فصل: بَابُ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدُّ الزِّنَا لَا يُقَامُ بِالْإِقْرَارِ إلَّا بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يُقَامُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَالَ ابْنُ لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يُقَامُ بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اُغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، وَأَنَّ الْغَامِدِيَّةَ لَمَّا جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: إنَّ بِي حَبَلًا مِنْ الزِّنَا، قَالَ: «اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي حَمْلَك ثُمَّ رَجَمَهَا»، وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْأَقَارِيرَ الْأَرْبَعَةَ وَاعْتُبِرَ هَذَا الْحَقُّ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ فَمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ الْوَاحِدِ.
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْرَارَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالشَّهَادَةِ فِي الْعَدَدِ، فَإِنَّ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ الْعَدَدَ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْعَدَالَةُ تُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الذُّكُورَةُ وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَهَذَا لِأَنَّ زِيَادَةَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ تَحْصُلُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَكْرَارِ الْكَلَامِ مِنْ وَاحِدٍ، وَفِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ سُقُوطُ حَدٍّ عَنْ الْقَاذِفِ يُعْتَبَرُ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، فَكَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ الْآخَرِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اعْتَبَرَ الْإِقْرَارَ بِالشَّهَادَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ أَحَدُ حُجَّتَيْ الزِّنَا، ثُمَّ فِي الشَّهَادَةِ الْمُعْتَبَرُ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ دُونَ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ حَدِيثُ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الثَّالِثِ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الرَّابِعِ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ»، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَأَنَّ هَذَا لِلْآخَرِ فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْآنَ أَقْرَرْتَ أَرْبَعًا فَبِمَنْ زَنَيْتَ»، وَفِي رِوَايَةٍ «الْآنَ شَهِدْتَ عَلَى نَفْسِك أَرْبَعًا فَبِمَنْ زَنَيْتَ؟ قَالَ: بِفُلَانَةَ، قَالَ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَهَا أَوْ لَمَسْتَهَا بِشَهْوَةٍ، لَعَلَّك بَاشَرْتَهَا فَأَبَى إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِصَرِيحِ الزِّنَا فَقَالَ: أَبِكَ خَبَلٌ؟ أَبِكَ جُنُونٌ؟»، وَفِي رِوَايَةٍ «بَعَثَ إلَى أَهْلِهِ هَلْ يُنْكِرُونَ مِنْ عَقْلِهِ شَيْئًا؟ فَقَالُوا: لَا فَسَأَلَ عَنْ إحْصَانِهِ فَوَجَدَهُ مُحْصَنًا فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ».
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَضَ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَحَكَمَ بِالرَّابِعَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَدَدُ مِنْ شَرْطِهِ لَمْ يَسَعْهُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ عَلَى مَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَنْبَغِي لِوَالٍ عِنْدَهُ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ أَلَّا يُقِيمَهُ»، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ لَمَّا تَمَّتْ الْحُجَّةُ كَيْفَ لَمْ يُعْرِضْ عَنْهُ؟ وَلَكِنَّهُ قَالَ: الْآنَ أَقْرَرْت أَرْبَعًا وَاشْتَغَلَ بِطَلَبِ مَا يَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ فَحِينَ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ اشْتَغَلَ بِالْإِقَامَةِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّمَا أَعْرَضَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَحَسَّ بِهِ الْجُنُونَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ثَائِرَ الرَّأْسِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ: «أَبِك خَبَلٌ؟» ثُمَّ لَمَّا رَأَى إصْرَارَهُ عَلَى كَلَامٍ وَاحِدٍ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ جُنُونٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: الْآنَ أَقْرَرْتَ أَرْبَعًا، وَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ أَنَّ الْإِعْرَاضَ قَبْلَ هَذَا لِعَدَمِ قِيَامِ الْحُجَّةِ، وَقَدْ جَاءَ تَائِبًا مُسْتَسْلِمًا مُؤْثِرًا عُقُوبَةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا دَلِيلَ جُنُونِهِ؟ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَلَبِ مَا يَدْرَأُ بِهِ عَنْهُ الْحَدَّ، كَمَا لَقَّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ بِقَوْلِهِ: أَسَرَقْت؟ مَا إخَالُهُ سَرَقَ، أَسَرَقْتِ؟ قَوْلِي لَا، وَإِنَّمَا كَانَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ مِنْ الْبَادِيَةِ، وَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا عَلَامَةَ الْأَبْرَارِ فَقَالَ «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرِينَ لَا يُؤْبَهُ بِهِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا وَيَقُولُ الْمَذْكُورُ عَدَدُ الْأَقَارِيرِ دُونَ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدْ وُجِدَ اخْتِلَافُ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَدَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى تَوَارَى بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ رَجَعَ»، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «اذْهَبْ وَيْلَك فَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ فَذَهَبَ حَتَّى غَابَ عَنْ بَصَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ» فَالْمُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ دُونَ الْقَاضِي، حَتَّى إذَا غَابَ عَنْ بَصَرِ الْقَاضِي فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَكْفِي هَذَا لِاخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ أَقَرَّ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى إقْرَارَيْنِ كَانَا مِنْهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَكَانَا كَإِقْرَارٍ وَاحِدٍ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَهُ أَقْرَرْت ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إنْ أَقْرَرْت الرَّابِعَةَ رَجَمَك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: إيَّاكَ وَالرَّابِعَةَ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ وَعَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: كُنَّا أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَحَدَّثُ أَنَّ مَاعِزًا لَوْ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ مَا أَقَرَّ ثَلَاثًا مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ مَنْ يَرْجُمُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ عَدَدِ الْأَقَارِيرِ كَانَ مَعْرُوفًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: «فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» الِاعْتِرَافُ الْمَعْرُوفُ فِي الزِّنَا، وَهُوَ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ.
وَالصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ أَنَّهَا أَقَرَّتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ هَكَذَا ذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ الْأَقَارِيرَ مِنْهَا كَانَتْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ قَبْلَ الْوَضْعِ وَبَعْدَ الْوَضْعِ وَبَعْدَ مَا طَهُرَتْ مِنْ نِفَاسِهَا وَبَعْدَ مَا فَطَمَتْ وَلَدَهَا، وَلِهَذَا لَمْ تَتَّفِقْ الرِّوَايَةُ عَلَى نَقْلِ الْأَقَارِيرِ الْأَرْبَعَةِ فِي حَدِيثِهَا، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَتُرِيدُ أَنْ تَرْدُدَنِي، كَمَا رَدَدْت مَاعِزًا لَا يَكَادُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ تَرْدِيدَ مَاعِزٍ كَانَ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَلَا يُظَنُّ بِهَا أَنَّهَا جَاءَتْ لِطَلَبِ التَّطْهِيرِ ثُمَّ تَعْتَرِضُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَاعْتِبَارُ هَذَا الْحَقِّ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ بَاطِلٌ، فَقَدْ ظَهَرَ فِيهَا مِنْ التَّغْلِيظِ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ النِّسْبَةَ إلَى هَذَا الْفِعْلِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ وَمُوجِبٌ لِلِّعَانِ إذَا حَصَلَ مِنْ الزَّوْجِ فِي زَوْجَتِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ مِنْ الْعَدَدِ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ لِلتَّغْلِيظِ، فَكَذَلِكَ اعْتِبَارُ عَدَدِ الْإِقْرَارِ إلَّا أَنَّ الْعَدَدَ فِي الشَّهَادَةِ يَثْبُتُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بِدُونِ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الْإِقْرَارِ حُكْمًا إلَّا بِاخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا تَكَرَّرَ مِنْ وَاحِدٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِطَرِيقِ الْإِخْبَارِ يُجْعَلُ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى التَّغْلِيظِ بِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الْإِقْرَارِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ لَا فِي الْإِقْرَارِ الْمُسْقِطِ لِلْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّصْرِيحَ بِلَفْظِ الزِّنَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ دُونَ الْمُسْقِطِ؟ وَكَذَلِكَ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ بِالشُّهُودِ حَتَّى إذَا قَذَفَ امْرَأَةً بِالزِّنَا فَشَهِدَ عَلَيْهَا شَاهِدَانِ أَنَّهَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا سَقَطَ حَدٌّ عَنْ الْقَاذِفِ.
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّ الْمُعْتَرَفَ بِالزِّنَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: اُطْرُدُوا الْمُعْتَرَفِينَ بِالزِّنَا، فَإِذَا عَادَ الرَّابِعَةَ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ سَأَلَهُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ، وَكَيْفَ هُوَ وَبِمَنْ زَنَى وَأَيْنَ زَنَى لِمَا بَيَّنَّا فِي الشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّ فِي الْإِقْرَارِ لَا يَسْأَلُهُ مَتَى زَنَى؛ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا يُقَامُ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ التَّقَادُمِ، وَإِنَّمَا لَا يُقَامُ بِالْبَيِّنَةِ، فَلِهَذَا يُسْأَلُ الشُّهُودُ مَتَى زَنَى، وَلَا يُسْأَلُ الْمُقِرُّ عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَا وَصَفَهُ وَأَثْبَتَهُ قَالَ لَهُ فَلَعَلَّك تَزَوَّجْتَهَا أَوْ وَطِئْتَهَا بِشُبْهَةٍ، وَهَذَا فِي مَعْنَى تَلْقِينِ الرُّجُوعِ وَالْإِمَامُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاعِزٍ «لَعَلَّك قَبَّلْتَهَا»، فَإِنْ، قَالَ: لَا نَظَرَ فِي عَقْلِهِ وَسَأَلَ أَهْلَهُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَاعِزٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ هَدَرٌ، وَالْعَقْلُ لَيْسَ بِمُعَايَنٍ فَلَا بُدَّ لِلْإِمَامِ مِنْ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ صَحِيحُ الْعَقْلِ يَسْأَلُ عَنْ الْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعُقُوبَةِ يَخْتَلِفُ بِإِحْصَانِهِ وَعَدَمِ إحْصَانِهِ، وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَعَسَى يُقَرِّبُهُ وَلَا يَطُولُ الْأَمْرُ عَلَى الْقَاضِي فِي طَلَبِ الْبَيِّنَةِ عَلَى إحْصَانِهِ، فَإِذَا قَالَ: أَحْصَنْت اسْتَفْسَرَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْإِحْصَانِ يَنْطَلِقُ عَلَى خِصَالٍ، وَرُبَّمَا لَا يَعْرِفُ الْمُقِرُّ بَعْضَهَا فَيَسْأَلُهُ لِهَذَا، فَإِذَا فَسَّرَهُ أَمَرَ بِرَجْمِهِ، فَإِذَا رُجِمَ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَحُنِّطَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَقْتُولٌ بِحَقٍّ فَيُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمَوْتَى.
وَقَدْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسْلِ مَاعِزٍ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَالَ: «اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ: «وَلَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْحِجَازِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ رَأَيْته يَنْغَمِسُ فِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ»، وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَا فِيمَا بَيْنَهُمَا: مَا رَكَنَتْ نَفْسُهُ حَتَّى جَاءَ وَاعْتَرَفَ فَقُتِلَ كَمَا يُقْتَلُ الْكِلَابُ، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَكَتَ حَتَّى مَرُّوا بِحِمَارٍ مَيِّتٍ فَقَالَ لِلرَّجُلَيْنِ: انْزِلَا فَكُلَا فَقَالَا: إنَّهَا مَيِّتَةٌ، فَقَالَ: تَنَاوُلُكُمَا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ».
(قَالَ) فَإِنْ أَمَرَ بِرَجْمِهِ فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ دُرِئَ حَدٌّ عَنْهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُدْرَأُ عَنْهُ حَدٌّ بِرُجُوعِهِ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي كُلِّ حَدٍّ هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْتُبِرَ هَذَا الْإِقْرَارُ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ مِمَّا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ أَوْ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ فِي هَذَا كُلِّهِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَّنَ الْمُقِرَّ بِالسَّرِقَةِ الرُّجُوعَ»، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ لَمَا لَقَّنَهُ ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَيْنَا «أَنَّ مَاعِزًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا هَرَبَ انْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَثَرِهِ فَرَجَمُوهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ»، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ إنَّمَا لَا يَصِحُّ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لِوُجُودِ خَصْمٍ يُصَدِّقُهُ فِي الْإِقْرَارِ وَيُكَذِّبُهُ فِي الرُّجُوعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَتَعَارَضُ كَلَامَاهُ الْإِقْرَارُ وَالرُّجُوعُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالشُّبْهَةُ تَثْبُتُ بِالْمُعَارِضَةِ.
(قَالَ) وَإِذَا أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ وَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِالْإِحْصَانِ يُرْجَمُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ، وَلَا يُجْعَلُ إنْكَارُهُ لِلْإِحْصَانِ رُجُوعًا مِنْهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالْتِزَامُ الْعُقُوبَةِ مَعَ إنْكَارِ الْإِحْصَانِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ الْإِحْصَانَ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِالْإِحْصَانِ بَعْدَ إنْكَارِهِ كَانَ يُرْجَمُ، فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ.
(قَالَ) فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِهَا غَائِبَةً فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحَدَّ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ حَضَرَتْ رُبَّمَا ادَّعَتْ شُبْهَةَ نِكَاحٍ مُسْقِطَةٍ لِلْحَدِّ عَنْهَا فَلَا يُقَامُ حَدٌّ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ، وَقِيلَ: هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قِيَاسِ مَسْأَلَةِ السَّرِقَةِ إذَا قَالَ: سَرَقْت أَنَا وَفُلَانٌ مَالَ فُلَانٍ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدٌّ لِحَدِيثِ مَاعِزٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحْضِرْ الْمَرْأَةَ الَّتِي أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِهَا وَلَكِنْ أَمَرَ بِرَجْمِهِ، وَفِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ أَوْجَبَ الْجَلْدَ عَلَى ابْنِ الرَّجُلِ ثُمَّ قَالَ: «اُغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فَدَلَّ أَنَّ حُضُورَ الْمَرْأَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا مِنْ شُبْهَةٍ تَدَّعِيهَا إذَا حَضَرَتْ فَالرَّجُلُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ، وَتَوَهُّمُ أَنْ تَحْضُرَ فَتَدَّعِي الشُّبْهَةَ كَتَوَهُّمِ أَنْ يَرْجِعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ.
فَكَمَا لَا يَمْتَنِعُ إقَامَةُ حَدٍّ عَلَى الْمُقِرِّ لِتَوَهُّمِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَإِنْ جَاءَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا حُدَّ الرَّجُلُ فَادَّعَتْ النِّكَاحَ وَطَلَبَتْ الْمَهْرَ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ حَكَمَ بِأَنَّ فِعْلَهُ كَانَ زِنًى بِهَا حِينَ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَالزِّنَا لَا يُوجِبُ الْمَهْرَ وَهِيَ تَدَّعِي إبْطَالَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِقَوْلِهَا.
(قَالَ) أَرْبَعَةٌ فُسَّاقٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَأَقَرَّ هُوَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْحُجَّةِ، فَإِنَّ الْحُجَّةَ الْأَقَارِيرُ الْأَرْبَعَةُ أَوْ شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ عُدُولٍ، وَلَا يُقَالُ: إقْرَارُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً تَعْدِيلٌ مِنْهُ لِلشُّهُودِ وَتَصْدِيقٌ لَهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْتَحِقُوا بِالْعُدُولِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِشَهَادَةِ الْفُسَّاقِ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْخَصْمُ، فَإِنَّ التَّوَقُّفَ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ ثُمَّ إقْرَارُهُ مَانِعٌ مِنْ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُنْكِرِ دُونَ الْمُقِرِّ إلَّا إنَّهُ إذَا كَانَ الشُّهُودُ عُدُولًا يُجْعَلُ الْإِقْرَارُ الْوَاحِدُ كَالْمَعْدُومِ لَمَّا لَمْ يَتَبَيَّنْ بِهِ سَبَبُ حَدٍّ فَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ عُدُولًا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِإِقْرَارِهِ لِكَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى الْمُنْكِرِ لَا عَلَى الْمُقِرِّ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُحَدُّ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ عُدُولٌ فَاسْتَغْنَى عَنْ إقْرَارِهِ فَبَطَلَ الْإِقْرَارُ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي شَهَادَةِ الْفَاسِقِ.
(فَإِنْ قِيلَ) فَبِالْإِقْرَارِ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَدُّ يَثْبُتُ الْوَطْءُ الْمُوجِبُ لِلْمَهْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَبَرَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَرَّرَ الْإِقْرَارَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ إسْقَاطَ الْمَهْرِ عَنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُتَّهَمًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قُلْتُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي السَّرِقَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَدُّ فَبِالْإِقْرَارِ الْوَاحِدِ يَجِبُ الضَّمَانُ فَلَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ إقْرَارِهِ بِالزِّنَا مُرَاعًى مِنْ حَيْثُ إنَّ الزِّنَا غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمَهْرِ فَإِنْ تَمَّ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْمَهْرِ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ كَانَ مُوجِبًا لِلْمَهْرِ، كَمَا أَنَّهُ بَعْدَ تَمَامِ الْإِقْرَارِ إنْ رَجَعَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّ نَفْسَ الْأَخْذِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الضَّمَانُ لِضَرُورَةِ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ.
(قَالَ) وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ جَارِيَةَ وَلَدِهِ وَقَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لَا يُحَدُّ لِلشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ الَّتِي تَمَكَّنَتْ فِي الْمَوْطُوءَةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنْتَ، وَمَالُك لِأَبِيك» وَكَيْف يَجِبُ الْحَدُّ؟ وَلَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ النَّسَبُ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ.
وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ أَوْ امْرَأَتِهِ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا يَعْلَمَانِ بِحُرْمَةِ الْفِعْلِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ هُنَا فِي الْمَحَلِّ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ مِنْ حَيْثُ الِاشْتِبَاهُ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا إذَا لَمْ يُشْتَبَهْ، فَأَمَّا إذَا قَالَ الْوَاطِئُ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي، أَوْ قَالَتْ الْجَارِيَةُ: ظَنَنْت أَنَّهُ يَحِلُّ لِي، لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ شُبْهَةَ الِاشْتِبَاهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ مُعْتَبَرٌ بِالشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَدَعْوَى الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ مِنْ أَحَدِهِمَا يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْهُمَا، فَكَذَلِكَ شُبْهَةُ الِاشْتِبَاهِ.
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدَهُ رَجُلٌ أَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةَ أُمِّهِ فَقَالَ لَهُ: أَوَطِئْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، حَتَّى قَالَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ الْحَدَّ.
وَخَطَّأَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْقَضَاءَ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ بِإِقْرَارِهِ بِلَفْظِ الْوَطْءِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ مَا لَمْ يُقِرَّ بِصَرِيحِ الزِّنَا، وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الْإِقْرَارَ فِي هَذَا الْبَابِ بِقَوْلِهِ: أَفَعَلْت، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى تَلْقِينِ الرُّجُوعِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ عِلْمِهِ بِحُرْمَتِهَا وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ مَا لَمْ يَعْلَمْ عِلْمَهُ بِحُرْمَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ.
(قَالَ)، وَلَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ وَقَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ، وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حُكْمِ الْمِلْكِ كَالْأَجْنَبِيِّ.
(قَالَ) فِي الْأَصْلِ، وَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا كَالسَّرِقَةِ يَعْنِي إذَا سَرَقَ مَالَ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ لَا يُقْطَعُ ثُمَّ أَجَابَ وَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ حَدَدْته، وَلَوْ سَرَقَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَمْ أَقْطَعْهُ؟ وَإِنَّمَا أَشَارَ بِهَذَا إلَى أَنَّ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ لَا بُدَّ مِنْ هَتْكِ الْحِرْزِ، وَالْإِحْرَازُ لَا يَتِمُّ فِي حَقِّ ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَدْخُلُ بَيْتَ بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا.
(قَالَ) وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِ وَلَدِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ حَيًّا لَمْ تَثْبُتْ دَعْوَةُ الْجَدِّ إذَا كَذَّبَهُ وَلَدُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِيلَادِ تُبْنَى عَلَى وِلَايَةِ نَقْلِ الْجَارِيَةِ إلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ لِلْجَدِّ وِلَايَةُ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الْأَبِ وَلَكِنْ إنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَدُ الْوَلَدِ عَتَقَ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْجَدِّ، وَأَنَّهُ عَمُّهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَدِّ مِنْ قِيمَةِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَلَّكْهَا وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ وَسَقَطَ حَدٌّ لِلشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ، وَهُوَ الْبُنُوَّةُ فَيَجِبُ الْعُقْرُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ فِي حَيَاةِ الْأَبِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْجَدِّ عِنْدَ ذَلِكَ وِلَايَةُ نَقْلِهَا إلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي الدَّعْوَةِ، صَدَّقَهُ ابْنُ الْأَبِ أَوْ كَذَّبَهُ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ إنَّمَا حَصَلَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، وَالْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي الْوِلَايَةِ فَلَهُ أَنْ يَنْقُلَهَا إلَى نَفْسِهِ بِدَعْوَةِ الِاسْتِيلَادِ.
(قَالَ)، وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى زِنًى قَدِيمٍ لَمْ أُحِدَّ بِشَهَادَتِهِمْ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَلَمْ أُحِدَّهُمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ وَالْأَهْلِيَّةُ لِلشَّهَادَةِ مَوْجُودَةٌ وَذَلِكَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا وَإِنْ أَقَرَّ بِزِنًى قَدِيمٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أُقِيم عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُقَامُ اعْتِبَارًا لِحُجَّةِ الْإِقْرَارِ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنَّ الشُّهُودَ كَمَا نَدَبُوا إلَى السَّتْرِ فَالْمُرْتَكِبُ لِلْفَاحِشَةِ أَيْضًا مَنْدُوبٌ إلَى السَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ، قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ»، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِآخِرِ الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ «وَمَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَةً أَقَمْنَا عَلَيْهِ حَدُّ اللَّهِ»، وَهَذَا قَدْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ التُّهْمَةَ تَنْتَفِي عَنْ إقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ عَلَى وَجْهٍ يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى هَتْكِ سِتْرِهِ بَلْ إنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ النَّدَمُ وَإِيثَارُ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، فَبِتَقَادُمِ الْعَهْدِ هُنَاكَ تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَدَاوَةَ حَمَلَتْهُمْ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ مَا اخْتَارُوا السَّتْرَ عَلَيْهِ وَهُنَا كَانَ إصْرَارُهُ يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ ثُمَّ النَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ حَمَلَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ.
(قَالَ) وَالذِّمِّيُّ وَالْعَبْدُ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا كَالْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَحُرْمَةُ الزِّنَا ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَإِقْرَارُهُ مُلْزِمٌ أَيْضًا كَإِقْرَارِ الْمُسْلِمِ فَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِقْرَارُهُ بِالزِّنَا يَصِحُّ عِنْدَنَا مُوجِبًا لِلْحَدِّ عَلَيْهِ مَأْذُونًا كَانَ أَوْ مَحْجُورًا، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى وَبِهَذَا الْإِقْرَارُ يَتَضَرَّرُ الْمَوْلَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَنْتَقِصُ مَالِيَّتُهُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَالِ إذَا كَانَ مَحْجُورًا، فَكَذَلِكَ بِالْحَدِّ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ فَالْعَبْدُ فِيهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْحُرِّ كَطَلَاقِ زَوْجَتِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ، فَإِنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُهُ عَلَيْهِ ثُمَّ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَفْسٌ مُخَاطَبَةٌ، وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى ذَلِكَ هُوَ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ بِالْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ، وَلِأَنَّ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ فِي ذَلِكَ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ الْمَوْلَى فَلِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ حَكَمْنَا بِصِحَّةِ إقْرَارِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ.
(قَالَ) وَلَا يُؤْخَذُ الْأَخْرَسُ بِحَدِّ الزِّنَا، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ بِإِشَارَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ شَهِدْت بِهِ عَلَيْهِ شُهُودٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُؤْخَذُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مُخَاطَبَةٌ فَهُوَ كَالْأَعْمَى أَوْ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إذَا أَقَرَّ بِهِ بِالْإِشَارَةِ فَالْإِشَارَةُ بَدَلٌ عَنْ الْعِبَارَةِ وَالْحَدُّ لَا يُقَامُ بِالْبَدَلِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِلَفْظَةِ الزِّنَا فِي الْإِقْرَارِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي إشَارَةِ الْأَخْرَسِ إنَّمَا الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ إشَارَتِهِ الْوَطْءُ، فَلَوْ أَقَرَّ النَّاطِقُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، فَكَذَلِكَ الْأَخْرَسُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَتَبَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَرَدَّدُ وَالْكِتَابَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ وَالْحَدُّ لَا يُقَامُ بِمِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَتْ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاطِقًا رُبَّمَا يَدَّعِي شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ يَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِهِ بِالْإِشَارَةِ، فَلَوْ أَقَمْنَا عَلَيْهِ كَانَ إقَامَةَ الْحَدِّ مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الْأَعْمَى وَالْأَقْطَعِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إظْهَارِ دَعْوَى الشُّبْهَةِ.
وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَصِحَّاءِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِالزِّنَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِهِ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ.
وَإِنْ قَالَ: زَنَيْت فِي حَالِ جُنُونِي لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ، وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِالْتِزَامِ الْعُقُوبَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِكَوْنِهِ مَرْفُوعٌ الْقَلَمُ عَنْهُ، فَهُوَ كَالْبَالِغِ إذَا قَالَ: زَنَيْتُ وَأَنَا صَبِيٌّ، وَكَذَلِكَ الَّذِي أَسْلَمَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ يَزْنِي فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالَةٍ تُنَافِي الْتِزَامَ الْعُقُوبَةِ بِالزِّنَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ وِلَايَةِ الْإِمَامِ، وَلَا كَانَ مُلْتَزِمًا حُكْمَ الْإِسْلَامِ.
(قَالَ)، وَإِنْ أَقَرَّ الْمَجْبُوبُ بِالزِّنَا لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِكَذِبِهِ فَالْمَجْبُوبُ لَيْسَ لَهُ آلَةُ الزِّنَا فَالتَّيَقُّنُ بِكَذِبِهِ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا مِنْ رُجُوعِهِ عَنْ الْإِقْرَارِ.
(قَالَ) وَإِنْ أَقَرَّ الْخَصِيُّ بِالزِّنَا أَوْ شَهِدَتْ بِهِ عَلَيْهِ الشُّهُودُ حُدَّ؛ لِأَنَّ لِلْخَصِيِّ آلَةُ الزِّنَا، وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ بِالْخَصِيِّ الْإِنْزَالُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إتْمَامِ فِعْلِ الزِّنَا فَيَلْزَمُهُ مِنْ حَدٍّ مَا يَلْزَمُ الْفَحْلَ وَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ بَعْدَ عِتْقِهِ: زَنَيْت وَأَنَا عَبْدٌ لَزِمَهُ حَدُّ الْعَبِيدِ؛ لِأَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي إضَافَةِ الْإِقْرَارِ إلَى حَالَةِ الرِّقِّ لِكَوْنِهَا حَالَةً مَعْهُودَةً فِيهِ، ثُمَّ الثَّابِتُ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ عَايَنَاهُ زَنَى فِي حَالَةِ رِقِّهِ ثُمَّ عَتَقَ كَانَ عَلَيْهِ حَدُّ الْعَبِيدِ فَهَذَا مِثْلُهُ.
(قَالَ) وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ، وَقَالَتْ كَذَبَ مَا زَنَى بِي، وَلَا أَعْرِفُهُ لَمْ يُحَدَّ الرَّجُلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُحَدُّ لِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ «أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ وَأَنْكَرَتْ فَحَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ»، وَلِأَنَّ الزِّنَا فِعْلَانِ مِنْ الزَّانِيَيْنِ وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَظْهَرُ بِإِقْرَارِهِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ عَلَيْهِ فَإِنْكَارُهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي إقْرَارِهِ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ بِإِنْكَارِهَا ظُهُورُ الزِّنَا فِي حَقِّهَا، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الرَّجُلِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً سَاكِتَةً أَوْ غَائِبَةً، وَكَمَا لَوْ قَالَتْ: زَنَى بِي مُسْتَكْرَهَةً يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: فِعْلُ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْمَحَلِّ وَبِإِنْكَارِهَا قَدْ انْتَفَى فِي جَانِبِهَا فَيَنْتَفِي فِي جَانِبِهِ أَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ انْتَفَى صِفَةُ الزِّنَا فِي جَانِبِهَا بِدَعْوِي النِّكَاحِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُمَا؟ فَإِذَا انْتَفَى أَصْلُ الْفِعْلِ أَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالزِّنَا بِهَا مَعَ إنْكَارِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَبْقَى مُحْصَنَةً لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالزِّنَا بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ، وَبِدُونِ الْقَضَاءِ بِالزِّنَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ.
وَفِي الْغَائِبَةِ قِيَاسُ اسْتِحْسَانٍ وَالْفَصْلُ الْمُسْتَحْسَنُ لَا يَدْخُلُ عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ ثُمَّ بِغَيْبَتِهَا وَاسْتِكْرَاهِهَا لَا يَنْتَفِي الْفِعْلُ فِي جَانِبِهَا وَبِإِنْكَارِهَا يَنْتَفِي، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِشَيْءٍ وَكَذَّبَهُ بَطَلَ إقْرَارُهُ؟ حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ كَانَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا سَاكِتًا لَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْإِقْرَارُ حَتَّى إذَا صَدَّقَهُ عَمِلَ بِتَصْدِيقِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ زَنَى بِي مُسْتَكْرَهَةً؛ لِأَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ وَأَصْلَ الْفِعْلِ هُنَاكَ قَدْ ظَهَرَ فِي حَقِّهَا، وَلِهَذَا سَقَطَ إحْصَانُهَا بِهِ وَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَدْ ضَعَّفَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا أَنْكَرَتْ وَطَالَبَتْهُ بِحَدِّ الْقَذْفِ فَحَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَذْفِهِ إيَّاهَا بِالزِّنَا لَا بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّتْ امْرَأَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فُلَانٌ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَأَنْكَرَ الرَّجُلُ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلْفِعْلِ هُوَ الرَّجُلُ فَلَا يَثْبُتُ أَصْلُ الْفِعْلِ مَعَ إنْكَارِهِ، وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ صَدَقَتْ حُدَّتْ الْمَرْأَةُ، وَلَمْ يُحَدَّ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّصْدِيقِ صَارَ مُقِرًّا بِالزِّنَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِالْإِقْرَارِ الْوَاحِدِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ.
(قَالَ) الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا إذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِي هَذَا فِي الْبَيِّنَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ، وَعَلَّلَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ لَا تُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
(قَالَ) وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَزَنَى هُنَاكَ بِمُسْلِمَةٍ أَوْ ذِمِّيَّةٍ ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَقَرَّ بِهِ لَمْ يُحَدَّ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحَدَّ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزَمٌ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ مَا كَانَ، وَمِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِي، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يُرَادُ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلِاسْتِيفَاءِ، وَقَدْ انْعَدَمَ الْمُسْتَوْفِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةٌ عَلَى مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ لِانْعِدَامِ الْمُسْتَوْفِي، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حِينَ بَاشَرَ السَّبَبَ لَا يَجِبُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ خَرَجَ إلَى دَارِنَا.
(قَالَ) وَكَذَلِكَ سَرِيَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَخَلَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَزَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ هُنَاكَ أَوْ كَانُوا عَسْكَرًا؛ لِأَنَّ أَمِيرَ الْعَسْكَرِ وَالسَّرِيَّةِ إنَّمَا فُوِّضَ إلَيْهِ تَدْبِيرُ الْحَرْبِ، وَمَا فُوِّضَ إلَيْهِ إقَامَةُ الْحُدُودِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَلِيفَةُ غَزَا بِنَفْسِهِ أَوْ كَانَ أَمِيرُ مِصْرٍ يُقِيمُ الْحُدُودَ عَلَى أَهْلِهِ، فَإِذَا غَزَا بِجُنْدِهِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ جُنْدِهِ تَحْتَ وِلَايَتِهِ فَمَنْ ارْتَكَبَ مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ، كَمَا يُقِيمُهَا فِي دَارِ- الْإِسْلَامِ هَذَا إذَا زَنَى فِي الْمُعَسْكَرِ، وَأَمَّا إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَفَعَلَ ذَلِكَ خَارِجًا مِنْ الْمُعَسْكَرِ لَا يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
(قَالَ)، وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي مُعَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْهُمْ، وَلَا مَنْ كَانَ تَاجِرًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأُمَرَاؤُهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ يَدَ إمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ لَا تَصِلُ إلَيْهِمْ لِمَنَعَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَوِلَايَتُهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ مُنْقَطِعَةٌ لِقُصُورِ يَدِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوُجُوبَ لِلِاسْتِيفَاءِ، فَإِذَا انْعَدَمَ الْمُسْتَوْفِي امْتَنَعَ الْوُجُوبُ، كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ بَعْدَ تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ فَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهُ يَدْرَأُ الْعُقُوبَةَ إذَا تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةَ فِي حَدِّ الشُّرْبِ سَوَاءٌ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ، وَفِي حَدِّ الزِّنَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ.
(قَالَ) وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْعَبْدِ إذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا أَوْ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ غَائِبًا، وَكَذَلِكَ الْقَطْعُ وَالْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ النَّفْسِيَّةِ فِي مَحَلٍّ لَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِيهِ، فَإِنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الْمَالِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي حُكْمِ النَّفْسِيَّةِ هُوَ وَالْحُرُّ سَوَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُفَرِّقَانِ بَيْنَ حُجَّةِ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لِلْمَوْلَى حَقَّ الطَّعْنِ فِي الْبَيِّنَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ لِلْحَقِّ بِنَفْسِهِ، وَالْبَيِّنَةُ لَا تُوجِبُ إلَّا بِالْقَضَاءِ، وَقَدْ قَرَرْنَاهُ فِي الْآبِقِ.
(قَالَ) وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْمَرِيضِ حَدٌّ مِنْ الْحُدُودِ فِي زِنًى أَوْ شُرْبٍ أَوْ سَرِقَةٍ حُبِسَ حَتَّى يَبْرَأَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى أَمَةٍ فَرَأَى بِهَا أَثَرَ الدَّمِ فَرَجَعَ، وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّ أَثَرَ الدَّمِ بِهَا كَانَ نِفَاسًا لَا حَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَائِضَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحَةِ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا وَالنُّفَسَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى الْمَرِيضِ رُبَّمَا يَنْضَمُّ أَلَمُ الْجَلْدِ إلَى أَلَمِ الْمَرَضِ فَيُؤَدِّي إلَى الْإِتْلَافِ وَالْحَدُّ إنَّمَا يُقَامُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ زَاجِرًا لَا مُتْلِفًا، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى مَرِيضٍ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ بُرْئِهِ وَاسْتَحْكَمَ ذَلِكَ الْمَرَضُ عَلَى وَجْهٍ يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، وَعِنْدَنَا فِي مِثْلِ هَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ تَطْهِيرًا، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْحَدُّ رَجْمًا فَأَمَّا الرَّجْمُ يُقَامُ عَلَى الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ نَفْسِهِ هُنَاكَ مُسْتَحَقٌّ فَلَا يَمْتَنِعُ إقَامَتُهُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ.
(قَالَ) رَجُلٌ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَالْقَذْفُ وَفَقْءُ عَيْنِ رَجُلٍ، فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِالْقِصَاصِ فِي الْفَقْءِ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ الْعِبَادِ وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ بِالتَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ الْفَوْتَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إذَا بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ وَأَقَامَ عَلَيْهِ حَدَّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ مَشُوبٌ بِحَقِّ الْعِبَادِ فَيُقَدَّمُ فِي الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَا هُوَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إقَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ، فَلِهَذَا يُبْدَأُ بِهِ قَبْلَ حَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ، وَإِذَا بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ بَدَأَ بِحَدِّ الزِّنَا، وَإِنْ شَاءَ بَدَأَ بِحَدِّ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ ثَابِتٌ بِنَصٍّ يُتْلَى وَيُجْعَلُ حَدُّ شُرْبِ الْخَمْرِ آخِرَهَا؛ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنُ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ.
وَكُلَّمَا أَقَامَ عَلَيْهِ حَدًّا حَبَسَهُ حَتَّى يَبْرَأَ ثُمَّ أَقَامَ الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُ إنْ وَالَى إقَامَةَ هَذِهِ الْحُدُودِ رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى الْإِتْلَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ زَاجِرًا لَا مُتْلِفًا، وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ رُبَّمَا يَهْرُبُ فَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَيَصِيرُ مُضَيِّعًا لِلْحَدِّ وَالْإِمَامُ مَنْهِيٌّ عَنْ تَضْيِيعِ الْحَدِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا اقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَيْنِ وَضَرَبَهُ حَدَّ الْقَذْفِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ حَقِّ الْعِبَادِ ثُمَّ رَجَمَهُ؛ لِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَتَى اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهَا نَفْسٌ قُتِلَ وَتُرِكَ مَا سِوَى ذَلِكَ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي الْحُدُودِ الْوَاجِبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى الْمَقْصُودَ هُوَ الزَّجْرُ، وَأَتَمُّ مَا يَكُونُ مِنْ الزَّجْرِ بِاسْتِيفَاءِ النَّفْسِ، وَالِاسْتِيفَاءُ بِمَا دُونَهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ، فَلِهَذَا رَجَمَهُ وَدَرَأَ عَنْهُ مَا سِوَى ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ السَّرِقَةَ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ لِضَرُورَةِ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ حَقًّا لِلَّهِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، فَلِهَذَا يُضَمِّنُهُ السَّرِقَةَ وَيَأْمُرُ بِإِيفَائِهَا مِنْ تَرِكَتِهِ.
(قَالَ)، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا قَوَدٌ، وَلَا تَعْزِيرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ وَهْمِ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّ الْمَجْلُودَ قَدْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ»، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إذَا أَرَادَ إقَامَةَ الْحَدِّ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ أَوْ يَبْعَثُ أَمِينًا لِيُقَامَ بِحَضْرَتِهِ، كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَاعِزٍ.
(قَالَ) وَإِذَا زَنَى الرَّجُلُ مَرَّاتٍ أَوْ قَذَفَ مَرَّاتٍ أَوْ سَرَقَ مَرَّاتٍ أَوْ شَرِبَ مَرَّاتٍ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى التَّدَاخُلِ لِمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الزَّجْرُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ كَذِبِ الْقَاذِفِ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ حَدٍّ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الْمُغَلِّبَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ.
(قَالَ) وَلَيْسَ عَلَى وَاطِئِ الْبَهِيمَةِ حَدٌّ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحَدَّ لِحَدِيثِ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ»، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ شَاذٌّ لَا يَثْبُتُ الْحَدُّ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ فَتَأْوِيلُهُ فِي حَقِّ مَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ، ثُمَّ لَيْسَ لِفَرْجِ الْبَهِيمَةِ حُكْمُ الْفَرْجِ حَتَّى لَا يَجِبُ سِتْرُهُ وَالْإِيلَاجُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِيلَاجِ فِي كُوزٍ أَوْ كُوَّةٍ، وَلِهَذَا قُلْنَا أَنَّهُ لَا تَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُ بِنَفْسِ الْإِيلَاجِ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ، وَلَا يَمِيلُ طَبْعُ الْعُقَلَاءِ إلَى إتْيَانِ الْبَهِيمَةِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمُشْتَهَاةٍ فِي حَقِّ بَنِي آدَمَ وَقَضَاءُ الشَّهْوَةِ يَكُون مِنْ غَلَبَةِ الشَّبَقِ أَوْ فَرْطِ السَّفَهِ، كَمَا يَحْصُلُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالْكَفِّ وَالْأَلْيَةِ، وَلَكِنَّهُ يُعَذَّرُ لِارْتِكَابِهِ مَا لَا يَحِلُّ.
(قَالَ) فِي الْأَصْلِ بَلَغَنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ أَتَى بَهِيمَةً فَلَمْ يُحِدَّهُ وَأَمَرَ بِالْبَهِيمَةِ فَذُبِحَتْ وَأُحْرِقَتْ بِالنَّارِ، وَهَذَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَنَا وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ كَيْ لَا يُعَيَّرَ الرَّجُلُ بِهِ إذَا كَانَتْ الْبَهِيمَةُ بَاقِيَةً.
(قَالَ) وَلَوْ قَذَفَ قَاذِفٌ رَجُلًا بِإِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَاذِفَ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ إذَا نَسَبَهُ إلَى فِعْلٍ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِمُبَاشَرَتِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَذَفَهُ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ أَوْ تَقْبِيلِ الْحَرَامِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ؟ فَكَذَلِكَ إذَا قَذَفَهُ بِإِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ.
(قَالَ) وَإِنْ قَذَفَهُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ لَمْ يُحَدَّ إلَّا أَنْ يُفْصِحَ مَعْنَاهُ إذَا قَالَ: يَا لُوطِيُّ لَا حَدَّ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ، فَأَمَّا إذَا أَفْصَحَ بِنِسْبَتِهِ إلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُعَزَّرُ، وَلَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى فِعْلٍ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِذَلِكَ الْفِعْلِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى فِعْلٍ يَسْتَوْجِبُ بِمُبَاشَرَتِهِ الْحَدَّ عِنْدَهُمَا.
(قَالَ) وَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً فِي نِكَاحِ فَاسِدٍ ثُمَّ قَذَفَهُ رَجُلٌ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ وَطْئًا حَرَامًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ فَيَسْقُطُ بِهِ إحْصَانُهُ.
(قَالَ)، وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُلَقِّنَ الشُّهُودَ مَا تَتِمُّ بِهِ شَهَادَتُهُمْ فِي الْحُدُودِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاحْتِيَالِ لِدَرْءِ الْحَدِّ لَا لِإِقَامَتِهِ، وَفِي هَذَا احْتِيَالٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ فَلَا يَكُونُ لِلْقَاضِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ.
(قَالَ) وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَلَا يَسَعُهُ إلَّا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَلَّا سَأَلُوهُ إذَا لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِحَقٍّ، وَلَا يَتَّصِلُ إلَى ذَلِكَ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ إلَّا بِالسُّؤَالِ فَلَا يَسَعُهُ إلَّا ذَلِكَ، فَإِنْ أَشَارَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الَّذِي هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ فِي رَأْيِ نَفْسِهِ بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَ الْقَاضِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُ إذَا كَانَ يُبْصِرُ وُجُوهَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِالِاجْتِهَادِ إذَا كَانَ مُسْتَجْمِعًا شَرَائِطَهُ.
وَلَا يَحِلُّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَدَعَ رَأْيَهُ بِرَأْيِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ، فَقَدْ يَسْبِقُ وَجْهَ الصَّوَابِ فِي حَادِثَةٍ لِإِنْسَانٍ وَيَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ، وَإِنْ تَرَكَ رَأْيَهُ وَعَمِلَ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْفَقِيهِ كَانَ مُوَسِّعًا عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا نَوْعُ اجْتِهَادٍ مِنْهُ، فَإِنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَقَاوِيلِ تَرْجِيحُ قَوْلِ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ نَوْعُ اجْتِهَادٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَادِثَةٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ عِنْدَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ اجْتِهَادَ مِثْلِهِ، وَهُنَا أَيْضًا إذَا قَدَّمَ رَأْيَ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ عَلَى رَأْيِ نَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ نَوْعَ اجْتِهَادٍ مِنْهُ فَكَانَ مُوَسِّعًا عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.