فصل: كَيْفِيَّةُ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كَيْفِيَّةُ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ:

قَالَ (إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ) وَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ النِّيَّةَ وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا، فَإِنَّ إرَادَةَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ هِيَ النِّيَّةُ وَالنِّيَّةُ لَا بُدَّ مِنْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَعْمَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ»، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، وَالنِّيَّةُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ أَيَّ صَلَاةٍ يُصَلِّي وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ مَعَ هَذَا: فِي الْفَرَائِضِ يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْفَرْضِ.
وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ إذَا نَوَى الظُّهْرَ فَقَدْ نَوَى الْفَرْضَ، فَالظُّهْرُ لَا يَكُونُ إلَّا فَرْضًا، فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إمَامًا فَحَاجَتُهُ إلَى نِيَّةِ مَاهِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا احْتَاجَ مَعَ ذَلِكَ إلَى نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ، وَإِنْ نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ جَازَ عَنْهُمَا.
وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْكَعْبَةِ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْتِقْبَالَهُ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ يُغْنِيهِ عَنْ نِيَّتِهَا، وَالْأَفْضَلُ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ، فَإِنْ نَوَى قَبْلَهُ حِينَ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بَعْدَهُ بِعَمَلٍ يَقْطَعُ نِيَّتَهُ جَازَ عِنْدَنَا وَهُوَ مَحْفُوظٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ جَمِيعًا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: الْحَاجَةُ إلَى النِّيَّةِ لِيَكُونَ عَمَلُهُ عَنْ عَزِيمَةٍ وَإِخْلَاصٍ وَذَلِكَ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا.
وَنَحْنُ هَكَذَا نَقُولُ وَلَكِنْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ وَيُجْعَلُ مَا قُدِّمَ مِنْ النِّيَّةِ إذَا لَمْ يَقْطَعْهُ بِعَمَلٍ كَالْقَائِمِ عِنْدَ الشُّرُوعِ حُكْمًا كَمَا فِي الصَّوْمِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَلْخِيُّ يَقُولُ: إذَا كَانَ عِنْدَ الشُّرُوعِ بِحَيْثُ لَوْ سُئِلَ: أَيُّ صَلَاةٍ يُصَلِّي؟ أَمْكَنَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَى الْبَدِيهَةِ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ فَهُوَ نِيَّةٌ كَامِلَةٌ تَامَّةٌ، وَالتَّكَلُّمُ بِالنِّيَّةِ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ، فَإِنْ فَعَلَهُ لِيَجْتَمِعَ عَزِيمَةُ قَلْبِهِ فَهُوَ حَسَنٌ.
وَأَمَّا التَّكْبِيرُ، فَلَا بُدَّ مِنْهُ لِلشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَإِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ يَصِيرُ شَارِعًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَالْأَذْكَارُ عِنْدَهُمَا كَالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، وَنِيَّةُ الصَّلَاةِ لَيْسَتْ مِنْ الْوَاجِبَاتِ قَالَا: لِأَنَّ مَبْنَى الصَّلَاةِ عَلَى الْأَفْعَالِ لَا عَلَى الْأَذْكَارِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الْأَذْكَارِ الْقَادِرَ عَلَى الْأَفْعَالِ يَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ بِخِلَافِ الْعَاجِزِ عَنْ الْأَفْعَالِ الْقَادِرِ عَلَى الْأَذْكَارِ؟ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أَيْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ- تَعَالَى- عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ اللَّهِ- تَعَالَى- عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَهَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَعْظِيمٌ بِجَمِيعِ الْأَعْضَاءِ، وَأَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ اللِّسَانُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ»، فَدَلَّ أَنَّ بِدُونِهِ لَا يَصِيرُ شَارِعًا وَتَحْرِيمَةُ الصَّلَاةِ تَتَنَاوَلُ اللِّسَانَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَلَامَ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ؟ وَلَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ التَّحْرِيمُ لَمْ يَكُنْ مُفْسِدًا كَالنَّظَرِ بِالْعَيْنِ وَمَبْنَى الصَّلَاةِ عَلَى الْأَفْعَالِ دُونَ الْكَفِّ فَكُلُّ مَا يَتَنَاوَلُهُ التَّحْرِيمُ يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ.
فَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ فَهُوَ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ رَفْعَ الْيَدِ»؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْوَاجِبَاتِ وَوَاظَبَ عَلَى رَفْعِ الْيَدِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ فَدَلَّ أَنَّهُ سُنَّةٌ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرِنَ التَّكْبِيرَ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا فَإِذَا اسْتَقَرَّتَا فِي مَوْضِعِ الْمُحَاذَاةِ كَبَّرَ؛ لِأَنَّ فِي فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ مَعْنَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَإِنَّهُ بِرَفْعِ الْيَدِ يَنْفِي الْكِبْرِيَاءَ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ- تَعَالَى- وَبِالتَّكْبِيرِ يُثْبِتُهُ لِلَّهِ- تَعَالَى- فَيَكُونُ النَّفْيُ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِثْبَاتِ كَمَا فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ.
وَلَا يَتَكَلَّفُ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَصَابِعِ عِنْدَ رَفْعِ الْيَدِ وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ كَبَّرَ نَاشِرًا أَصَابِعَهُ»، مَعْنَاهُ نَاشِرًا عَنْ طَيِّهَا بِأَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ مَثْنِيًّا بِضَمِّ الْأَصَابِعِ إلَى الْكَفِّ.
وَالْمَسْنُونُ عِنْدَنَا أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ إبْهَامَاهُ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ وَرُءُوسُ أَصَابِعِهِ فُرُوعَ أُذُنَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَسْنُونُ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ إلَى مَنْكِبَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ فَقَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى مَنْكِبَيْهِ»، وَلَنَا حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ إذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ»، وَالْمَصِيرُ إلَى هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ الزِّيَادَةِ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِهِمْ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْعُذْرِ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ حِينَ كَانَتْ أَيْدِيهِمْ تَحْتَ ثِيَابِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ خَلْفَ الْإِمَامِ أَعْمَى وَأَصَمُّ فَأَمَرَ بِالْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ لِيَسْمَعَ الْأَعْمَى وَبِرَفْعِ الْيَدَيْنِ لِيَرَى الْأَصَمُّ فَيَعْلَمُ دُخُولَهُ فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ وَكَانَ طَاوُسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فَوْقَ رَأْسِهِ وَلَا نَأْخُذُ بِهَذَا لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَدْ شَخَصَ بِبَصَرِهِ إلَى السَّمَاءِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَوْقَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غُضَّ بَصَرَكَ، فَإِنَّكَ لَنْ تَرَاهُ وَكُفَّ يَدَكَ، فَإِنَّكَ لَنْ تَنَالَهُ».
وَلَا يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ عِنْدَ التَّكْبِيرِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ فِيهِ: التَّزَاوُجُ بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ فِي الْقِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَنْصِبَهُمَا نَصْبًا.
ثُمَّ يَقُولُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ، جَاءَ عَنْ الضَّحَّاكِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أَنَّهُ قَوْلُ الْمُصَلِّي عِنْدَ الِافْتِتَاحِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَرَوَى هَذَا الذِّكْرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ»، وَلَمْ يَذْكُرْ وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِي الْمَشَاهِيرِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْحُجَّةِ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَقُولُ الْمُصَلِّي أَيْضًا وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي قَالَ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَزِيدَ فِي الِافْتِتَاحِ: {وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالِمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ} لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ: وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا»، إلَى آخِرِهِ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ بِهَذَا وَيَزِيدُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ إنَّهُ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، أَنَا بِكَ وَلَكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ»، فَتَأْوِيلُ هَذَا كُلِّهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ كَانَ فِي التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ وَالْأَمْرُ فِيهِ وَاسِعٌ، فَأَمَّا فِي الْفَرَائِضِ، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى مَا اشْتَهَرَ فِيهِ- الْأَثَرُ.
ثُمَّ يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فِي نَفْسِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَامَ لِيُصَلِّيَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ»، وَاَلَّذِينَ نَقَلُوا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَكَرُوا تَعَوُّذَهُ بَعْدَ الِافْتِتَاحِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَلِأَنَّ مَنْ أَرَادَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ أَخَذُوا بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَقَالُوا نَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ عِنْدَنَا لِلْحَالِ كَمَا يُقَالُ إذَا دَخَلْتَ عَلَى السُّلْطَانِ فَتَأَهَّبْ أَيْ إذَا أَرَدْتَ الدُّخُولَ عَلَيْهِ فَتَأَهَّبْ فَكَذَا مَعْنَى الْآيَةِ إذَا أَرَدْتَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَاسْتَعِذْ، بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَشَفَ الرِّدَاءَ عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»: {إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الْآيَاتِ، وَبِظَاهِرِ الْآيَةِ قَالَ عَطَاءٌ الِاسْتِعَاذَةُ تَجِبُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ فَقَدْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ وَبَيْنَ الْقُرَّاءِ اخْتِلَافٌ فِي صِفَةِ التَّعَوُّذِ فَاخْتِيَارُ أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ وَابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ زَادَ حَفْصٌ مِنْ طَرِيقِ هُبَيْرَةَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَاخْتِيَارُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيِّ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَاخْتِيَارُ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ أَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَبِكُلِّ ذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ.
وَإِنَّمَا يَتَعَوَّذُ الْمُصَلِّي فِي نَفْسِهِ إمَامًا كَانَ أَوْ مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّعَوُّذِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَ يَجْهَرُ بِهِ لَنُقِلَ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- أَنَّهُ جَهَرَ بِالتَّعَوُّذِ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ وَقَعَ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا أَوْ قَصَدَ تَعْلِيمَ السَّامِعِينَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَوَّذَ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ الْجَهْرُ بِثَنَاءِ الِافْتِتَاحِ، فَأَمَّا الْمُقْتَدِي، فَلَا يَتَعَوَّذُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَلَا يَتَعَوَّذُ حَتَّى أَنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا قَامَ لِقَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ حِينَئِذٍ يَتَعَوَّذُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَتَعَوَّذُ الْمُقْتَدِي، فَإِنَّ التَّعَوُّذَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الثَّنَاءِ لِمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِ الْعِيدَيْنِ، وَالتَّعَوُّذُ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ يَتَعَوَّذُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَمَا يَقْرَأُ وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَاحِدَةٌ فَكَمَا لَا يُؤْتِي لَهَا إلَّا بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَذَا التَّعَوُّذُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ (وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ تَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ سِوَى تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ وَعِنْدَ السُّجُودِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ أَيْضًا قَالُوا قَدْ صَحَّ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ»، فَمَنْ ادَّعَى النَّسْخَ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ حِكَايَةٌ، فَإِنَّ الْأَوْزَاعِيَّ لَقِيَ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ مَا بَالُ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ، وَقَدْ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ»، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنِي حَمَّادٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ».
فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَجَبًا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ أُحَدِّثُهُ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ وَهُوَ يُحَدِّثُنِي بِحَدِيثِ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ فَرَجَّحَ حَدِيثَهُ بِعُلُوِّ إسْنَادِهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَمَّا حَمَّادٌ فَكَانَ أَفْقَهَ مِنْ الزُّهْرِيِّ وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ فَكَانَ أَفْقَهَ مِنْ سَالِمٍ وَلَوْلَا سَبْقُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَقُلْتُ بِأَنَّ عَلْقَمَةَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَرُجِّحَ حَدِيثُهُ بِفِقْهِ رُوَاتِهِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِفِقْهِ الرُّوَاةِ لَا بِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ فَالشَّافِعِيُّ اعْتَمَدَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ تَكْبِيرُ الرُّكُوعِ يُؤْتَى بِهِ حَالَةَ الْقِيَامِ فَلْيُسَنَّ رَفْعُ الْيَدِ عِنْدَهُ كَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَحْسُوبٌ مِنْ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَرَفْعُ الْيَدِ مَسْنُونٌ فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فَكَذَا هَذَا وَلَنَا أَنَّ الْآثَارَ لَمَّا اخْتَلَفَتْ فِي فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُتَحَاكَمُ إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَفِي الْعِيدَيْنِ وَالْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ»، وَذَكَرَ أَرْبَعَةً فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ وَحِينَ رَأَى بَعْضَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ كَرِهَ ذَلِكَ فَقَالَ «مَالِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلِ شَمْسٍ اُسْكُتُوا»، وَفِي رِوَايَةٍ: «قَارُّوا فِي الصَّلَاةِ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذِهِ التَّكْبِيرَةَ يُؤْتَى بِهَا فِي حَالِ الِانْتِقَالِ، فَلَا يُسَنُّ رَفْعُ الْيَدِ عِنْدَهُ كَتَكْبِيرَةِ السُّجُودِ وَفِقْهُهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ رَفْعِ الْيَدِ إعْلَامُ الْأَصَمِّ الَّذِي خَلْفَهُ وَهَذَا إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي التَّكْبِيرَاتِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا فِي حَالَةِ الِاسْتِوَاءِ كَالتَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ فِي الْعِيدَيْنِ وَتَكْبِيرِ الْقُنُوتِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِيمَا يُؤْتَى بِهِ فِي حَالَةِ الِانْتِقَالِ، فَإِنَّ الْأَصَمَّ يَرَاهُ يَنْحَطُّ لِلرُّكُوعِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِرَفْعِ الْيَدِ.
(ثُمَّ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ وَيُخْفِي بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَقَدْ أَدْخَلَ التَّسْمِيَةَ فِي الْقِرَاءَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَا يَأْتِي الْمُصَلِّي بِالتَّسْمِيَةِ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»، وَلَنَا حَدِيثُ أَنَسٍ قَالَ «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ الْقُرْآنَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ كَانَ يُخْفِي التَّسْمِيَةَ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْهَرُ بِهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَنْ عُمَرَ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ»، وَلَمَّا صَلَّى مُعَاوِيَةُ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَجْهَرْ بِالتَّسْمِيَةِ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا أَسَرَقْتَ مِنْ الصَّلَاةِ؟ أَيْنَ التَّسْمِيَةُ؟ فَدَلَّ أَنَّ الْجَهْرَ بِهَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ وَلَنَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَهُ يَجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الصَّلَاةِ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ يَا بُنِيَ إيَّاكَ وَالْحَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ «فَإِنِّي صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِالتَّسْمِيَةِ» وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَنْبَنِي عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَعُدُّ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} آيَةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّسْمِيَةُ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَهُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ قَوْلَانِ وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: التَّسْمِيَةُ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ حَتَّى قَالَ: مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ وَتَرَكَ التَّسْمِيَةَ فَكَأَنَّمَا تَرَكَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً أَوْ مِائَةً وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ آيَةً.
وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ رُبَّمَا احْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَعَدَّهَا آيَةً، ثُمَّ قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَعَدَّهَا آيَةً»، وَلِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي الْمَصَاحِفِ بِقَلَمِ الْوَحْيِ لِمَبْدَأِ الْفَاتِحَةِ وَكُلِّ سُورَةٍ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَجْرِيدِ الْقُرْآنِ فِي الْمَصَاحِفِ مِنْ النَّقْطِ وَالتَّعَاشِيرِ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ وَلَا تَكُونُ سَبْعَ آيَاتٍ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ} آيَةٌ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} آيَةٌ ضَعِيفٌ تَشْهَدُ الْمَقَاطِعُ بِخِلَافِهِ.
وَلَنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ- تَعَالَى-: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَإِذَا قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يَقُولُ اللَّهُ- تَعَالَى- حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى- مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى- أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى- هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»، فَالْبُدَاءَةُ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ إذْ لَوْ كَانَتْ آيَةً مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُنَاصَفَةُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَرْبَعُ آيَاتٍ إلَّا نِصْفًا، وَقَدْ نَصَّ عَلَى الْمُنَاصَفَةِ وَالسَّلَفُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَهِيَ ثَلَاثُ آيَاتٍ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ وَلِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ اخْتِلَافِ الْأَخْبَارِ وَالْعُلَمَاءِ إيرَاثُ الشُّبْهَةِ وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ، فَإِنَّ طَرِيقَهُ طَرِيقُ الْيَقِينِ وَالْإِحَاطَةِ.
(وَعَنْ) مُعَلَّى قَالَ قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ التَّسْمِيَةُ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟ قَالَ: مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كُلُّهُ قُرْآنٌ.
قُلْتُ: فَلِمَ لَمْ تَجْهَرْ؟ فَلَمْ يُجِبْنِي.
فَهَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ بَيَانُ أَنَّهَا آيَةٌ أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ لَا مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَلِهَذَا كُتِبَتْ بِخَطٍّ عَلَى حِدَةٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَتَّى قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُكْرَهُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ قِرَاءَةُ التَّسْمِيَةِ عَلَى وَجْهِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا قُرْآنًا حُرْمَةَ قِرَاءَتِهَا عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا قُرْآنًا الْجَهْرُ بِهَا كَالْفَاتِحَةِ فِي الْآخِرَتَيْنِ.
وَدَلِيلُ هَذَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ لِمَ لَمْ تَكْتُبْ التَّسْمِيَةَ بَيْنَ التَّوْبَةِ وَالْأَنْفَالِ؟ قَالَ: لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا شَأْنَهَا فَرَأَيْتُ أَوَائِلَهَا يُشْبِهُ أَوَاخِرَ الْأَنْفَالِ فَأَلْحَقْتُهَا بِهَا فَهَذَا بَيَانٌ مِنْهُمَا أَنَّهَا كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا- أَنَّ الْمُصَلِّيَ يُسَمِّي فِي أَوَّلِ صَلَاتِهِ، ثُمَّ لَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّهَا لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ كَالتَّعَوُّذِ.
(وَرَوَى) الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُؤْتَى بِهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ رَكْعَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ- وَالْآثَارِ فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ.
(وَرَوَى) ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ إذَا كَانَ يُخْفِي الْقِرَاءَةَ يَأْتِي بِالتَّسْمِيَةِ بَيْنَ السُّورَةِ وَالْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُتَابَعَةِ الْمُصْحَفِ، وَإِذَا كَانَ يَجْهَرُ لَا يَأْتِي بِهَا بَيْنَ السُّورَةِ وَالْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ لَأَخْفَى بِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَكْتَةً لَهُ فِي وَسَطِ الْقِرَاءَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ مَأْثُورًا.
ثُمَّ قَالَ (وَيَجْهَرُ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَيُخَافِتُ فِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ) وَهِيَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لَا قِرَاءَةَ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ»، أَيْ لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ»، وَقِيلَ لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: «بِمَ عَرَفْتُمْ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ»، وَقَالَ قَتَادَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْمِعُنَا الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ أَحْيَانًا».
(وَقَالَ) أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فَظَنَنَّا أَنَّهُ قَرَأَ: الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ» وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِابْتِدَاءِ يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَهُ وَيَسُبُّونَ مَنْ أَنْزَلَ وَمِنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} فَكَانَ يُخَافِتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْأَذَى فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَيَجْهَرُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَشْغُولِينَ بِالْأَكْلِ، وَفِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا نِيَامًا، وَلِهَذَا جَهَرَ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهَا بِالْمَدِينَةِ وَمَا كَانَ لِلْكُفَّارِ بِهَا قُوَّةُ الْأَذَى، وَقَدْ صَحَّ رُجُوعُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ أَأَقْرَأُ خَلْفَ إمَامِي؟ فَقَالَ أَمَّا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَنَعَمْ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ عَجْمَاءُ أَيْ لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ.
وَحَدُّ الْقِرَاءَةِ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَنْ يُصَحِّحَ الْحُرُوفَ بِلِسَانِهِ عَلَى وَجْهٍ يَسْمَعُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ يَسْمَعُ مِنْهُ مَنْ قَرَّبَ أُذُنَهُ مِنْ فِيهِ، فَأَمَّا مَا دُونَ ذَلِكَ فَيَكُونُ تَفَكُّرًا وَمَجْمَجَةً لَا قِرَاءَةً، فَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ يُخَافِتُ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ كَالْإِمَامِ، فَأَمَّا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ فَيَتَخَيَّرُ، فَإِنْ شَاءَ خَافَتَ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ لِإِسْمَاعِ مَنْ خَلْفَهُ وَلَيْسَ خَلْفَهُ أَحَدٌ، وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ، وَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا صَلَاتَهُ عَلَى هَيْئَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَالْمُنْفَرِدُ مَنْدُوبٌ إلَى هَذَا.
وَكَذَلِكَ فِي التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ إنْ شَاءَ خَافَتَ، وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ، وَهُوَ أَفْضَلُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَهَجُّدِهِ كَانَ يُؤْنِسُ الْيَقْظَانَ وَلَا يُوقِظُ الْوَسْنَانَ»، «وَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ يَتَهَجَّدُ وَيُخْفِي بِالْقِرَاءَةِ وَبِعُمَرَ، وَهُوَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ وَبِبِلَالٍ، وَهُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ سُورَةٍ إلَى سُورَةٍ فَلَمَّا أَصْبَحُوا سَأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنْتُ أُسْمِعُ مَنْ أُنَاجِيهِ وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنْتُ أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ وَقَالَ بِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنْتُ أَنْتَقِلُ مِنْ بُسْتَانٍ إلَى بُسْتَانٍ فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ قَلِيلًا وَلِعُمَرَ أَخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ قَلِيلًا وَلِبِلَالٍ إذَا ابْتَدَأْتَ سُورَةً فَأَتِمَّهَا»، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ يَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِي التَّسْمِيَةِ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ وَهَذَا مَذْهَبُهُ فِي كُلِّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَثَرُ كَرَفْعِ الْيَدِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَنَحْوِهَا يَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا، فَلَا حَرَجَ»، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ آخِرَ الْفِعْلَيْنِ يَكُونُ نَاسِخًا لِأَوَّلِهِمَا وَالْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ عَمَلًا لَا يَجُوزُ.
قَالَ (وَالْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَفِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ)، وَإِنْ تَرَكَهَا جَازَ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ، وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ.
وَاسْتَدَلَّ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ»، وَهَذَا يَقْتَضِي فَرْضِيَّةَ الْقِرَاءَةِ لَا تَكْرَارَهَا، فَإِنَّ الْكُلَّ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاكْتِفَاءُ بِالْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَفَعَلَهُ مَرَّةً تَعْلِيمًا لِلْجَوَازِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ- تَعَالَى- الْفَاتِحَةَ مَثَانِيَ؛ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَيْ تُقْرَأُ مَرَّتَيْنِ.
وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ احْتَجَّ فَقَالَ أَجْمَعْنَا عَلَى فَرْضِيَّةِ الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ التَّطَوُّعِ، وَالْفَرْضُ أَقْوَى مِنْ التَّطَوُّعِ فَثَبَتَتْ الْفَرْضِيَّةُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ الْفَرْضِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلِأَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَسَائِرُ الْأَرْكَانِ كَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَرْضٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَذَلِكَ رُكْنُ الْقِرَاءَةِ وَهَكَذَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: أُقِيمُ الْقِرَاءَةَ فِي أَكْثَرِ الرَّكَعَاتِ مَقَامَهَا فِي الْجَمِيعِ تَيْسِيرًا.
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِهَةِ الثَّنَاءِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ: {آمَنَ الرَّسُولُ} عَلَى جِهَةِ الثَّنَاءِ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقَضَاهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ وَجَهَرَ، وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَقَضَاهَا فِي الْأَخِيرَتَيْنِ وَجَهَرَ، وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا فِي الْأَخِيرَتَيْنِ يُسَبِّحَانِ، وَسَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ فَقَالَتْ اقْرَأْ لِيَكُونَ عَلَى جِهَةِ الثَّنَاءِ وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةٌ.
قَالَ (ثُمَّ الْقِرَاءَةُ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ ذَكَرَ يُخَافِتُ بِهَا فِي كُلِّ حَالٍ)، فَلَا تَكُونُ رُكْنًا كَثَنَاءِ الِافْتِتَاحِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ مَبْنَى الْأَرْكَانِ عَلَى الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ وَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ رُكْنًا لَمَا خَالَفَ الْأُولَيَيْنِ فِي الصِّفَةِ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَكُلُّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ الْفَرْضِ حَتَّى أَنَّ فَسَادَ الشَّفْعِ الثَّانِي فِي التَّطَوُّعِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالسُّكُوتِ وَلَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا سَاهِيًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ.
فَسُجُودُ السَّهْوِ يَجِبُ بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ أَوْ السُّنَنِ الْمُضَافَةِ إلَى جَمِيعِ الصَّلَاةِ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ إذَا سَكَتَ قَائِمًا كَانَ سَامِدًا مُتَحَيِّرًا، وَتَفْسِيرُ السَّامِدِ الْمُعْرِضُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ فَقَالَ: «مَالِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ».
قَالَ (ثُمَّ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ لَا تَتَعَيَّنُ رُكْنًا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَنَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَتَعَيَّنُ حَتَّى لَوْ تَرَكَ حَرْفًا مِنْهَا فِي رَكْعَةٍ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»، وَبِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِرَاءَتِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ.
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} فَتَعْيِينُ الْفَاتِحَةِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى هَذَا النَّصِّ، وَهُوَ يَعْدِلُ النَّسْخَ عِنْدَنَا، فَلَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ الْمَقْصُودُ التَّعْظِيمُ بِاللِّسَانِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ دُونَ الْعِلْمِ فَتَعَيُّنُ الْفَاتِحَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَاجِبٌ حَتَّى يُكْرَهَ لَهُ تَرْكُ قِرَاءَتِهَا وَتَثْبُتَ الرُّكْنِيَّةُ بِالنَّصِّ، وَهُوَ الْآيَةُ، وَلَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ السُّورَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مَعَهَا أَوْ قَالَ وَشَيْءٍ مَعَهَا»، وَنَحْنُ نُوجِبُ الْعَمَلَ بِهَذَا الْخَبَرِ حَتَّى لَا نَأْذَنَ لَهُ بِالِاكْتِفَاءِ بِالْفَاتِحَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ وَلَكِنْ لَا نُثْبِتُ الرُّكْنِيَّةَ بِهِ لِلْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا.
قَالَ: (وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ كَبَّرَ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي إلَى الرُّكُوعِ»، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لَا يُكَبِّرُ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَلَا عِنْدَ السُّجُودِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَأَصْحَابِهِ، وَيَرْوُونَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُتِمُّ التَّكْبِيرَ، فَأَمَّا عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَكَانُوا يُكَبِّرُونَ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ يَوْمًا فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ ذَكَّرَنِي هَذَا الْفَتَى صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ، أَوْ قَالَ: عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ»، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَا يُتِمُّ التَّكْبِيرَ أَيْ جَهْرًا أَيْ يُخَافِتُ بِآخِرِ التَّكْبِيرِ كَمَا هُوَ عَادَةُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ.
قَالَ: (وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ)، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ- رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ- وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ بِالتَّطْبِيقِ وَصُورَتُهُ أَنْ يَضُمَّ إحْدَى الْكَفَّيْنِ إلَى الْآخِرِ وَيُرْسِلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ، وَرَأَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ابْنًا لَهُ يُطْبِقُ فَنَهَاهُ فَقَالَ رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَفْعَلُ هَكَذَا فَقَالَ رَحِمَ اللَّهُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كُنَّا أُمِرْنَا بِهَذَا، ثُمَّ نُهِينَا عَنْهُ، وَفِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ حِينَ عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَالَ: «ثُمَّ ارْكَعْ وَضَعْ يَدَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ»، وَهَكَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ: (وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) وَلَا يُنْدَبُ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَصَابِعِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ إلَّا هَذَا لِيَكُونَ مِنْ الْأَخْذِ بِالرُّكْبَةِ، فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ يَا مَعْشَرَ النَّاسِ أُمِرْنَا بِالرُّكَبِ فَخُذُوا بِالرُّكَبِ.
قَالَ: (وَبَسَطَ ظَهْرَهُ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَكَعَ بَسَطَ ظَهْرَهُ حَتَّى لَوْ وُضِعَ عَلَى ظَهْرِهِ قَدَحٌ مِنْ مَاءٍ لَاسْتَقَرَّ».
قَالَ: (وَلَا يُنَكِّسُ رَأْسَهُ وَلَا يَرْفَعُهُ) وَمَعْنَاهُ يُسَوِّي رَأْسَهُ بِعَجُزِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى أَنْ يَذْبَحَ الْمُصَلِّي تَذَبُّخَ الْحِمَارِ»، يَعْنِي إذَا شَمَّ الْبَوْلَ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَرَّغَ.
قَالَ: (وَإِذَا اطْمَأَنَّ رَاكِعًا رَفَعَ رَأْسَهُ) وَالطُّمَأْنِينَةُ مَذْكُورَةٌ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: «ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى يَطْمَئِنَّ كُلُّ عُضْوٍ مِنْكَ»، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي السُّجُودِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ وَهَكَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ قَالَ: «ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى يَسْتَقِرَّ كُلُّ عُضْوٍ مِنْكَ»، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «فَإِنَّهَا مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ تَبِعَ سُنَّتِي فَقَدْ تَبِعَنِي، وَمَنْ تَبِعَنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ».
ثُمَّ (يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَيَقُولُ مَنْ خَلْفَهُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) وَلَمْ يَقُلْهَا الْإِمَامُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَقُولُهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ»، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ثَلَاثٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ، وَفِي جُمْلَتِهِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَلِأَنَّا لَا نَجِدُ شَيْئًا مِنْ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ يَأْتِي بِهِ الْمُقْتَدِي دُونَ الْإِمَامِ فَقَدْ يَخْتَصُّ الْإِمَامُ بِبَعْضِ الْأَذْكَارِ كَالْقِرَاءَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ»، فَقَسَمَ هَذَيْنِ الذِّكْرَيْنِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي وَمُطْلَقُ الْقِسْمَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُشَارِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فِي قِسْمِهِ وَلِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَقُولُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ عِنْدَ قَوْلِ الْإِمَامِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ ذَلِكَ لَكَانَتْ مَقَالَتُهُ بَعْدَ مَقَالَةِ الْمُقْتَدِي وَهَذَا خِلَافُ مَوْضُوعِ الْإِمَامَةِ.
وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي التَّهَجُّدِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ وَبِهِ نَقُولُ، فَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ عَلَى قَوْلِهِمَا فَيَجْمَعُ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ هَكَذَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ قَالَ يَقُولُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَلَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ حَثٌّ لِمَنْ خَلْفَهُ عَلَى التَّحْمِيدِ وَلَيْسَ خَلْفَهُ أَحَدٌ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كُلُّ مُصَلٍّ يَجْمَعُ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ وَهَذَا بَعِيدٌ،
فَإِنَّ الْإِمَامَ يَحُثُّ مَنْ خَلْفَهُ عَلَى التَّحْمِيدِ، فَلَا مَعْنَى لِمُقَابَلَةِ الْقَوْمِ إيَّاهُ بِالْحَثِّ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلُوا بِالتَّحْمِيدِ.
وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَزِيدُ عَلَى هَذَا مَا نُقِلَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: «مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ» إلَخْ، وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا فِي التَّهَجُّدِ.
قَالَ: (ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَسْجُدُ فَإِذَا اطْمَأَنَّ سَاجِدًا رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ فَإِذَا اطْمَأَنَّ قَاعِدًا سَجَدَ أُخْرَى وَكَبَّرَ)، وَقَدْ بَيَّنَّا أَوْ تَكَلَّمُوا أَنَّ السُّجُودَ لِمَاذَا كَانَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَثْنَى وَالرُّكُوعُ وَاحِدٌ؟ فَمَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ هَذَا تَعَبُّدِيٌّ لَا يُطْلَبُ فِيهِ الْمَعْنَى كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَقِيلَ إنَّمَا كَانَ السُّجُودُ مَثْنَى تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ أُمِرَ بِسَجْدَةٍ فَلَمْ يَفْعَلْ فَنَحْنُ نَسْجُدُ مَرَّتَيْنِ تَرْغِيمًا لَهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ فَقَالَ: «هُمَا تَرْغِيمَتَانِ لِلشَّيْطَانِ»، وَقِيلَ إنَّهُ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ الْأَرْضِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يُعَادُ إلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} الْآيَةَ.
(وَيَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، وَفِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ) لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ»، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» قَالَ عُقْبَةُ: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، وَفِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا».
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ، وَمَنْ قَالَ فِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ»، وَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا اللَّفْظِ أَدْنَى الْجَوَازِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَدْنَى الْكَمَالِ، فَإِنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ يَجُوزَانِ بِدُونِ هَذَا الذِّكْرِ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلُّ فِعْلٍ هُوَ رُكْنٌ يَسْتَدْعِي ذِكْرًا فِيهِ يَكُونُ رُكْنًا كَالْقِيَامِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَوْ شُرِعَ فِي الرُّكُوعِ ذِكْرٌ هُوَ رُكْنٌ لَكَانَ مِنْ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الرُّكُوعَ مُشَبَّهٌ بِالْقِيَامِ وَحِينَ عَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَاةَ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ شَيْئًا مِنْ الْأَذْكَارِ، وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ الْأَرْكَانَ، وَلَوْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ كَانَ أَفْضَلَ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ إمَامًا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُطَوِّلَ عَلَى وَجْهٍ يَمَلُّ الْقَوْمُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَبَبًا لِلتَّنْفِيرِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، فَإِنَّ مُعَاذًا لَمَّا طَوَّلَ الْقِرَاءَةَ «قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ».
وَكَانَ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهَا الْإِمَامُ خَمْسًا لِيَتَمَكَّنَ الْمُقْتَدِي مِنْ أَنْ يَقُولَهَا ثَلَاثًا، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ بِهَذَا وَيَزِيدُ فِي الرُّكُوعِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: «اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَلَكَ خَشَعْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَفِي السُّجُودِ: سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»، وَهَذَا مَحْمُولٌ وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ وَيَضَعُ يَدَيْهِ فِي السُّجُودِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ لِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ»، وَلِأَنَّ آخِرَ الرَّكْعَةِ مُعْتَبَرٌ بِأَوَّلِهَا فَكَمَا يَجْعَلُ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ الرَّكْعَةِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ فَكَذَلِكَ فِي آخِرِهَا وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ إذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ»، مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْعُذْرِ لِلْكِبَرِ أَوْ الْمَرَضِ وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا سَجَدَ وَضَعَ أَصَابِعَهُ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ».
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ كُلُّ عُضْوٍ مَعَهُ فَلْيُوَجِّهْ مِنْ أَعْضَائِهِ الْقِبْلَةَ مَا اسْتَطَاعَ وَيَعْتَمِدُ عَلَى رَاحَتَيْهِ» لِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، فَإِنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ أَلَا أَصِفُ لَكُمْ سُجُودَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا نَعَمْ فَسَجَدَ وَادَّعَمَ عَلَى رَاحَتَيْهِ وَرَفَعَ عَجِيزَتَهُ، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا كَانَ يَسْجُدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (وَيُبْدِي ضَبْعَيْهِ) لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ إذَا سَجَدَ أَبْدَى ضَبْعَيْهِ أَوْ أَبَّدَ ضَبْعَيْهِ» وَالْإِبْدَاءُ وَالتَّبْدِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لُغَةٌ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَجَدَ جَافَى عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «حَتَّى يُرْثَى لَهُ أَنْ يُرْحَمَ مِنْ جَهْدِهِ»، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَتَّى لَوْ أَنَّ بَهِيمَةً أَرَادَتْ أَنْ تَمُرَّ لَمَرَّتْ.
(وَلَا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الْمُصَلِّي ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ أَوْ الثَّعْلَبِ»، فَذِكْرُهُ هَذَا الْمَثَلَ دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ الْكَرَاهَةِ وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ فِي النَّفْلِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهِ لِيَكُونَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ النَّهْيَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ جَمِيعًا وَهَذَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ.
فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَحْتَفِزُ وَتَنْضَمُّ وَتُلْصِقُ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا وَعَضُدَيْهَا بِجَنْبَيْهَا هَكَذَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي بَيَانِ السُّنَّةِ فِي سُجُودِ النِّسَاءِ وَلِأَنَّ مَبْنَى حَالِهَا عَلَى السِّتْرِ فَمَا يَكُونُ أَسْتَرَ لَهَا فَهُوَ أَوْلَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ».
(وَيَنْهَضُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ حَتَّى يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَنَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَوْلَى أَنْ يَجْلِسَ جِلْسَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ يَنْهَضَ، لِحَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ جَلَسَ جِلْسَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ يَنْهَضُ»، وَلِأَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَمِنْ أَرْكَانِهَا الْقَعْدَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَتْمُ كُلِّ رَكْعَةٍ بِقَعْدَةٍ قَصِيرَةٍ أَوْ طَوِيلَةٍ.
وَلَنَا حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ نَهَضَ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ»، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَاهُنَا قَعْدَةٌ لَكَانَ الِانْتِقَالُ إلَيْهَا وَمِنْهَا بِالتَّكْبِيرِ وَلَكَانَ لَهَا ذِكْرٌ مَسْنُونٌ كَمَا فِي الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِهِمْ أَنَّهُ فَعَلَ لِأَجْلِ الْعُذْرِ بِسَبَبِ الْكِبَرِ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إنِّي امْرُؤٌ قَدْ بَدَنْتُ، فَلَا تُبَادِرُونِي بِرُكُوعٍ وَلَا سُجُودٍ»، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي بَدَّنْتُ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ، فَإِنَّ الْبَدَانَةَ هِيَ الضَّخَامَةُ وَلَمْ يُنْقَلْ فِي صِفَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي قَوْلِهِ نَهَضَ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَ قِيَامِهِ كَمَا لَا يَعْتَمِدُ عَلَى جَالِسٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ اعْتِمَادٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَكَانَ مَكْرُوهًا وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ شِبْهَ الْعَاجِزِ»، تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْعُذْرِ بِسَبَبِ الْكِبَرِ.
(وَيَحْذِفُ التَّكْبِيرَ حَذْفًا وَلَا يُطَوِّلُهُ) لِحَدِيثِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: «الْأَذَانُ جَزْمٌ وَالْإِقَامَةُ جَزْمٌ وَالتَّكْبِيرُ جَزْمٌ»، وَلِأَنَّ الْمَدَّ فِي أَوَّلِهِ لَحْنٌ مِنْ حَيْثُ الدِّينُ؛ لِأَنَّهُ يَنْقَلِبُ اسْتِفْهَامًا، وَفِي آخِرِهِ لَحْنٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، فَإِنَّ أَفْعَلَ لَا يَحْتَمِلُ الْمُبَالَغَةَ.
(وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ فِي سُجُودِهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ) لِمَا رُوِيَ: «عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَجَدَ فَتَحَ أَصَابِعَهُ»، أَيْ أَمَالَهَا إلَى الْقِبْلَةِ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَلْيُوَجِّهْ مِنْ أَعْضَائِهِ الْقِبْلَةَ مَا اسْتَطَاعَ».
قَالَ: (وَيَعْتَمِدُ بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ فِي قِيَامِهِ فِي الصَّلَاةِ) وَأَصْلُ الِاعْتِمَادِ سُنَّةٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْأَوْزَاعِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ يَتَخَيَّرُ الْمُصَلِّي بَيْنَ الِاعْتِمَادِ وَالْإِرْسَالِ وَكَانَ يَقُولُ إنَّمَا أُمِرُوا بِالِاعْتِمَادِ إشْفَاقًا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُطَوِّلُونَ الْقِيَامَ فَكَانَ يَنْزِلُ الدَّمُ إلَى رُءُوسِ أَصَابِعِهِمْ إذَا أَرْسَلُوا فَقِيلَ لَهُمْ لَوْ اعْتَمَدْتُمْ لَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ سُنَّةٌ وَاظَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ شَمَائِلَنَا بِأَيْمَانِنَا فِي الصَّلَاةِ»، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ تَحْتَ السُّرَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَأَمَّا صِفَةُ الْوَضْعِ فَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ لَفْظُ الْأَخْذِ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَفْظُ الْوَضْعِ وَاسْتَحْسَنَ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَضَعَ بَاطِنَ كَفِّهِ الْيُمْنَى عَلَى ظَاهِرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَيُحَلِّقَ بِالْخِنْصَرِ وَالْإِبْهَامِ عَلَى الرُّسْغِ لِيَكُونَ عَامِلًا بِالْحَدِيثَيْنِ، فَأَمَّا مَوْضِعُ الْوَضْعِ فَالْأَفْضَلُ عِنْدَنَا تَحْتَ السُّرَّةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْأَفْضَلُ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الصَّدْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ عَلَى النَّحْرِ، وَهُوَ الصَّدْرُ وَلِأَنَّهُ مَوْضِعُ نُورِ الْإِيمَانِ فَحِفْظُهُ بِيَدِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْلَى مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى الْعَوْرَةِ بِالْوَضْعِ تَحْتَ السُّرَّةِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ وَالْخُشُوعُ زِينَةُ الصَّلَاةِ.
وَلَنَا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَمَا رَوَيْنَا وَالسُّنَّةُ إذَا أُطْلِقَتْ تَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ الْوَضْعُ تَحْتَ السُّرَّةِ أَبْعَدُ عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَقْرَبُ إلَى سِتْرِ الْعَوْرَةِ فَكَانَ أَوْلَى.
وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَانْحَرْ نَحْرُ الْأُضْحِيَّةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالنَّحْرِ الصَّدْرَ فَمَعْنَاهُ لِتَضَعَ بِالْقُرْبِ مِنْ النَّحْرِ وَذَلِكَ تَحْتَ السُّرَّةِ، ثُمَّ قَالَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الِاعْتِمَادُ سُنَّةُ الْقِيَامِ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سُنَّةُ الْقِرَاءَةِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ هَذَا فِي الْمُصَلِّي، بَعْدَ التَّكْبِيرِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُرْسِلُ يَدَيْهِ فِي حَالَةِ الثَّنَاءِ فَإِذَا أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ اعْتَمَدَ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا فَرَغَ مِنْ التَّكْبِيرَةِ يَعْتَمِدُ.
قَالَ: (وَإِذَا قَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ افْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَجْعَلُهَا بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ وَيَقْعُدُ عَلَيْهَا وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى نَصْبًا وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَ رِجْلِهِ الْيُمْنَى نَحْوَ الْقِبْلَةِ) وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْقَعْدَتَيْنِ جَمِيعًا الْمَسْنُونُ أَنْ يَقْعُدَ مُتَوَرِّكًا وَذَلِكَ بِأَنْ يُخْرِجَ رِجْلَيْهِ مِنْ جَانِبٍ وَيُفْضِي بِأَلْيَتَيْهِ إلَى الْأَرْضِ لِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَعَدَ فِي صَلَاتِهِ قَعَدَ مُتَوَرِّكًا»، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى مِثْلَ قَوْلِنَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَطُولُ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى الْقِيَامِ وَالْقُعُودُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَقْرَبُ إلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِيَامِ، وَفِي الْقَعْدَةِ الثَّانِيَةِ يَقُولُ قَوْلَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهَا تَطُولُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقِيَامِ بَعْدَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْأَرْضِ.
وَلَنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا وَصَفَتْ قُعُودَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ فَذَكَرَتْ أَنَّهُ: «كَانَ إذَا قَعَدَ افْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَقْعُدُ عَلَيْهَا وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى نَصَبًا» وَمَا رُوِيَ بِخِلَافِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْعُذْرِ لِلْكِبَرِ وَلِأَنَّ الْقُعُودَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا أَشُقُّ عَلَى الْبَدَنِ: «وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ أَحَمْزُهَا»، أَيْ أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ وَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا كَانَ مُتَكَرِّرًا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَالثَّانِي لَا يُخَالِفُ الْأَوَّلَ فِي الصِّفَةِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَقْعُدَ مُتَوَرِّكَةً لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَتَيْنِ تُصَلِّيَانِ فَلَمَّا فَرَغَتَا دَعَاهُمَا وَقَالَ: اسْمَعَانِ، إذَا قَعَدْتُمَا فَضُمَّا بَعْضَ اللَّحْمِ إلَى الْأَرْضِ»، وَلِأَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى السَّتْرِ فِي حَقِّهِنَّ.
قَالَ (وَيَكُونُ مُنْتَهَى بَصَرِهِ فِي صَلَاتِهِ حَالَ الْقِيَامِ مَوْضِعَ سُجُودِهِ) لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا صَلَّى سَمَا بِبَصَرِهِ نَحْوَ السَّمَاءِ فَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} رَمَى بِبَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قَالَ أَبُو طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا الْخُشُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَنْ يَكُونَ مُنْتَهَى بَصَرِ الْمُصَلِّي حَالَ الْقِيَامِ مَوْضِعَ سُجُودِهِ» ثُمَّ فَسَّرَ الطَّحَاوِيُّ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُنْتَهَى بَصَرِهِ مَوْضِعَ سُجُودِهِ، وَفِي الرُّكُوعِ عَلَى ظَهْرِ قَدَمَيْهِ، وَفِي السُّجُودِ عَلَى أَرْنَبَةِ أَنْفِهِ، وَفِي الْقُعُودِ عَلَى حِجْرِهِ زَادَ بَعْضُهُمْ وَعِنْدَ التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ وَعِنْدَ التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ، فَالْحَاصِلُ أَنْ يَتْرُكَ التَّكَلُّفَ فِي النَّظَرِ فَيَكُونُ مُنْتَهَى بَصَرِهِ مَا بَيَّنَّا.
قَالَ: (وَلَا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلَاةِ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ عَلِمَ الْمُصَلِّي مَنْ يُنَاجِي مَا الْتَفَتَ»، وَلَمَّا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ: «تِلْكَ خِلْسَةٌ يَخْتَلِسُهَا الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ»، وَحَدُّ الِالْتِفَاتِ الْمَكْرُوهِ أَنْ يَلْوِيَ عُنُقَهُ وَوَجْهَهُ عَلَى وَجْهٍ يَخْرُجُ وَجْهُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، فَأَمَّا إذَا نَظَرَ بِمُؤَخَّرِ عَيْنَيْهِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْوِيَ عُنُقَهُ، فَلَا يَكُونُ مَكْرُوهًا لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُلَاحِظُ أَصْحَابَهُ فِي صَلَاتِهِ بِمُؤَخَّرِ عَيْنَيْهِ».
(وَلَا يَعْبَثُ فِي الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ وَثِيَابِهِ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ- تَعَالَى- كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا الرَّفَثَ فِي الصَّوْمِ وَالْعَبَثَ فِي الصَّلَاةِ وَالضَّحِكَ فِي الْمَقَابِرِ»، وَلَمَّا «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي، وَهُوَ يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ قَالَ لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ»، فَجَعَلَ فِعْلَهُ دَلِيلَ نِفَاقِهِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ تَأْوِيلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ الرَّجُلَ مُنَافِقٌ مُسْتَهْزِئٌ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ فَلَا؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ قَلَّمَا يَنْجُو مِنْهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ قَالَ لِيَكُنْ فِي الْفَرِيضَةِ»، إذًا فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ هُوَ مُفِيدٌ لِلْمُصَلِّي، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ أَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ عَرِقَ لَيْلَةً فِي صَلَاتِهِ فَسَلَتَ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ»؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِيهِ فَكَانَ مُفِيدًا: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الصَّيْفِ إذَا قَامَ مِنْ السُّجُودِ نَفَضَ ثَوْبَهُ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً»؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُفِيدًا حَتَّى لَا يُبْقِي صُورَةً، فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمُفِيدٍ فَيُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا»، وَالْعَبَثُ غَيْرُ مُفِيدٍ لَهُ شَيْئًا، فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ.
(وَلَا يُقَلِّبُ الْحَصَى)؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ عَبَثٍ غَيْرُ مُفِيدٍ وَالنَّهْيُ عَنْ تَقْلِيبِ الْحَصَى يَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَابِرٌ وَأَبُو ذَرٍّ وَمُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ حَتَّى قَالَ فِي بَعْضِهَا: «وَإِنْ تَتْرُكْهَا فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ مِائَةِ نَاقَةٍ سُودِ الْحَدَقَةِ تَكُونُ لَكَ»، فَإِنْ كَانَ الْحَصَى لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ السُّجُودِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُسَوِّيَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَتَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيَّ: «لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ يَا أَبَا ذَرٍّ مَرَّةً أَوْ ذَرْ» وَلِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ مُفِيدٌ لَهُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ وَضْعِ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ عَلَى الْأَرْضِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا لَا يَزِيدُ عَلَى مَرَّةٍ وَتَرْكُهُ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ فَهُوَ أَوْلَى.
قَالَ: (وَلَا يُفَرْقِعُ أَصَابِعَهُ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَى عَنْ الْفَرْقَعَةِ فِي الصَّلَاةِ»، «وَمَرَّ بِمَوْلًى لَهُ، وَهُوَ يُصَلِّي وَيُفَرْقِعُ أَصَابِعَهُ فَقَالَ أَتُفَرْقِعُ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي؟، لَا أُمَّ لَكَ»، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَنْهَى الْمُنْتَظِرَ لِلصَّلَاةِ أَنْ يُفَرْقِعَ أَصَابِعَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ»، فَفِي الصَّلَاةِ أَوْلَى، وَهُوَ نَوْعُ عَبَثٍ غَيْرُ مُفِيدٍ.
قَالَ: (وَلَا يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى خَاصِرَتِهِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ: «نَهَى عَنْ التَّخَصُّرِ فِي الصَّلَاةِ»، وَقِيلَ: إنَّهُ اسْتِرَاحَةُ أَهْلِ النَّارِ وَلَا رَاحَةَ لَهُمْ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ أُهْبِطَ مُتَخَصِّرًا وَلِأَنَّهُ فِعْلُ الْمُصَابِ وَحَالُ الصَّلَاةِ حَالٌ يُنَاجِي فِيهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ- تَعَالَى- فَهُوَ حَالُ الِافْتِخَارِ لَا حَالَ إظْهَارِ الْمُصِيبَةِ وَلِأَنَّهُ فِعْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ.
قَالَ: (وَلَا يُقْعِي إقْعَاءً) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَى أَنْ يُقْعِيَ الْمُصَلِّي إقْعَاءَ الْكَلْبِ»، وَفِي تَفْسِيرِ الْإِقْعَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْصِبَ قَدَمَيْهِ كَمَا يَفْعَلُهُ فِي السُّجُودِ وَيَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى: «نَهْي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ».
الثَّانِي: أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيَنْصِبَ رُكْبَتَيْهِ نَصْبًا وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ إقْعَاءَ الْكَلْبِ يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إلَّا أَنَّ إقْعَاءَ الْكَلْبِ يَكُونُ فِي نَصْبِ الْيَدَيْنِ وَإِقْعَاءَ الْآدَمِيِّ يَكُونُ فِي نَصْبِ الرُّكْبَتَيْنِ إلَى صَدْرِهِ.
قَالَ: (وَلَا يَتَرَبَّعُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ)، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَأَى ابْنَهُ يَتَرَبَّعُ فِي الصَّلَاةِ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَأَيْتُكَ تَفْعَلُهُ يَا أَبَتِ فَقَالَ إنَّ رِجْلَيَّ لَا تَحْمِلَانِي، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ غَلَّلَ فِيهِ فَقَالَ التَّرَبُّعُ جُلُوسُ الْجَبَابِرَةِ فَلِهَذَا كُرِهَ فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ يَتَرَبَّعُ فِي جُلُوسِهِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ»، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ: «كَانَ يَأْكُلُ يَوْمًا مُتَرَبِّعًا فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كُلْ كَمَا تَأْكُلُ الْعَبِيدُ»، وَهُوَ كَانَ مُنَزَّهًا عَنْ أَخْلَاقِ الْجَبَابِرَةِ وَكَذَلِكَ عَامَّةُ جُلُوسِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَرَبِّعًا وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ الصَّحِيحَةَ أَنْ يُقَالَ الْجُلُوسُ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ أَقْرَبُ إلَى التَّوَاضُعِ مِنْ التَّرَبُّعِ فَهُوَ أَوْلَى فِي حَالِ الصَّلَاةِ إلَّا عِنْدَ الْعُذْرِ.
قَالَ: (لَوْ مَسَحَ جَبْهَتَهُ مِنْ التُّرَابِ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ لَا بَأْسَ بِهِ)؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مُفِيدٌ، فَإِنَّ الْتِصَاقَ التُّرَابِ بِجَبْهَتِهِ نَوْعُ مُثْلَةٍ فَرُبَّمَا كَانَ الْحَشِيشُ الْمُلْتَصِقُ بِجَبْهَتِهِ يُؤْذِيهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلَوْ مَسَحَ بَعْدَ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدَعَهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَتَرَّبُ ثَانِيًا وَثَالِثًا، فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا وَلَوْ مَسَحَ لِكُلِّ مَرَّةٍ كَانَ عَمَلًا كَثِيرًا، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَجَعَلُوا الْقَوْلَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ لَا مَفْصُولًا عَنْ قَوْلِهِ أَكْرَهُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْكِتَابِ قُلْتُ لَوْ مَسَحَ جَبْهَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ لَا أَكْرَهُهُ يَعْنِي لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَكْرَهُهُ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: «أَرْبَعٌ مِنْ الْجَفَاءِ أَنْ تَبُولَ قَائِمًا وَأَنْ تَسْمَعَ النِّدَاءَ فَلَمْ تُجِبْهُ وَأَنْ تَنْفُخَ فِي صَلَاتِكَ وَأَنْ تَمْسَحَ جَبْهَتَكَ فِي صَلَاتِكَ»، وَتَأْوِيلُهُ، عِنْدَ مَنْ لَا يَكْرَهُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمَسْحُ بِالْيَدَيْنِ كَمَا يَفْعَلُهُ الدَّاعِي إذَا فَرَغَ مِنْ الدُّعَاءِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ.
قَالَ: (وَالتَّشَهُّدُ أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)، وَهُوَ تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَشَهُّدُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَصِفَتُهُ أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَهُوَ يَقُولُ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ مِنْ فِتْيَانِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا يَخْتَارُونَ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ آخِرًا، فَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَهُوَ مِنْ الشُّيُوخِ يَنْقُلُ مَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا نَقَلَ التَّطْبِيقَ وَغَيْرَهُ وَلِأَنَّ تَشَهُّدَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} وَالسَّلَامُ بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ أَكْثَرُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ}: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَأْخُذُ بِتَشَهُّدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَصُورَتُهُ التَّحِيَّاتُ النَّامِيَاتُ الزَّاكِيَاتُ الْمُبَارَكَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ وَقَالَ: إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَّمَ النَّاسَ التَّشَهُّدَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اخْتَارَ تَشَهُّدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الطَّيِّبَاتُ وَالصَّلَوَاتُ لِلَّهِ وَالْبَاقِي كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَفِيهِ حِكَايَةٌ، فَإِنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَبِوَاوٍ أَمْ بِوَاوَيْنِ؟ فَقَالَ: بِوَاوَيْنِ.
فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ كَمَا بَارَكَ فِي لَا وَلَا، ثُمَّ وَلَّى فَتَحَيَّرَ أَصْحَابُهُ وَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إنَّ هَذَا سَأَلَنِي عَنْ التَّشَهُّدِ أَبِوَاوَيْنِ كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَمْ بِوَاوٍ كَتَشَهُّدِ أَبِي مُوسَى؟ قُلْتُ: بِوَاوَيْنِ.
قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ كَمَا بَارَكَ فِي شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ.
وَإِنَّمَا أَخَذْنَا بِتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِحُسْنِ ضَبْطِهِ وَنَقْلِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ أَخَذَ حَمَّادٌ بِيَدِي وَقَالَ حَمَّادٌ أَخَذَ إبْرَاهِيمُ بِيَدِي وَقَالَ إبْرَاهِيمُ أَخَذَ عَلْقَمَةُ بِيَدِي وَقَالَ عَلْقَمَةُ أَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِيَدِي وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي وَعَلَّمَنِي التَّشَهُّدَ كَمَا كَانَ يَعْلَمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ وَكَانَ يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِالْوَاوِ وَالْأَلِفِ»، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ لَمْ يَصِحَّ مِنْ التَّشَهُّدِ إلَّا مَا نَقَلَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَعَنْ خُصَيْفٍ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي التَّشَهُّدِ فَبِمَاذَا تَأْمُرُنِي أَنْ آخُذَ قَالَ بِتَشَهُّدِ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلِأَنَّ تَشَهُّدَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَبْلَغُ فِي الثَّنَاءِ، فَإِنَّ الْوَاوَاتِ تَجْعَلُ كُلَّ لَفْظِ ثَنَاءً بِنَفْسِهِ.
(وَالسَّلَامُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ مِنْهُ بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ) وَتَرْجِيحُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَقْدِيمِ الْأَحْدَاثِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَأَحَدٌ لَا يَقُولُ بِهِ وَتَرْجِيحُ مَالِكٍ لَيْسَ بِقَوِيٍّ أَيْضًا، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَّمَ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ كَمَا هُوَ تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَدَلَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِهِ أَوْلَى.
(وَيُكْرَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّشَهُّدِ شَيْئًا أَوْ يَبْتَدِئَ قَبْلَهُ بِشَيْءٍ) وَمُرَادُهُ مَا نُقِلَ شَاذًّا فِي أَوَّلِ التَّشَهُّدِ بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الْأَسْمَاءِ، وَفِي آخِرِهِ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدَيْنِ الْحَقِّ لِيَظْهَرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ نَقْلُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ وَكَانَ يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِالْوَاوِ وَالْأَلِفِ فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ التَّطَوُّعَاتِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ بِالنَّصِّ فَجَوَّزْنَا الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا يَزِيدُ فِي الْفَرَائِضِ عَلَى التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَزِيدُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ تَشَهُّدٌ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ».
وَلَنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى»، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقْعُدُ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ يَعْنِي الْحِجَارَةَ الْمُحْمَاةَ يَحْكِي الرَّاوِي بِهَذَا سُرْعَةَ قِيَامِهِ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى التَّشَهُّدِ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فِي التَّطَوُّعَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ أَوْ مُرَادُهُ سَلَامُ التَّشَهُّدِ، فَأَمَّا فِي الرَّابِعَةِ فَيَدْعُو بَعْدَهُ وَيَسْأَلُ حَاجَتَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْرَدَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ بَعْدَ التَّشَهُّدِ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَدْعُو حَاجَتَهُ وَيَسْتَغْفِرُ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ التَّشَهُّدَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ- تَعَالَى-.
وَيُعْقِبُهُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي التَّحْمِيدِ الْمَعْهُودِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يَقُولُ يُجْزِئُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْكَانِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا.
وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى آلِهِ وَجْهَانِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فِي صَلَاتِهِ»، وَلِأَنَّ اللَّهَ- تَعَالَى- أَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْإِيجَابِ وَلَا تَجِبُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَدَلَّ أَنَّهَا تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ.
وَلَنَا حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرَفْنَا السَّلَامَ عَلَيْكَ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ فَقَالَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى الْ مُحَمَّدٍ»، فَهُوَ لَمْ يُعَلِّمْهُمْ حَتَّى سَأَلُوهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَبَيَّنَهُ لَهُمْ قَبْلَ السُّؤَالِ وَحِينَ عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ لَمْ يَذْكُرْ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ صَلَاةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ كَالصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ نَقُولُ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ الْكَمَالِ كَقَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ لِجَارٍ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ»، وَبِهِ نَقُولُ وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً، فَإِنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَبِهِ نَقُولُ وَكَانَ الطَّحَاوِيُّ يَقُولُ كُلَّمَا سَمِعَ ذِكْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ ذَكَرَهُ بِنَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ، وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
(ثُمَّ يَدْعُو بِحَاجَتِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} قِيلَ مَعْنَاهُ إذَا فَرَغْتُ مِنْ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ لِلدُّعَاءِ وَارْغَبْ إلَى اللَّهِ- تَعَالَى- بِالْإِجَابَةِ: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ»، وَلَمَّا عَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ التَّشَهُّدَ قَالَ لَهُ: «وَإِذَا قُلْتَ هَذَا فَاخْتَرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ»، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَدْعُو بِكَلِمَاتِ مِنْهُنَّ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ».
قَالَ: (ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ إحْدَاهُمَا عَنْ يَمِينِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَالْأُخْرَى عَنْ يَسَارِهِ مِثْلُ ذَلِكَ) لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَتَحْلِيلُهَا السَّلَامُ»، وَقَدْ جَاءَ أَوَانُ التَّحْلِيلِ.
وَمَنْ تَحَرَّمَ لِلصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ غَابَ عَنْ النَّاسِ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يُكَلِّمُونَهُ وَعِنْدَ التَّحْلِيلِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ رَجَعَ إلَيْهِمْ فَيُسَلِّمُ.
والتَّسْلِيمَتَانِ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَكِبَارِ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَهَكَذَا رَوَتْ عَائِشَةُ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ أَوْلَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ: «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى»، فَأَمَّا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فَكَانَتْ تَقِفُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الصِّبْيَانِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا لَمْ يَسْمَعَا التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ الثَّانِيَةُ أَخْفَضُ مِنْ الْأُولَى».
(ثُمَّ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى يُحَوِّلُ وَجْهَهُ عَلَى يَمِينِهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ عَلَى يَسَارِهِ) لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَوِّلُ وَجْهَهُ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ أَوْ قَالَ الْأَيْسَرِ»، يَحْكِي الرَّاوِي بِهَذَا شِدَّةَ الْتِفَاتِهِ.
قَالَ: (وَيَنْوِي بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ الْحَفَظَةِ وَالرِّجَالِ وَبِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ مَنْ عَنْ يَسَارِهِ مِنْهُمْ)؛ لِأَنَّهُ يَسْتَقْبِلُهُمْ بِوَجْهِهِ وَيُخَاطِبُهُمْ بِلِسَانِهِ فَيَنْوِيهِمْ بِقَلْبِهِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يَصِيرُ عَزِيمَةً بِالنِّيَّةِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّ اللَّهَ- تَعَالَى- وَرَاءَ لِسَانِ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ فَلْيَنْظُرْ امْرُؤٌ مَا يَقُولُ»، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَفَظَةَ هُنَا وَأَخَّرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَا ذَكَرَ هُنَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ وَمَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ الْآخِرِ فِي تَفْضِيلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا، فَإِنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَتَّبَ بِالنِّيَّةِ فَيُقَدِّمُ الرِّجَالَ عَلَى الصِّبْيَانِ وَلَكِنَّ مُرَادَهُ تَعْمِيمُ الْفَرِيقَيْنِ بِالنِّيَّةِ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ يَخُصُّ بِهَذِهِ النِّيَّةِ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَأَمَّا الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَانَ يَقُولُ يَنْوِي جَمِيعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَنْ يُشَارِكُهُ، وَمَنْ لَا يُشَارِكُهُ وَهَذَا عِنْدَنَا فِي سَلَامِ التَّشَهُّدِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا قَالَ الْعَبْدُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»، فَأَمَّا فِي سَلَامِ التَّحْلِيلِ فَيُخَاطِبُ مَنْ بِحَضْرَتِهِ فَيَخُصُّهُ بِالنِّيَّةِ وَالْمُقْتَدِي يَنْوِي كَذَلِكَ فَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَقُولُ الْمُقْتَدِي يُسَلِّمُ ثَلَاثَ تَسْلِيمَاتٍ إحْدَاهُنَّ لِرَدِّ سَلَامِ الْإِمَامِ وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ مَقْصُودَ الرَّدِّ حَاصِلٌ بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ إذْ لَا فَرْقَ فِي الْجَوَابِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ نَوَاهُ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ نَوَاهُ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ بِحِذَائِهِ نَوَاهُ فِي الْأُولَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى الْجَانِبَانِ فِي حَقِّهِ تَرَجَّحَ الْجَانِبُ الْأَيْمَنُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَنْوِيهِ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَظًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
قَالَ: (وَيُكْرَهُ فِي الصَّلَاةِ تَغْطِيَةُ الْفَمِ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَى أَنْ يُغَطِّيَ الْمُصَلِّي فَاهُ»، وَلِأَنَّهُ إنْ غَطَّاهُ بِيَدِهِ فَقَدْ قَالَ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ غَطَّاهُ بِثَوْبٍ فَقَدْ نَهَى عَنْ التَّلَثُّمِ فِي الصَّلَاةِ، وَفِيهِ تَشَبُّهٌ بِالْمَجُوسِ فِي عِبَادَتِهِمْ النَّارَ.
قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ، وَهُوَ مُعْتَجِرٌ): «لِنَهْيِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الِاعْتِجَارِ فِي الصَّلَاةِ»، وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَشُدَّ الْعِمَامَةَ حَوْلَ رَأْسِهِ وَيُبْدِيَ هَامَتَهُ مَكْشُوفًا كَمَا يَفْعَلُهُ الشُّطَّار وَقِيلَ أَنْ يَشُدَّ بَعْضَ الْعِمَامَةِ عَلَى رَأْسِهِ وَبَعْضَهَا عَلَى بَدَنِهِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ لَا يَكُونُ الِاعْتِجَارُ إلَّا مَعَ تَنَقُّبٍ، وَهُوَ أَنْ يَلُفَّ بَعْضَ الْعِمَامَةِ عَلَى رَأْسِهِ وَطَرَفًا مِنْهُ يَجْعَلُهُ شِبْهَ الْمِعْجَرِ لِلنِّسَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَلُفَّهُ حَوْلَ وَجْهِهِ.
قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ، وَهُوَ عَاقِصٌ) لِحَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ»، وَإِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يُصَلِّي، وَهُوَ عَاقِصٌ شَعْرَهُ فَقَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى جَنْبِهِ فَحَلَّهُ فَنَظَرَ إلَيْهِ شِبْهَ الْمُغْضَبِ فَقَالَ أَقْبِلْ عَلَى صَلَاتِكَ يَا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَانَا عَنْ هَذَا.
وَالْعَقْصُ فِي اللُّغَةِ الْإِحْكَامُ فِي الشَّدِّ حَتَّى قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنْ يَجْمَعَ شَعْرَهُ عَلَى هَامَتِهِ وَيَشُدُّهُ بِخَيْطٍ أَوْ بِخِرْقَةٍ أَوْ بِصَمْغٍ لِيَتَلَبَّدَ وَقِيلَ أَنْ يَلُفَّ ذَوَائِبَهُ حَوْلَ رَأْسِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِنَّ.
قَالَ: (وَيَضَعُ رُكْبَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ قَبْلَ يَدَيْهِ إذَا انْحَطَّ لِلسُّجُودِ) وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ لِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ»، وَلَنَا حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ».
وَرَوَى الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَى أَنْ يَبْرُكَ الْمُصَلِّي بُرُوكَ الْإِبِلِ وَقَالَ لَيَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ»، يَعْنِي أَنَّ الْإِبِلَ فِي بُرُوكِهَا تَبْدَأُ بِالْيَدِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ الْمُصَلِّي بِالرِّجْلِ وَلِأَنَّهُ يَضَعُ أَوَّلًا مَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْأَرْضِ فَيَضَعُ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ وَجْهَهُ، وَفِي الرَّفْعِ يَرْفَعُ أَوَّلًا مَا كَانَ أَبْعَدَ عَنْ الْأَرْضِ فَيَرْفَعُ وَجْهَهُ، ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ.
قَالَ: (وَيُخْفِي الْإِمَامُ التَّعَوُّذَ وَالتَّسْمِيَةَ وَالتَّشَهُّدَ وَآمِينَ وَرَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) أَمَّا التَّعَوُّذُ وَالتَّسْمِيَةُ فَقَدْ بَيَّنَّا وَالتَّشَهُّدُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ الْجَهْرُ بِالتَّشَهُّدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّاسُ تَوَارَثُوا الْإِخْفَاءَ بِالتَّشَهُّدِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَالتَّوَارُثُ كَالتَّوَاتُرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» فَقَدْ طَعَنُوا فِيهِ وَقَالُوا مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقُولُهَا أَصْلًا فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ جَوَابُهُ أَنَّهُ يُخْفِي بِهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ عَرَفَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ لَا يَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ لِحُرْمَةِ قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِمَا أَنَّهُ يُخْفِي بِهَا إذَا كَانَ يَقُولُهَا كَمَا فَرَّعَ مَسَائِلَ الْمُزَارَعَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى جَوَازَهَا، فَأَمَّا آمِينَ فَالْإِمَامُ يَقُولُهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْفَاتِحَةِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ»، وَالْقِسْمَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقُولُهَا.
وَلَنَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَوْا زِيَادَةٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: «فَقُولُوا آمِينَ»، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا وَهَذَا اللَّفْظُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجْهَرُ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا وَمَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَجْهَرُ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ آمِينَ وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ»، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ فِي صَلَاتِهِ آمِينَ وَخَفَضَ بِهَا صَوْتَهُ»، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِهِمْ أَنَّهُ قَالَ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا أَوْ كَانَ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ أَنَّ الْإِمَامَ يُؤَمِّنُ كَمَا يُؤَمِّنُ الْقَوْمُ، فَإِنَّهُ دُعَاءٌ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ عَلَى مَا قَالَ الْحَسَنُ اللَّهُمَّ أَجِبْ، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَدْعُو وَهَارُونُ كَانَ يُؤَمِّنُ.
وَالْإِخْفَاءُ فِي الدُّعَاءِ أَوْلَى قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي»، وَفِي التَّأْمِينِ لُغَتَانِ أَمِينَ بِالْقَصْرِ وَآمِينَ بِالْمَدِّ وَالْمَدُّ يَدُلُّ عَلَى يَاءِ النِّدَاءِ مَعْنَاهُ يَا آمِينَ كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ أَزِيدُ يَعْنِي يَا زَيْدُ.
وَمَا كَانَ مِنْ النَّفْخِ غَيْرَ مَسْمُوعٍ فَهُوَ تَنَفُّسٌ لَا بُدَّ لِلْحَيِّ مِنْهُ، فَلَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ مَسْمُوعًا أَفْسَدَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَلَمْ يُفْسِدْهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّأْفِيفَ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ صَلَاتُهُ تَامَّةٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّأْفِيفَ، وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ: «عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ أُفّ أُفّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنَّكَ لَا تُعَذِّبُهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ»، وَلِأَنَّ هَذَا تَنَفُّسٌ وَلَيْسَ بِكَلَامٍ فَالْكَلَامُ مَا يَجْرِي فِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ وَلَهُ مَعْنًى مَفْهُومٌ وَلِهَذَا قَالَ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ إذَا أَرَادَ بِهِ التَّأْفِيفَ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ أَفَّفَ يُؤَفِّفُ تَأْفِيفًا كَانَ قَطْعًا، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ عَيْنُهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ فَلَوْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إنَّمَا تَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَقَاسَهُ بِالتَّنَحْنُحِ وَالْعُطَاسِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قَطْعًا، وَإِنْ سُمِعَ فِيهِ حُرُوفٌ مُهَجَّاةٌ، وَهُوَ أَصْوَبُ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: «أَنَّ النَّبِيَّ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَرَّ بِمَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ رَبَاحٌ، وَهُوَ يَنْفُخُ التُّرَابَ مِنْ مَوْضِعِ سُجُودِهِ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ نَفَخَ فِي صَلَاتِهِ فَقَدْ تَكَلَّمَ»، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ أُفٍّ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ حُرُوفٌ مُهَجَّاةٌ وَلَهُ مَعْنًى مَفْهُومٌ يُذْكَرُ لِمَقْصُودٍ قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} فَجَعَلَهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْقَائِلُ يَقُولُ:
أُفًّا وَتَفًّا لِمَنْ مَوَدَّتُهُ إنْ ** غِبْتُ عَنْهُ سُوَيْعَةً زَالَتْ

وَإِنْ مَالَتْ الرِّيحُ هَكَذَا ** وَكَذَا مَال مَعَ الرِّيحِ أَيْنَمَا مَالَتْ

وَالْكَلَامُ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ بِخِلَافِ التَّنَحْنُحِ، فَإِنَّهُ لِإِصْلَاحِ الْحَلْقِ لِيَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ الْقِرَاءَةِ.
وَالْعُطَاسُ مِمَّا لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَكَانَ عَفْوًا بِخِلَافِ التَّأْفِيفِ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ هِرٌّ وَنَحْوَهُ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ الْكُسُوفِ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ مُبَاحًا، ثُمَّ انْتَسَخَ.
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ الْفَتْحِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ»، وَسَأَلَ ثَوْبَانُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ: «فَقَالَ يَا ثَوْبَانُ أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ أَوْ قَالَ أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ».
(وَصِفَةُ) التَّوَشُّحِ أَنْ يَفْعَلَ بِالثَّوْبِ مَا يَفْعَلُهُ الْقَصَّارُ فِي الْمِقْصَرَةِ إذَا لَفَّ الْكِرْبَاسَ عَلَى نَفْسِهِ، جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إذَا كَانَ ثَوْبُكَ وَاسِعًا فَاتَّشِحْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاِتَّزِرْ بِهِ»، وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا إذَا كَانَ الثَّوْبُ صَفِيقًا يَحْصُلُ بِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا يَصِفُ مَا تَحْتَهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، فَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي قَمِيصٍ وَاحِدٍ.
(وَذَكَرَ) ابْنُ شُجَاعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَزُرَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ بِحَيْثُ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى عَوْرَتِهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ مُلْتَحِفًا لَا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى عَوْرَتِهِ تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ لِحَدِيثِ: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ»، وَسَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَقَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ أَرْسَلْتُكَ فِي حَاجَةٍ كُنْتَ مُنْطَلِقًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: لَا.
فَقَالَ: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ فِعْلُ أَهْلِ الْجَفَاءِ، وَفِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ أَبْعَدُ عَنْ الْجَفَاءِ، وَفِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ مِنْ أَخْلَاقِ الْكِرَامِ.
(وَيُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَرْفَعَ ثِيَابَهُ أَوْ يَكُفَّهَا أَوْ يَرْفَعَ شَعْرَهُ) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ وَأَنْ لَا أَكُفَّ ثَوْبًا وَلَا شَعْرًا» وَقَالَ «إذَا طَوَّلَ أَحَدُكُمْ شَعْرَهُ فَلْيَدَعْهُ يَسْجُدْ مَعَهُ» قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ أَجْرٌ بِكُلِّ شَعْرَةٍ، ثُمَّ كَفُّهُ الثَّوْبَ وَالشَّعْرَ لِكَيْ لَا يَتَتَرَّبَ نَوْعُ تَجَبُّرٍ وَيُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي مَا هُوَ مِنْ أَخْلَاقِ الْجَبَابِرَةِ.
وَيَسْجُدُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ وَاظَبَ عَلَى هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ تَمَامُ السُّجُودِ، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى الْجَبْهَةِ دُونَ الْأَنْفِ جَازَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى الْأَنْفِ دُونَ الْجَبْهَةِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُكْرَهُ وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا- وَهُوَ رِوَايَةُ أُسَيْدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَمَّا الشَّافِعِيُّ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لَمْ يُمِسَّ أَنْفَهُ الْأَرْضَ فِي سُجُودِهِ كَمَا يُمِسُّ جَبْهَتَهُ، فَلَا سُجُودَ لَهُ»، وَالْمُرَادُ بِهَذَا عِنْدَنَا نَفْيُ الْكَمَالِ لَا نَفْيُ الْجَوَازِ.
وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا- بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ فَرِيضَةٌ وَعَلَى الْأَنْفِ تَطَوُّعٌ» فَإِذَا تَرَكَ مَا هُوَ الْفَرْضُ لَا يُجْزِئُهُ، ثُمَّ الْأَنْفُ تَبَعٌ لِلْجَبْهَةِ فِي السُّجُودِ كَمَا أَنَّ الْأُذُنَ تَبَعٌ لِلرَّأْسِ فِي الْمَسْحِ، وَلَوْ اكْتَفَى بِمَسْحِ الْأُذُنِ عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ لَا يُجْزِئُهُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ احْتَجَّ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنَّ زَيْدَ بْنَ رُكَانَةَ كَانَ يُصَلِّي وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ فَكَانَ إذَا سَجَدَ سَقَطَ عَلَى جَبْهَتِهِ فَنَادَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إذَا أَمْسَسْتَ أَنْفَكَ الْأَرْضَ أَجْزَأَكَ، وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ السُّجُودُ عَلَى الْوَجْهِ كَمَا فُسِّرَ الْأَعْضَاءُ السَّبْعَةُ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ وَالرُّكْبَتَانِ وَالْقَدَمَانِ.
وَوَسَطُ الْوَجْهِ الْأَنْفُ فَبِالسُّجُودِ عَلَيْهِ يَكُونُ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ، وَهُوَ أَحَدُ أَطْرَافِ الْجَبْهَةِ، فَإِنَّ عَظْمَ الْجَبْهَةِ مُثَلَّثٌ وَالسُّجُودُ عَلَى أَحَدِ أَطْرَافِهِ كَالسُّجُودِ عَلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ الْأَنْفَ مَسْجِدٌ حَتَّى إذَا كَانَ بِجَبْهَتِهِ عُذْرٌ يَلْزَمُهُ السُّجُودُ عَلَى الْأَنْفِ وَمَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ لَا يَصِيرُ مَسْجِدًا بِالْعُذْرِ فِي الْمَسْجِدِ كَالْخَدِّ وَالذَّقَنِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَسْجِدٌ فَبِالسُّجُودِ عَلَيْهِ يَحْصُلُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَقَالَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} وَالْمُرَادُ مَا يَقْرَبُ مِنْ الذَّقَنِ، وَالْأَنْفِ أَقْرَبُ إلَى الذَّقَنِ مِنْ الْجَبْهَةِ، فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.