَّتُهَا ** إِلا الَّذِينَ عَنُوا فِي سُورَةِ الزُّمَرِوَأَرْبَعُونَ مِنَ الأَعْوَامِ قَدْ حُسِبْتَ ** لِكَيْ تُبَثَّ بِهَا الأَرْوَاحُ فِي الصُّوَرِقَامُوا حُفَاةً عُرَاةٌ مِثْلَ مَا خُلِّقُوا ** مِنْ هَوْلِ مَا عَايَنُوا سَكْرَى بِلا سُكُرِقَوْمٌ مُشَاةٌ وَرُكْبَانٌ عَلَى نُجُبِ ** عَلَيْهِمَا حُلَلٍ أَبْهَى مِنَ الزَّهْرِوَيُسْحَبُ الظَّالِمُونَ الْكَافِرُونَ عَلَى ** وُجُوهِهِمْ وَتُحِيطُ النَّارُ بِالشَّرَرِوَالشَّمْسُ قَدْ أُدْنِيَتْ وَالنَّاسُ فِي عَرَقٍ ** وَفِي زِحَامٍ وَفِي كَرْبٍ وَفِي حَصَرِوَالأَرْضُ قَدْ بُدِّلَتْ بَيْضَاءَ لَيْسَ لَهَا ** مَخْفَى وَلا مَلْجَأٌ يَبْدُو لِمُسْتَتِرطَالَ الْوُقُوفُ فَجَاءُوا آدَمًا فَرَجُوا ** شَفَاعَةً مِنْ أَبِيهِمْ أَوَّلُ الْبَشَرِفَرَدَّ ذَاكَ إِلَى نُوحٍ فَرَدَّهُمُوا ** إِلَى الْخَلِيلِ فَأَبْدَى وَصْفَ مُفْتَقِرِإِلَى الْكَلِيمِ إِلَى عِيسَى فَرَدَّهُمُوا ** إِلَى الْحَبِيبِ فَلَبَّاهَا بِلا حَصَرِفَيَسْأَلُ الْمُصْطَفَى فَصْلَ الْقَضَاءِ لَهُمْ ** لِيَسْتَرِيحُوا مِنَ الأَهْوَالِ وَالْخَطَرِتُطْوَى السَّمَاوَاتُ وَالأَمْلاكُ هَابِطَةٌ ** حَوْلَ الْعِبَادِ لِهَوْلٍ مُعْضِلٍ عَسِرِوَالشَّمْسُ قَدْ كُوِّرَتْ وَالْكُتُبُ قَدْ نُشِرَتْ ** وَالأَنْجُمُ انْكَدَرَتْ نَاهِيكَ عَنْ كَدَرِوَقَدْ تَجَلَّى إِلَهُ الْعَرْشِ مُقْتَدِرًا ** سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنْ كَيْفٍ وَعَنْ فِكَرِفَيَأْخُذُ الْحَقَّ لِلْمَظْلُومِ مُنْتَصِفًا ** مِنْ ظَالِمٍ جَارٍ بِالْعُدْوَانِ وَالْبَطَرِوَالْوَزْنُ بِالْقِسْطِ وَالأَعْمَالُ قَدْ ظَهَرَتْ ** وَوَزْنُهَا عِبْرَةٌ تَبْدُو لِمُعْتَبِرِوَكُلُّ مَنْ عَبَدَ الأَوْثَانَ يَتْبَعُهَا ** بِإِذْنِ رَبِّي وَصَارَ الْكُلُّ فِي سَقَروَالْمُسْلِمُونَ إِلَى الْمِيزَانِ قَدْ قُسِمُوا ** ثَلاثَةً فَاسْمَعُوا تَقْسِيمَ مُخْتَصِرِفَسَابِقٌ رَجَحَتْ مِيزَانُ طَاعَتِهِ ** لَهُ الْخُلُودُ بِلا خَوْفٍ وَلا ذُعُرِوَمُذْنِبٌ كَثُرَتْ آثَامُهُ فَلَهُ ** شَفْعٌ بِأَوْزَارِهِ أَوْ عَفْوُ مُغْتَفِرِوَوَاحِدٌ قَدْ تَسَاوَتْ حَالَتَاهُ لَهُ ** حَبْسٌ طَوِيلٌ وَبَيْنَ الْبِشْرِ وَالْحَصَرِوَيُكْرِمُ اللهُ مَثْوَاهُ بِجَنَّتِهِ ** بِجُودِ فَضْلٍ عَمِيمٍ غَيْرِ مُنْحَصِرِوَفِي الطَّرِيقِ صِرَاطٌ مُدَّ فَوْقَ لَظَى ** كَحَدٍّ سَيْفٍ سَطَا فِي دِقَّةِ الشَّعَرِالنَّاسُ فِي وَرْدِهِ شَتَّى فَمُسْتَبَقٌ ** كَالْبَرْقِ وَالطَّيْرِ أَوْ كَالْخَيْلِ فِي النَّظَرِسَاعِي وَمَاشٍ وَمَخْدُشٍ وَمُعْتَلِقٍ ** نَاجٍ وَكَمْ سَاقِطٍ فِي النَّارِ مُنْتَشِرِلِلْمُؤْمِنِينَ وُرُودٌ بَعْدَهُ صَدَرٌ ** وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ وِرْدٌ بِلا صَدَرِفَيَشْفَعُ الْمُصْطَفَى وَالأَنْبِيَاءُ وَمَنْ ** يَخْتَارُهُ الْمَلِكُ الرَّحْمَنُ فِي زُمَرفِي كُلِّ عَاصٍ لَهُ نَفْسٌ مُقَصِّرَةٌ ** وَقَلْبُهُ عَنْ سِوَى الرَّبِّ الْعَظِيمِ بَرِيفَأَوَّلُ الشُّفَعَا حَقًّا وَآخِرُهُمْ ** مُحَمَّدٌ ذُو الْبَهَاءِ الطَّيِّبِ الْعَطِرِوَالْحَوْضُ يَشْرَبُ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ غَدًا ** كَالأَرْيِ يَجْرِي عَلَى إلياقُوتِ وَالدُّرَرِوَيَخْلُقُ اللهُ أَقْوَامًا قَدْ احْتَرَقُوا ** كَانُوا أُولِي الْعِزَّةِ الشَّنْعَاءِ وَالنَّجَرِوَالنَّارُ مَثْوَى لأَهْلِ الْكُفْرِ كُلِّهِمُ ** طِبَاقُهَا سَبْعَةٌ مُسْوَدَّةُ الْحُفَرِجَهَنَّمٌ وَلَظَى وَالْحَطْمُ بَيْنَهُمَا ** ثُمَّ السَّعِيرُ كَمَا الأَهْوَالُ فِي سَقَرِوَتَحْتَ ذَاكَ جَحِيمٌ ثُمَّ هَاوِيَةٌ ** يَهْوِي بِهَا أَبَدًا سُحْقًا لِمُحْتَقِرِفِي كُلِّ بَابٍ عُقُوبَاتٌ مُضَاعَفَةٌ ** وَكُلُّ وَاحِدَةٍ تَسْطُوا عَلَى النَّفَرِفِيهَا غِلاظٌ شِدَادٌ مِنْ مَلائِكَةٍ ** قُلُوبُهُمْ شِدَّةً أَقْسَى مِنَ الْحَجَرِلَهُمْ مَقَامِعُ لِلتَّعْذِيبِ مُرْصَدَةٌ ** وَكُلُّ كِسْرٍ لَدَيْهِمْ غَيْرِ مُنْجَبِرسَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ شَعْثَاءُ مُوحِشَةٌ ** دَهْمَاءُ مُحْرِقَةٌ لَوَّاحَةُ الْبَشَرِفِيهَا الْجَحِيمُ مُذِيبٌ لِلْوُجُوهِ مَعَ الْ ** أَمْعَاءِ مِنْ شِدَّةِ الأحْرَاقِ وَالشَّرَرِفِيهَا الْغِسَاقُ الشَّدِيدُ الْبَرْدِ يَقْطَعُهُمْ ** إِذَا اسْتَغَاثُوا بِحَرِّ ثُمَّ مُسْتَعِرِفِيهَا السَّلاسِلُ وَالأَغْلالُ تَجْمَعُهُمْ ** مَعَ الشَّيَاطِينِ قَسْرًا جَمْعَ مُنْقَهِرِفِيهَا الْعَقَارِبُ وَالْحَيَّاتُ قَدْ جُعِلَتْ ** جُلُودُهُمْ كَالْبِغَالِ الدُّهْمِ وَالْحُمُرِوَالْجُوعُ وَالْعَطَشُ الْمُضْنِي لأَنْفُسِهِمْ ** فِيهَا وَلا جَلَدٌ فِيهَا لِمُصْطَبِرِلَهَا إِذَا مَا غَلَتْ فَوْرٌ يُقَلِّبُهُمْ ** مَا بَيْنَ مُرْتَفِع مِنْهَا وَمُنْحَدِرِجَمْعُ النَّوَاصِي مَعَ الأَقْدَامِ صَيَّرَهُمْ ** كَالْقُوسِ مَحْنِيَّةً مِنْ شِدَّةِ الْوَتَرِلَهُمْ طَعَامٌ مِن الزَّقُّومِ يَعْلَقُ فِي ** حُلُوقِهِمْ شَوْكُهُ كَالصَّابِ وَالصَّبِرِيَا وَيْلَهُمْ تُحْرِقُ النِّيرَانُ أَعْظُمَهُمْ ** بِالْمَوْتِ شَهْوَتُهُمْ مِنْ شِدَّةِ الضَّجَرضَجَّوْا وَصَاحُوا زَمَانًا لَيْسَ يَنْفَعُهُمْ ** دُعَاءُ دَاعٍ وَلا تَسْلِيمُ مُصْطَبِرِوَكُلُّ يَوْمٍ لَهُمْ فِي طُولِ مُدَّتِهِمْ ** نَزْعٌ شَدِيدٌ مِن التَّعْذِيبِ وَالسَّعَرِكَمْ بَيْنَ دَارِ هَوَانٍ لا انْقِضَاءَ لَهَا ** وَدَارِ أَمْنٍ وَخُلْدٍ دَائِمِ الدَّهَرِدَارِ الَّذِينَ اتَّقُوْا مَوْلاهُمُ وَسَعَوْا ** قَصْدًا لِنَيْلِ رِضَاهُ سَعْيَ مُؤْتَمِرِوَآمِنُوا وَاسْتَقَامُوا مِثْلَ مَا أُمِرُوا ** وَاسْتَغْرَقُوا وَقْتَهُمْ فِي الصَّوْمِ وَالسَّهَرِوَجَاهَدُوا وَانْتَهَوْا عَمَّا يُبَاعِدُهُمْ ** عَنْ بَابِهِ وَاسْتَلانُوا كُلَّ ذِي وَعَرِجَنَّاتُ عَدْنٍ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ بِهَا ** فِي مَقْعَدِ الصِّدْقِ بَيْنَ الرَّوْضِ وَالزَّهَرِبِنَاؤُهَا فِضَّةٌ قَدْ زَانَهَا ذَهَبٌ ** وَطِينُهَا الْمِسْكُ وَالْحَصْبَا مِنَ الدُّرَرِأَوْرَاقُهَا ذَهَبٌ مِنْهَا الْغُصُونُ دَنَتْ ** بِكُلِّ نُوعٍ مِن الرَّيْحَانِ وَالثَّمَرِأَوْرَاقُهَا حُلَلٌ شَفَافَةٌ خُلِقَتْ ** وَاللُّؤْلؤُ الرَّطْبُ وَالْمُرْجَانُ فِي الشَّجَردَارُ النَّعِيمِ وَجَنَّاتُ الْخُلُودِ لَهُمْ ** دَارُ السَّلامِ لَهُمْ مَأْمُونَةُ الْغِيَرِوَحَنَّةُ الْخُلْدِ وَالْمَأْوَى وَكَمْ جَمَعَتْ ** جَنَّاتُ عَدْنٍ لَهُمْ مِنْ مُونِقٍ نَضِرِطِبَاقُهَا دَرَجَاتٌ عَدُّهَا مائَةٌ ** كُلُّ اثْنَتَيْنِ كَبُعْدِ الأَرْضِ وَالْقَمَرِأَعْلَى مَنَازِلِهَا الْفِرْدَوْسُ عَإليهَا ** عَرْشُ الإِلَهِ فَسَلْ وَاطْمَعْ وَلا تَذَرِأَنْهَارُهَا عَسَلٌ مَا فِيهِ شَائِبَةٌ ** وَخَالِصُ اللَّبَنِ الْجَارِي بِلا كَدَرِوَأَطْيَبُ الْخَمْرِ وَالْمَاءِ الَّذِي خَلِيَتْ ** مِنَ الصُّدَاعِ وَنُطْقِ اللَّهْوِ وَالسَّكَرِوَالْكُلُّ تَحْتَ جِبَالِ الْمِسْكِ مَنْبَعُهَا ** يُجْرُونَهُ كَيْفَ شَاءُوا غَيْرَ مُحْتَجَرِفِيهَا نَوَاهِدُ أَبْكَارٌ مُزَيَّنَةٌ ** يَبْرُزْنَ مِنْ حُلَلٍ فِي الْحُسْنِ وَالْخَفَرِنِسَاؤُهَا الْمُؤْمِنَاتُ الصَّابِرَاتُ عَلَى ** حِفْظِ الْعُهُودِ مَعْ الإِمْلاقِ وَالضَّرَرِكَأَنَّهُنَّ بُدُور فِي غُصُون نَقَا ** عَلَى كَثِيبٍ بَدَتْ فِي ظُلْمَةِ السَّحَركُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يُعْطَى قُوَى مائَةً ** فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالإِفْضَا بِلا خَوَرِطَعَامُهُمْ رَشْحُ مِسْكٍ كُلَّمَا عَرِقُوا ** عَادَتْ بُطُونُهُمْ فِي هَضْمِ مُنْضَمِرِلا جُوعَ لا بَرْدَ لا هَمٌ وَلا نَصَبٌ ** بَلْ عَيْشُهُمْ عَنْ جَمِيعِ النَّائِبَاتِ عَرِيفِيهَا الْوَصَائِفُ وَالْغُلْمَانُ تَخْدُمُهُمْ ** كَلُؤْلُؤ فِي كَمَالِ الْحُسْنِ مُنْتَثِرِفِيهَا الْغِنَا وَالْجَوَارِي الْغَانِيَاتُ لَهُمْ ** بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ لِلْمَوْلَى مَعَ السَّمَرِلِبَاسُهُمْ سُنْدُسٌ حُلاهُمْ ذَهَبٌ ** وَلُؤْلُؤٌ وَنَعِيمٌ غَيْرُ مُنْحَصِرِوَالذِّكْرُ كَالنَّفَسِ الْجَارِي بِلا تَعَبٍ ** وَنُزِّهُوا عَنْ كَلامَ اللَّغْوِ وَالْهَذَرِوَأَكْلُهَا دَائِمٌ لا شَيْءَ مُنْقَطِعٌ ** كَرِّرْ أَحَادِيثَهَا فِي أَطْيَبِ الْخَبَرِفِيهَا مِنَ الْخَيْرِ مَا لَمْ يَجْرِي فِي خَلَدٍ ** وَلَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِفِيهَا رِضَا الْمَلِكَ الْمَوْلَى بِلا غَضَبٍ ** سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ نَفْعٌ بِلا غِيَرلَهُمْ مِن اللهِ شَيْءٌ لا نَظِيرَ لَهُ ** سَمَاعُ تَسْلِيمِهِ وَالْفَوْزُ بِالنَّظَرِبِغَيْرِ كَيْفٍ وَلا حَدٍّ وَلا مَثلٍ ** حَقًّا كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِوَهِيَ الزِّيَادَةُ وَالْحُسْنَى الَّتِي وَرَدَتْ ** وَأَعْظَمُ الْمَوْعِدِ الْمَذْكُورِ فِي الزُّبُرِللهِ قَوْمٌ أَطَاعُوهُ وَمَا قَصَدُوا ** سِوَاهُ إِذَا نَظَرُوا الأَكْوَانَ بِالْعِبَرِوَكَابَدُوا الشَّوْقَ وَالأَنْكَادُ قُوَّتُهُمْ ** وَلازَمُوا الْجِدَّ وَالأَذْكَارَ فِي الْبُكَرِيَا مَالِكَ الْمُلْكِ جُدْ لِي بِالرِّضَا كَرَمًا ** فَأَنْتَ لِي مُحْسِنٌ فِي سَائِرِ الْعُمُرِيَا رَبِّ صَلِّ عَلَى الْهَادِي الْبَشِيرِ لَنَا ** وَآلِهِ وَانْتَصِرْ يَا خَيْرَ مُنْتَصِرِمَا هَبَّ نَشْرُ الصَّبَا وَاهْتَزَّ نَبَتُ رُبَا ** وَفَاحَ طِيبُ شَذَا فِي نَسْمَةِ السَّحَرِأَبْيَاتُهَا تِسْعُ عَشْرٍ بَعْدَهَا مائَةٌ ** كِلاهُمَا وَعْظُهَا أَبْهَى مِن الدُّرَراللَّهُمَّ أعذنا من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وصلع الدين وغلبة الرِّجَال، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أعطنا من الْخَيْر فوق ما نرجو واصرف عنا من السُّوء فوق ما نحذر. اللَّهُمَّ علق قلوبنا برجائك، واقطع رجاءنا عمن سواك، اللَّهُمَّ إنك تعلم عيوبنا فاسترها، وتعلم حاجتنا فاقضها، كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين، اللَّهُمَّ وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.موعظة:عباد الله لَقَدْ امتن الله على خاتم رسله، وصفوة خلقه، سيدنا مُحَمَّد بن عَبْد اللهِ بأشرف المنن، واختصه بأجل النعم، وآتاه من فضله ما لم يؤت أحدًا سواه، أدبه فأحسن تأديبه، وهذبه فأكمل تهذيبه، ومنحه من الصفات الجميلة غايتها، ومن الأَخْلاق الكريمة نهايتها، ثُمَّ أثنى عَلَيْهِ فَقَالَ:
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: كَانَ خلقه القرآن يرضى برضاه، ويسخط بسخطه، وكَانَ صلى الله عليه وسلم أوسع النَّاس صدرًا، وأصدقهم قولاً، وإلينهم جانبًا، وأكرمهم عشرةً، يؤلف النَّاس ولا ينفرهم، ويكرم كريم كُلّ قوم، ويوليه عَلَيْهمْ، يتفقَدْ أصحابه ويعطي كُلّ جلَيْسَ نصيبه حتى لا يحسب جليسه أحدًا أكرم عَلَيْهِ منه، من جالسه أو قاربه بحاجة سايره، حتى يكون هُوَ المنصرف عَنْهُ، قَدْ وسع النَّاس بسطه وخلقه، فصار لَهُمْ أبًا رحيمًا. وصاروا عنده في الحق سواء، لذَلِكَ اجتمعت عَلَيْهِ القُلُوب بعد نفورها، وتألفت النُّفُوس بعد جموحها، تحقيقًا لقوله تَعَالَى:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} وكَانَ صلى الله عليه وسلم حليمًا مَعَ الأَذَى، عفوا مَعَ القدرة، صبروا على المكاره، وتلك خصال أدبه بها ربه، فَقَالَ:
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل عَلَيْهِ السَّلام عن تفسيرها، فَقَالَ: إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرم النَّاس، وأسخاهم يدا، وأطيبهم نفسًا، ما سئل عن شَيْء قط فَقَالَ لا، من سأله حَاجَة لم يرده إِلا بها، أو بميسور من القول، يجيب دعوة من دعاه، ويقبل الهدية لو كأَنْتَ كراعًا، ويكافئ عَلَيْهَا خيرًا منها، وكَانَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام أشجع النَّاس، وأعظم النَّاس غيرة وإقدامًا، فر الفرسان والأبطال عَنْهُ غير مرة، وَهُوَ ثابت لا يبرح مقبل لا مدبر، ولا يتزحزح، وكَانَ صلوات الله وسلامه عَلَيْهِ أشد النَّاس حياء، وأكثرهم عن العورات إغضاء. قال أبو سعيد الخدري: كَانَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد حياء من العذراء في خدرها، وكَانَ إذا كره شَيْئًا عرفناه في وجهه وكَانَ لا يخاطب أحدًا بما يكره حياء وكرمًا.أما شفقته ورحمته ورأفته ولطفه بجَمِيع الخلق، فنما ذكر الله عَنْهُ بقوله:
{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}، وَقَالَ عز من قائل:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} وأما تواضعه – مَعَ علو منصبه ومكانته، ورفع رتبته- فقَدْ خيره الله بين أن يكون ملكًا نبيًا، أو عبدًا نبيًا، فاختار عبدًا نبيًا، وكَانَ يَقُولُ:
«إنما أَنَا عبد، آكل كما يأكل الْعَبْد، وأجلس كما يجلس الْعَبْد» وكَانَ يجالس الفقراء، ويعود المساكين، ويجلس مَعَ أصحابه مختلطًا بِهُمْ كأنه واحد مِنْهُمْ، وكَانَ يَقُولُ:
«اللَّهُمَّ أحيني مسكينً، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين».وأما عدله وأمانته، وعفته ومروءته، ووقاره وهيبته، وصدقه ووفاؤه بالعهد وحفظه للوعد، وصلته للأرحام، وعطفه على الأيتام، فقَدْ بلغ في كُلّ ذَلِكَ الغاية، ووصل إلى النهاية، وأما زهده وورعه، فقَدْ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إني عرض علي أن تجعل لي بطحاء مَكَّة ذهبًا، فقُلْتُ: لا يا رب. أجوع يومًا، وأشبع يومًا، فأما اليوم الَّذِي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الَّذِي أشبع فيه فأحمدك وأثني عَلَيْكَ». وقَالَتْ أم الْمُؤْمِنِين عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَا كنا آل مُحَمَّد لنمكث شهرًا ما نستوقَدْ نارًا، إن هُوَ إِلا التمر والماء، وأما خوفه من ربه، وطاعته لَهُ فعَلَى قَدْرِ عمله به ولذَلِكَ قال:
«لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً وَلَبَكَيْتُم كثيرًا، أرى ما لا ترون، وأسمَعَ ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إِلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله وَاللهِ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً وَلَبَكَيْتُم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنساء على الفراش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إِلَى اللهِ تَعَالَى». وكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلى حتى تورمت قدماه، فَقَالَتْ له عَائِشَة: أتكلف هذا وقَدْ غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فَقَالَ:
«أفلا أكون عبدًا شكورًا؟» هَذَا يا عباد الله قليل من كثير من صفات سيد المرسلين ذي الخلق العَظِيم، والقدر الفخيم، فهل لكم أن تتأملوا هذه الصفات الجليلة والخصال الحميدة، فتمسكوا بها وتسيروا على نهجها قال تَعَالَى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآيَة.
يَا نَفْسُ تُوبِي فَإِنَّ الْمَوْتَ قَدْ حَانَا ** وَاعْصِي الْهَوَى فَالْهَوَى مَا زَالَ فَتَّانَاأَمَا تَرَيْنَ الْمَنَايَا كَيْفَ تَلْقُطُنَا ** لَقْطًا فَتُلْحِقُ أُخْرَانَا بِأُولانَافِي كُلِّ يَوْمٍ لَنَا مَيِّتٌ نُشَيِّعُهُ ** نَرَى بِمَصْرَعِهِ آثَارَ مَوْتَانَايَا نَفْسُ مَإلى وَلِلأَمْوَالِ أَتْرُكُهَا ** خَلْفِي وَأُخْرَجُ مِنْ دُنْيَايَ عُرْيَانَاأَبَعْدَ خَمْسِينَ قَدْ قَضَيْتُهَا لِعِبَا ** قَدْ آنَ أَنْ تَقْصُرِي قَدْ آنَ قَدْ آنَامَا بِالُنَا نَتَعَامَى عَنْ مَصَائِرُنَا ** نَنْسَى بِغَفْلَتِنَا مَنْ لَيْسَ يَنْسَانَانَزْدَادُ حِرْصًا وَهَذَا الدَّهْرُ يَزْجُرَنَا ** كَانَ زَاجِرَنَا بِالْحِرْصِ أَغْرَانَاأَيْنَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ وَمَنْ ** كَانَتْ تَخِر لَهُ الأَذْقَانُ إِذْعَانَاصَاحَتْ بِهِمْ حَادِثَاتُ الدَّهْرِ فَانْقَلَبُوا ** مُسْتَبْدِلِينَ مِن الأَوْطَانِ أَوْطَانَاخَلَّوا مَدَائِنَ كَانَ الْعِزُّ مَفْرَشُهَا ** وَاسْتَفْرَشُوا حُفُرًا غُبْرًا وَقِيعَانَايَا رَاكِضًا فِي مَيَادِين الْهَوَى مَرِحًا ** وَرَافِلاً فِي ثِيَابِ الْغَيِّ نَشْوَانَامَضَى الزَّمَانُ وَوَلَّى الْعُمْرُ فِي لَعِبٍ ** يَكْفِيكَ مَا قَدْ مَضَى قَدْ كَانَ مَا كَانَااللَّهُمَّ وَفِّقْنَا تَوفيقًا يَقِينًا عَنْ مَعَاصِيكِ، وَأَرَشِدْنَا إلى السَّعْيِ إلى مَا يُرْضِيكَ وأَجِرْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ خِزْيكَ وَعَذَابِكَ وَهَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَأَحْبَابِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ.اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك وبملائكتك وبرسلك وباليوم الآخِر وبالقدر خيره وشره، اللَّهُمَّ وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ أَوَامِرَكَ، واجتناب نواهيك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.