فصل: بَابُ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ مَالِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ وَلَهُ أَوْلَادٌ أَحْرَارٌ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ وَأَوْلَادٌ وُلِدُوا فِي الْمُكَاتَبَةِ مِنْ أَمَتِهِ وَأَوْلَادٌ اشْتَرَاهُمْ بُدِئَ بِالدَّيْنِ ثُمَّ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ مَتَى اجْتَمَعَتْ فِي الْمُعَيَّنِ وَتَفَاوَتَتْ فِي الْقُوَّةِ يُبْدَأُ بِالْأَقْوَى فَالْأَقْوَى كَمَا يُبْدَأُ فِي التَّرِكَةِ بِالْجِهَازِ ثُمَّ بِالدَّيْنِ ثُمَّ بِالْوَصِيَّةِ وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} وَالدَّيْنُ أَقْوَى مِنْ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالًا مُتَقَرِّرًا فِي ذِمَّتِهِ فِي حَيَاتِهِ وَالْجِنَايَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِفَوْتِ الدَّفْعِ بِمَوْتِهِ وَالْمَالُ خَلَفٌ عَنْ ذِمَّتِهِ فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ فِيهِ فَمَا كَانَ أَسْبَقَ تَعَلُّقًا بِذِمَّتِهِ وَكَانَ مُتَقَرِّرًا فِي نَفْسِهِ فَهُوَ أَقْوَى ثُمَّ الْجِنَايَةُ أَقْوَى مِنْ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ مُتَقَرِّرٍ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهَا عَنْ نَفْسِهِ بِأَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ وَالضَّعِيفُ لَا يُزَاحِمُ الْقَوِيَّ فَلِهَذَا قُدِّمَتْ الْجِنَايَةُ ثُمَّ بَعْدَهَا الْكِتَابَةُ، وَإِذَا أُدِّيَتْ الْكِتَابَةُ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَحُرِّيَّةِ كُلِّ مَنْ كَانَ تَبَعًا لَهُ فِي الْكِتَابَةِ فَلِهَذَا كَانَ الْبَاقِي مِيرَاثًا لِجَمِيعِ أَوْلَادِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ ابْنٌ مُكَاتَبٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا ضُمَّ إلَيْهِ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ لَا يَعْتِقُ أَحَدُهُمَا بِحُكْمِ الْكِتَابَةِ قَبْلَ صَاحِبِهِ فَتُسْنَدُ حُرِّيَّةُ هَذَا الِابْنِ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي اُسْتُنِدَ حُرِّيَّةُ أَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا عَلَى حِدَةٍ لَمْ يَرِث مِنْهُ شَيْئًا إذَا أَدَّى مُكَاتَبَتَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَدَاءِ مُكَاتَبَةِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّ إسْنَادَ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الْأَبِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الِابْنِ إذَا كَانَ مُكَاتَبًا عَلَى حِدَةٍ بَلْ تَقْتَصِرُ حُرِّيَّتُهُ عَلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فَيَكُونُ هُوَ رَقِيقًا عِنْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فَلَا يَرِثُ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مَهْرٌ لِامْرَأَةٍ حُرَّةٍ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ كَانَ دَيْنُهَا بَعْدَ قَضَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ مَهْرَهَا مُتَأَخِّرٌ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَإِنَّ سَبَبَهُ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ النِّكَاحِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى وَالْمَرْأَةُ رَاضِيَةٌ بِتَأْخِيرِ حَقِّهَا حِينَ زَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَمَا لَمْ يُسْقِطْ حَقَّ الْمَوْلَى عَنْ كَسْبِهِ لَا يُظْهِرُ الْمَهْرَ، فَلِهَذَا كَانَ بَعْدَ دَيْنِ الْكِتَابَةِ بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الرِّضَا بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ.
وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا يَسْعَى وَلَدُهُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْمُكَاتَبَةِ فِيهَا حَتَّى يُؤَدُّوهَا؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَمَّنْ يُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَيُجْعَلُ كَمَوْتِهِ عَمَّا يُؤَدِّي بِهِ بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَهُوَ الْمَالُ، فَإِذَا أَدَّوْا عَتَقَ كُلُّ مَنْ كَانَ تَبَعًا لَهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النُّجُومَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَبْقَى إلَّا بِاعْتِبَارِ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْمُكَاتَبَةِ وَعِنْدَهُمَا يَبْقَى بِبَقَاءِ كُلِّ مَنْ كَانَ دَاخِلًا فِي كِتَابَتِهِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْأَوْلَادُ الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ فَإِنَّهُمْ يُبَاعُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا لَمْ يُؤَدُّوا الْمَالَ حَالًا، وَيَكُونُ ثَمَنُهُمْ تَرِكَةً لَهُ تُؤَدَّى مِنْهُ كِتَابَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ وَلَدٌ مَوْلُودٌ فِي الْكِتَابَةِ لَمْ يُبَعْ هَؤُلَاءِ لِبَقَاءِ النُّجُومِ بِاعْتِبَارِهِ يَسْعَوْنَ بِهِ، فَإِنْ حَلَّ عَلَى الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ أَوَّلُ نَجْمٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ وَلَا غَائِبٌ يُنْتَظَرُ رُدُّوا جَمِيعًا فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ وَلَوْ كَسَرَ أَبُوهُ نَجْمًا رُدَّ فِي الرِّقِّ، فَكَذَلِكَ هُوَ إنْ كَانُوا جَمَاعَةً بَعْضُهُمْ غَائِبٌ وَعَجَزَ الشَّاهِدُ لَمْ يُرَدَّ فِي الرِّقِّ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ؛ لِأَنَّ الَّذِي عَجَزَ جُعِلَ كَالْمَعْدُومِ فَيَبْقَى النُّجُومُ بِبَقَاءِ الْغَائِبِ وَلَا يَظْهَرُ عَجْزُهُ عَنْ الْأَدَاءِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَلِأَنَّ كُلَّ وَلَدٍ مَوْلُودٍ فِي الْكِتَابَةِ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَعْتِقُونَ بِأَدَاءِ أَحَدِهِمْ سَوَاءٌ أَدَّى الْغَائِبُ أَوْ الشَّاهِدُ فَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ عَجْزُهُمْ لَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ، وَإِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَهُ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ وَتَرَكَ وَلَدًا حُرًّا فَهُوَ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ مَا لَمْ يَخْرُجْ الدَّيْنُ فَيُؤَدِّي الْكِتَابَةَ، أَمَّا بَقَاءُ الْكِتَابَةِ فَلِمَالِهِ الْمُنْتَظَرِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ بِاعْتِبَارِ مَالِهِ، وَلَكِنْ لَا يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ مَا لَمْ يُؤَدِّ الْكِتَابَةَ وَمَا لَمْ يُحْكَمْ بِعِتْقِهِ لَا يَظْهَرُ لِوَلَدِهِ وَلَاءٌ فِي جَانِبِ أَبِيهِ فَيَكُونُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ فَإِذَا أُدِّيَتْ ظَهَرَ لَهُ وَلَاءٌ فِي جَانِبِ أَبِيهِ فَيُنَجَّزُ وَلَاؤُهُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ وَلَا يَرْجِعُ مَوَالِي الْأُمِّ بِمَا عَقَلُوا مِنْ جِنَايَتِهِ فِي حَيَاةِ الْمُكَاتَبِ عَلَى مَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُحْكَمُ بِعِتْقِ الْأَبِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَلَا يَسْتَنِدُ عِتْقُهُ إلَى أَوَّلِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَكَانَ مَوَالِي الْأُمِّ عِنْدَ جِنَايَتِهِ مَوَالِيهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُونَ بِمَا عَقَلُوا عَلَى مَوَالِي الْأَبِ وَيَرْجِعُونَ بِمَا عَقَلُوا مِنْ جِنَايَتِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ قَبْلَ أَدَاءِ كِتَابَتِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ عِتْقَ الْأَبِ يَسْتَنِدُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ وَلَاءَهُ كَانَ لِمَوَالِي الْأَبِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَوَالِي الْأُمِّ كَانُوا مُجْبَرِينَ عَلَى الْأَدَاءِ فَيَرْجِعُونَ بِمَا أَدَّوْا كَالْمُلَاعِنِ إذَا كَذَّبَ نَفْسَهُ بَعْدَ مَا جَنَى الْوَلَدُ وَعَقَلَ جِنَايَتَهُ قَوْمُ أُمِّهِ رَجَعُوا بِهِ عَلَى قَوْمِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ ثُبُوتُ نَسَبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِذَا مَاتَ الْوَلَدُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّيْنِ فَاخْتَصَمَ مَوَالِي الْأَبِ وَمَوَالِي الْأُمِّ فِي مِيرَاثِهِ قُضِيَ بِهِ لِمَوَالِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ وَلَاءٌ فِي جَانِبِ الْأَبِ بَعْدُ، وَإِذَا قُضِيَ بِذَلِكَ بَطَلَتْ الْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُ لِمَوَالِي الْأُمِّ وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَمِنْ ضَرُورَةِ بُطْلَانِ الْكِتَابَةِ إذْ لَوْ لَمْ تَبْطُلْ لَكَانَ يُؤَدِّي كِتَابَتَهُ وَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ وَلَاءَهُ لِقَوْمِ الْأَبِ فَيَبْطُلُ بِهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إبْطَالِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَإِبْطَالُ الْكِتَابَةِ الَّتِي اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي بَقَائِهَا أَوْلَى مِنْ إبْطَالِ حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ الْمُبْطِلَ لِلْكِتَابَةِ وَهُوَ عَجْزُهُ عَنْ الْأَدَاءِ بَعْدَ حِلِّ الْمَالِ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ، وَالْمَنْفِيُّ وَهُوَ قُدْرَتُهُ بِخُرُوجِ الدَّيْنِ مَوْهُومٌ وَالظَّاهِرُ إذَا تَأَيَّدَ بِحُكْمِ الْحَاكِم لَا يُعْتَبَرُ الْمَوْهُومُ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَإِنْ خَرَجَ الدَّيْنُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ وَلَدٌ وُلِدُوا فِي الْكِتَابَةِ فَقَدْ بَقِيَ النُّجُومُ بِبَقَائِهِمْ فَمَتَى مَا خَرَجَ دَيْنُ الْمُكَاتَبِ أُدِّيَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَجَرَّ وَلَاءَ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ مُسْتَنِدًا إلَى حَالِ حَيَاتِهِ وَكَانَ مَا بَقِيَ مِيرَاثًا، وَإِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَلَدٍ حُرٍّ فَجَاءَ رَجُلٌ بِوَدِيعَةٍ فَقَالَ هَذِهِ لِلْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي مِنْهُ الْمُكَاتَبَةَ وَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ بِمَوْتِهِ عَاجِزًا لَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِفَسْخِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَالٌ أَوْ يَتَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَنْهُ وَهَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي نَوَادِرِهِ ثُمَّ إقْرَارُ الرَّجُلِ الْوَدِيعَةِ لِلْمُكَاتَبِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ فَيُؤَدِّي مِنْهُ الْكِتَابَةَ، وَلَكِنْ لَا يُصَدَّقُ عَلَى جَرِّ الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ مَوَالِي الْأُمِّ وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِالْقَصْدِ إلَى إبْطَالِ حَقِّهِمْ فِي جَرِّ وَلَاءِ الْوَلَدِ.
(قَالَ) أَرَأَيْت لَوْ قَالَ الْمَوْلَى نَفْسُهُ هَذِهِ وَدِيعَةٌ عِنْدِي لِلْمُكَاتَبِ أَوْ أَقَرَّ لَهُ بِدَيْنٍ مِثْلِ الْكِتَابَةِ أَوْ قَالَ قَدْ كُنْت اسْتَوْفَيْت الْكِتَابَةَ قَبْلَ مَوْتِهِ أَكَانَ يُصَدَّقُ فِي جَرِّ وَلَاءِ الْوَلَدِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ إنْ تَبَرَّعَ إنْسَانٌ عَنْهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ وَهَذَا لِأَنَّ ذِمَّتَهُ بِالْمَوْتِ تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا صَالِحًا لِبَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ خَلَفٍ يَبْقَى بِاعْتِبَارِهِ وَالْخَلَفُ مَالُهُ دُونَ أَمْوَالِ النَّاسِ عَادَةً فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ مَالٌ فَقَدْ عَلِمْنَا بِوُجُودِ الْخَلَفِ، وَإِذَا تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِالْأَدَاءِ فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ وُجُودُ الْخَلَفِ وَقْتَ مَوْتِهِ فَلِهَذَا لَا يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ فِي حَقِّ مَوَالِي الْأُمِّ وَيُجْعَلُ الْمُقِرُّ الْوَدِيعَةِ كَالْمُتَبَرِّعِ بِالْأَدَاءِ فِي حَقِّهِمْ، وَإِذَا تَرَكَ الْمُكَاتَبُ أُمَّ وَلَدٍ لَيْسَ مَعَهَا وَلَدٌ بِيعَتْ فِي الْمُكَاتَبَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ سَعَتْ فِيهَا عَلَى الْأَجَلِ الَّذِي كَانَ لِلْمُكَاتَبِ صَغِيرًا كَانَ وَلَدُهَا أَوْ كَبِيرًا، وَإِنْ كَانَ تَرَكَ مَالًا لَمْ يُؤَخَّرْ إلَى أَجَلِهِ وَصَارَ حَالًّا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حَالُ أُمِّ الْوَلَدِ بِغَيْرِ الْوَلَدِ كَحَالِهَا مَعَ الْوَلَدِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ حَتَّى يَسْعَى فِيهَا عَلَى الْأَجَلِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْمُكَاتَبِ بَيْعُ أُمِّ وَلَدِهِ إذَا مَلَكَهَا سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّهَا بِاعْتِبَارِ نَسَبِ الْوَلَدِ، وَنَسَبُ الْوَلَدِ ثَابِتٌ مِنْهُ سَوَاءٌ مَلَكَ الْوَلَدَ مَعَهَا أَوْ لَمْ يَمْلِكْ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّ إذَا مَلَكَ جَارِيَةً قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ سَوَاءٌ مَلَكَ الْوَلَدَ مَعَهَا أَوْ لَمْ يَمْلِكْ فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَلَمَّا كَانَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَا يَخْتَلِفُ حَالُهَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا وَلَدٌ أَوْ لَا يَكُونُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا مَلَكَهَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ مَعَ الْوَلَدِ يَمْتَنِعُ بَيْعُهَا، وَإِذَا مَلَكَهَا بِدُونِ الْوَلَدِ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا تَابِعٌ لِحَقِّ الْوَلَدِ وَثُبُوتُ التَّبَعِ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْأَصْلُ لَا يَثْبُتُ التَّبَعُ وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَا يَثْبُتُ لَهَا فِي حَالِ الْكِتَابَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ كَانَتْ هِيَ أَمَةً قِنَّةً لِلْمَوْلَى بِخِلَافِ الْحُرِّ فَإِنَّ حَقِيقَةَ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ يَثْبُتُ لَهَا وَبِدُخُولِهَا فِي مِلْكِ الْمُكَاتَبِ لَا تَصِيرُ دَاخِلَةً فِي كِتَابَتِهِ تَبَعًا بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَعْتِقُ بِعِتْقِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ امْتِنَاعَ الْبَيْعِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيهَا تَبَعًا لِثُبُوتِهِ فِي الْوَلَدِ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي الْوَلَدِ بِأَنْ لَمْ يَمْلِكْ الْوَلَدُ مَعَهَا لَا يَثْبُتُ فِيهَا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ هُوَ الْأَصْلُ فِي بَقَاءِ الْأَجَلِ بِوُجُودِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا الْوَلَدُ يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي حَقِّهَا تَبَعًا وَيَسْعَى عَلَى النُّجُومِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا الْوَلَدُ لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي حَقِّهَا فَتُبَاعُ فِي الْمُكَاتَبَةِ ثُمَّ الْوَلَدُ خَلَفٌ عَنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ كَسْبُ الْمُكَاتَبِ حَقِيقَةً فَأَمَّا كَسْبُ الْوَلَدِ فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ فِي أَدَاءِ الْبَدَلِ مِنْهُ فَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمَالُ إذَا خَلَفَ مَالًا، وَبِاعْتِبَارِ الْمَالِ لَا يَبْقَى الْأَجَلُ حَالًّا وُجِدَ الْوَلَدُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمَيِّتِ وَلَا لِوَلَدِهِ فِي إبْقَاءِ الْأَجَلِ إذَا تَرَكَ وَفَاءً وَيَنْتَفِعُونَ بِبَقَاءِ الْأَجَلِ إذَا لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لِيَكْتَسِبَ وَلَدُهُ فَيُؤَدِّي، وَإِذَا تَرَكَ الْمُكَاتَبُ وَلَدَيْنِ وُلِدَا لَهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَمُكَاتَبَةٌ سَعَيَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَ الْأَبِ وَأَيُّهُمَا أَدَّاهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ لِأَبِيهِ مَا لَمْ يُحْكَمْ بِعِتْقِهِ فَيُجْعَلُ أَدَاؤُهُ مِنْ كَسْبِهِ كَأَدَائِهِ مِنْ مَالِ أَبِيهِ، وَأَيُّهُمَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى عَتَقَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ وَعَلَى الْآخَرِ أَنْ يَسْعَى فِي جَمِيعِ الْمُكَاتَبَةِ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي عَتَقَ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَيُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ وَالْآخَرُ مُحْتَاجٌ إلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَكَأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَمْ يَخْلُفْ إلَّا إيَّاهُ فَيَسْعَى فِي جَمِيعِ الْمُكَاتَبَةِ وَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا أَيَّهمَا شَاءُوا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مَالُ الْمَيِّتِ وَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ عَجَزَا جَمِيعًا بُدِئَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُمَا وَإِعْتَاقُ الْمَوْلَى أَحَدِهِمَا مُعْتَبَرٌ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ كَسْبِهِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا أَيَّهمَا شَاءُوا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَلَا يَرْجِعُ الَّذِي يُؤَدِّي مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ حُكْمًا فَكَأَنَّهُ أَدَّى مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ حَقِيقَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابُ جِنَايَةِ رَقِيقِ الْمُكَاتَبِ وَوَلَدِهِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا قَتَلَ عَبْدُ الْمُكَاتَبِ رَجُلًا خَطَأً قِيلَ لِلْمُكَاتَبِ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مُسْتَبِدٌّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ كَالْحُرِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَلَكَ بَيْعَهُ فَكَذَلِكَ يُخَاطَبُ بِدَفْعِهِ بِالْجِنَايَةِ بِخِلَافِ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُ بَيْعَهُمْ فَإِنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي كِتَابَتِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُمْ بِالْجِنَايَةِ كَمَا لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُمْ وَلِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ فَهُوَ مِلْكٌ لِمَوْلَاهُ كَنَفْسِهِ وَإِذَا قَتَلَ عَبْدُهُ رَجُلًا عَمْدًا فَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَبِدٌّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ جِنَايَتِهِ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيه لِتَسْلَمَ لَهُ نَفْسُهُ كَمَا لِلْحُرِّ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ يُؤْخَذُ بِهِ وَإِنْ عَجَزَ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ الْتَزَمَهُ بِتَصَرُّفٍ مَمْلُوكٍ بِهِ بِسَبَبِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَيُؤْخَذُ لَهُ بَعْدَ الْعَجْزِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَلْتَزِمُهُ بِالشِّرَاءِ وَإِنْ جَنَتْ أَمَتُهُ جِنَايَةً خَطَأً فَبَاعَهَا أَوْ وَطِئَهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَهَذَا مِنْهُ اخْتِيَارٌ وَعَلَيْهِ الْأَرْشُ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ الدَّفْعَ بِالْبَيْعِ وَالِاسْتِيلَادِ وَمَنْ خُوطِبَ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الدَّفْعِ بَعْدَ الْعِلْمِ كَانَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بَعْدَ الْعِلْمِ كَالْحُرِّ وَإِنْ قَتَلَهُ عَبْدٌ لَهُ عَمْدًا فَالْعَبْدُ فِي قَتْلِ مَوْلَاهُ عَمْدًا كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ كَالْحُرِّ إذَا قَتَلَهُ عَبْدُهُ فَالْمُكَاتَبُ مِثْلُهُ.
ثُمَّ الْمُكَاتَبُ إذَا قُتِلَ عَمْدًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ حِينَ مَاتَ عَاجِزًا فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ مِنْ قَاتِلِهِ، وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً وَلَهُ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْلَى فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ لِاشْتِبَاهِ مَنْ يَسْتَوْفِيهِ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَمُوتُ حُرًّا فَيَكُونُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِوَارِثِهِ وَعَلَى قَوْلِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَمُوتُ عَبْدًا فَيَكُونُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِلْمَوْلَى وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُمْكِنُ شُبْهَةً مُعْتَبَرَةً، وَمَعَ انْعِدَامِ الْمُسْتَوْفِي لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْقِصَاصِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ بَلْ الْمَقْصُودُ الِاسْتِيفَاءُ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ يَحْصُلُ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اجْتَمَعَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ بِأَصْلِ الْفِعْلِ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ لِاشْتِبَاهِ الْمُسْتَوْفِي فَلَا يَجِبُ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَرَاضِيهِمَا، وَإِنْ قُتِلَ وَلَا وَارِثَ لَهُ سِوَى الْمَوْلَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ الْقِصَاصُ لِمَوْلَاهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ لَهُ مُشْتَبَهٌ فَإِنَّ الْكِتَابَةَ إنْ انْفَسَخَتْ كَمَا قَالَ زَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّمَا يَسْتَوْفِيهِ بِالْمِلْكِ، وَإِنْ بَقِيَتْ كَمَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّمَا يَسْتَوْفِيهِ بِالْإِرْثِ بِالْوَلَاءِ وَاشْتِبَاهُ السَّبَبِ مُعْتَبَرٌ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَاشْتِبَاهِ الْمُسْتَوْفِي.
أَلَا تَرَى أَنَّ أَمَةَ إنْسَانٍ إذَا كَانَتْ فِي يَدِ غَيْرِهِ فَقَالَ ذُو الْيَدِ زَوَّجْتَنِيهَا بِكَذَا وَقَالَ الْمَوْلَى بَلْ بِعْتهَا مِنْك بِكَذَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطَأهَا لِاخْتِلَافِهِمَا فِي سَبَبِ ثُبُوتِ حِلِّ الْوَطْءِ لَهُ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ لَهُ حَلَالٌ، وَلَكِنْ مِنْ قِبَلِ أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَاشْتِبَاهُ السَّبَبِ يَكُونُ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِهِ، وَهُمَا يَقُولَانِ: تَيَقَّنَّا بِثُبُوتِ حَقِّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِلْمَوْلَى، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ كَمَا لَوْ قُتِلَ عَاجِزًا وَهَذَا لِأَنَّ الْأَسْبَابَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ لِأَعْيَانِهَا بَلْ لِإِحْكَامِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ غَصْبًا وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ قَرْضًا وَجَبَ الْمَالُ وَلَا يُنْظَرُ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي السَّبَبِ لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ فَكَذَا هُنَا لَا يُعْتَبَرُ الِاشْتِبَاهُ فِي السَّبَبِ بَعْدَ مَا تَعَيَّنَ الْمَوْلَى مُسْتَوْفِيًا بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ كَانَ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَكَ وَارِثًا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى هُنَاكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ مُسْتَوْفِيًا مَعَ اشْتِبَاهِ الْمُسْتَوْفِي لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ هُنَاكَ بِثُبُوتِ الْحِلِّ لَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَاذِبًا فِيمَا يَدَّعِي مِنْ السَّبَبِ وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ حُكْمِيٌّ وَلَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْ السَّبَبَيْنِ بِقَوْلِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَعَ تَكْذِيبِ صَاحِبِهِ وَبِدُونِ ثُبُوتِ سَبَبِ الْحِلِّ لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ وَهُنَا السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْقَوَدِ وَهُوَ الْعَمْدُ الْمَحْضُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَثُبُوتُ حَقِّ اسْتِيفَاءِ الْمَوْلَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ أَيْضًا، إمَّا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ أَوْ الْوَلَاءِ فَلِهَذَا يُمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَإِذَا اسْتَهْلَكَ عَبْدُ الْمُكَاتَبِ مَالًا فَهُوَ دَيْنٌ فِي عُنُقِهِ يُبَاعُ فِيهِ لِظُهُورِ سَبَبِهِ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ جَنَى عَبْدُهُ ثُمَّ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ بِالْعِتْقِ، وَإِنْ عَجَزَ فَالْخِيَارُ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِعَجْزِهِ تَقَرَّرَ لِلْمَوْلَى فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ كَمَا يُخَيَّرُ الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرَّثِ فِي جِنَايَةِ عَبْدِ الْحُرِّ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ وَامْرَأَتُهُ مُكَاتَبَيْنِ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَقَتَلَهُ الْمَوْلَى وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ الْكِتَابَةِ فَقِيمَتُهُ عَلَى مَوْلَاهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ وَلَدَهُمَا مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ، وَلَكِنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْكِتَابَةِ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ بِقَتْلِهِ كَمَا يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ لَوْ قَتَلَ الْمُكَاتَبَ فَالْمَالُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ يَجِبُ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَإِنْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ قَدْ حَلَّتْ قَاصَّهُمْ بِهَا؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ وَاجِبَةٌ لِلْأُمِّ فَإِنَّ الْوَلَدَ دَاخِلٌ فِي كِتَابَتِهَا حَتَّى يَكُونَ كَسْبُهُ لَهَا فَكَذَلِكَ بَدَلُ نَفْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ يَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ وَقَدْ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُطَالِبَ الْأُمَّ بِجَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَمَتَى الْتَقَى الدَّيْنَانِ تَقَاصَّا إذَا اسْتَوَيَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِيفَاءِ ثُمَّ عَلَى الْمَوْلَى أَدَاءُ فَضْلِ الْقِيمَةِ إلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ إنَّمَا وَقَعَتْ بِقَدْرِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَرَجَعَتْ الْأُمُّ عَلَى الْأَبِ بِمَا أَدَّتْ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ قَاضِيَةً بَدَلَ الْكِتَابَةِ بِالْمُقَاصَّةِ فَكَأَنَّهَا أَدَّتْ بِنَفْسِهَا فَتَرْجِعُ عَلَى الْأَبِ بِحِصَّتِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ لَمْ تَحِلَّ أَدَّى الْمَوْلَى الْقِيمَةَ إلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ لَا تَقَعُ بَيْنَ الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ مَا حَلَّ وَهُوَ الْقِيمَةُ لِتَسْتَعِينَ بِهِ فِي مُكَاتَبَتِهَا إذَا حَلَّتْ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ مُكَاتَبًا مَعَهَا فَقَتَلَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ حَلَّتْ الْقِيمَةُ اقْتَصَّ مِنْهَا بِقَدْرِ الْكِتَابَةِ إنْ كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ حَلَّتْ أَوْ لَمْ تَحِلَّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْمَقْتُولَ هُنَا مَقْصُودٌ بِالْكِتَابَةِ وَقَدْ كَانَ مُطَالَبًا بِجَمِيعِ الْبَدَلِ عِنْدَ حِلِّهِ وَالْأَجَلُ لَا يَبْقَى فِي حَقِّهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إذَا تَرَكَ وَفَاءً فَإِذَا حَلَّتْ الْقِيمَةُ فَقَدْ تَحَقَّقَ الْوَفَاءُ فَصَارَ قِصَاصًا بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ حَلَّتْ أَوْ لَمْ تَحِلَّ، وَيُؤَدِّي الْمَوْلَى إلَى الْوَرَثَةِ فَضْلَ الْقِيمَةِ وَالْأَبُ وَالْأُمُّ حِصَّتُهُمَا مِنْ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ لَوْ أَدَّى جَمِيعَ الْبَدَلِ فِي حَيَاتِهِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِحِصَّتِهَا مِنْهَا فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُؤَدَّيَا بِبَدَلِ نَفْسِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ يُقَسَّمُ ذَلِكَ كُلُّهُ بَيْنَ وَرَثَةِ الِابْنِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَرِثُ أَبَوَاهُ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ اسْتَنَدَ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ، وَكَذَلِكَ عِتْقُهُمَا لِاتِّحَادِ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِمْ (فَإِنْ قِيلَ) فَلِمَاذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى الدِّيَةُ (قُلْنَا) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِنَادَ الْحُرِّيَّةِ إلَى حَالِ الْحَيَاةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ وُجُوبُ الدِّيَةِ فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ حُرٍّ لَا تَجِبُ دِيَتُهُ وَلِأَنَّ الِاسْتِنَادَ فِيمَا هُوَ مِنْ حُكْمِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فِي شَيْءٍ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَضْمَنُ جِنَايَتَهُ وَلَا يَسْتَنِدُ الْعِتْقُ إلَى وَقْتِ جِنَايَتِهِ إنَّمَا يَسْتَنِدُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ.
وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى أُمَّ وَلَدٍ لِمُكَاتَبِهِ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ وَلَدَهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ دَاخِلٌ فِي كِتَابَتِهِ حَتَّى يَعْتِقَ بِعِتْقِهِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى فَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي كِتَابَتِهِ حَتَّى لَا تَعْتِقَ بِعِتْقِهِ فَلَا تَكُونُ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى.
تَوْضِيحُهُ أَنَّ فِي إعْتَاقِ الْوَلَدِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْمُكَاتَبِ فَأَمَّا فِي إعْتَاقِ أُمِّ الْوَلَدِ تَفْوِيتُ مَقْصُودِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ عَتَقَ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ يَطَؤُهَا وَيَسْتَمْتِعُ بِهَا وَفِي الْعِتْقِ تَفْوِيتُ هَذَا الْمَقْصُودِ عَلَيْهِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى وَلَوْ مَلَكَ الْمُكَاتَبُ أَبَ مَوْلَاهُ أَوْ ابْنَهُ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَعْتَقَ رَقِيقَ الْمُكَاتَبِ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُمْ فَلَا يَعْتِقُونَ عَلَيْهِ وَلَا يَمْتَنِعُ بَيْعُهُمْ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا مَلَكَ أَبَ نَفْسِهِ أَوْ ابْنَ نَفْسِهِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ بَيْعُهُمْ؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ حَقُّ الْمِلْكِ كَمَا لِلْمُكَاتَبِ، وَلَكِنْ قَالَ الْبَيْعُ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَفِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ أَجْنَبِيٌّ، وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ.
تَوْضِيحُهُ أَنَّ عِتْقَ أَبِ الْمُكَاتَبِ وَابْنِهِ مِنْ مَقْصُودِ الْمُكَاتَبِ وَكَسْبِهِ مَحَلٌّ لِمَا هُوَ مِنْ مَقَاصِدِهِ فَكَانَ فِي إدْخَالِهِمْ فِي كِتَابَتِهِ لِيَعْتِقُوا بِعِتْقِهِ مَعْنَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ، وَعِتْقُ أَبِ الْمَوْلَى وَابْنِ الْمَوْلَى لَيْسَ بِمَقْصُودٍ لِلْمُكَاتَبِ فَلَمْ يَكُنْ فِي إدْخَالِهِمْ فِي كِتَابَتِهِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ فَلِهَذَا لَا يَتَكَاتَبُونَ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَةً خَطَأً فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُ مُتَعَذِّرٌ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ، وَمُوجَبُ الْجِنَايَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الدَّفْعِ عَلَى مَنْ يَكُونُ الْكَسْبُ لَهُ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْأَقَلُّ مِنْ الْقِيمَةِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِمَا، فَإِنْ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى بَعْدَ مَا حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْأَقَلِّ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى يَلْزَمُهُ بِالْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَتَتَعَلَّقُ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ بِرَقَبَتِهِ وَيَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ كَالْجِنَايَةِ الْأُولَى.
وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِمُوجَبِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ لِوَلِيِّ كُلِّ جِنَايَةٍ قِيمَةٌ عَلَى حِدَةٍ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ جِنَايَتَهُ لَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ بَلْ مُوجَبُهُ الْقِيمَةُ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ مُتَعَذِّرٌ فَكَانَ الْقَضَاءُ وَغَيْرُ الْقَضَاءِ فِيهِ سَوَاءٌ، يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةٌ بِاعْتِبَارِ كُلِّ جِنَايَةٍ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ عِنْدَ كُلِّ جِنَايَةٍ وَعِنْدَنَا تَتَعَلَّقُ جِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ مَوْهُومٌ فَإِنَّهُ إنْ عَجَزَ انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ وَدَفَعَ بِالْجِنَايَةِ فَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الْجِنَايَاتُ فِي رَقَبَتِهِ قَبْلَ قَضَاءٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ لَمْ يَكُنْ حَقُّهُمْ إلَّا فِي رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْأُولَى؛ لِأَنَّهُ تَحَوَّلَ إلَى الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ثُمَّ تَعَلَّقَتْ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ بِرَقَبَتِهِ حَتَّى يَدْفَعَ بِهَا إذَا عَجَزَ فَلِهَذَا يَقْضِي لَهُ بِقِيمَةٍ أُخْرَى وَلَوْ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا هُوَ أَوْ ابْنٌ لَهُ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ صَالَحَ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى مَالِ جَازَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ تَبَعٌ لَهُ وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ جِنَايَةِ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ عَنْ جِنَايَةِ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ، فَإِنْ عَجَزَ فَرُدَّ فِي الرِّقِّ، فَإِنْ كَانَ أَعْطَى الْمَالَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدَّى الْمَالَ لَمْ يُؤْخَذْ بِالْمَالِ حَتَّى يَعْتِقَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُؤْخَذُ بِالْمَالِ فِي الْحَالِ فَيُبَاعُ فِيهِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُكَاتَبِ إذَا أَقَرَّ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ عَجَزَ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الْمَالِ بِقَوْلِهِ وَإِقْرَارِهِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا بَعْدَ الْعَجْزِ قَبْلَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْعَجْزِ الْحَقُّ فِي مَالِيَّتِهِ لِمَوْلَاهُ وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالْجِنَايَةِ بَعْدَ الْعَجْزِ، فَكَذَلِكَ فِي الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ دَمَ الْعَمْدِ لَيْسَ بِمَالٍ فَهُوَ بِهَذَا الصُّلْحِ يَلْتَزِمُ مَالًا لَا بِإِزَاءِ مَالٍ فَهُوَ وَمَا يُقِرُّ بِهِ سَوَاءٌ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِمَا فِي حَالِ قِيَامِ الْكِتَابَةِ فَيَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ فَيُبَاعُ فِيهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الدِّيَاتِ وَإِذَا حَفَرَ الْمُكَاتَبُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ حَفَرَ؛ لِأَنَّهُ جَانٍ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ بِالْحَفْرِ فِي الطَّرِيقِ فَيُجْعَلُ كَجِنَايَتِهِ مُبَاشَرَةً، وَإِذَا وَقَعَ فِيهَا آخَرُ بَعْدَ مَا قَضَى لِلْأَوَّلِ شَرِكَهُ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْمُكَاتَبِ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ الْحَفْرُ فَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنَّ الثَّانِيَ يُشَارِكُ الْأَوَّلَ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ بِخِلَافِ جِنَايَتِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ فَإِنَّ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْأُولَى.
وَلَوْ سَقَطَ حَائِطٌ لَهُ مَائِلٌ قَدْ شَهِدَ فِيهِ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ هَدْمِ الْحَائِطِ الْمَائِلِ فَإِذَا تَرَكَهُ بَعْدَ مَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ جُعِلَ كَالدَّفْعِ لَهُ عَلَى مَنْ سَقَطَ الْحَائِطُ عَلَيْهِ فَلَزِمَهُ قِيمَتُهُ وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِهِ قَتِيلٌ أُخِذَ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِيهَا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي دَارِهِ إلَيْهِ فَيَكُونُ كَالْحُرِّ فِي ذَلِكَ وَلَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ الْحُرِّ جُعِلَ كَالْقَاتِلِ لَهُ فِي وُجُوبِ الْبَدَلِ فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْمُكَاتَبِ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ فَيَنْقُصُ حِينَئِذٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُ مُعْتَبَرٌ بِوُجُوبِ الْقِيمَةِ إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمُكَاتَبِ لَا تُوجَبُ مِنْ قِيمَتِهِ إلَّا عَنْ أَلْفٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ بِالْجِنَايَةِ مِنْهُ، فَإِنْ جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ عَجَزَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالسِّعَايَةِ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ يُبَاعُ بِهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ ظَاهِرٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِالْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُقْضَ بِهَا عَلَيْهِ خُيِّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ الْوَاجِبُ قِيمَتُهُ يُبَاعُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي قُلْنَا إنَّ مُوجَبَ جِنَايَتِهِ الْقِيمَةُ ابْتِدَاءً وَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَقُولُ بِهَذَا مَرَّةً ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَقَالَ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمَا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَتِهِ فِي رَقَبَتِهِ لِتَوَهُّمِ إمْكَانِ الدَّفْعِ بَعْدَ الْعَجْزِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى الذِّمَّةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِذَا عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بَقِيَتْ الْجِنَايَةُ فِي رَقَبَتِهِ فَكَأَنَّهُ جَنَى ابْتِدَاءً بَعْدَ الْعَجْزِ فَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ فَالْوَاجِبُ أَرْشُ الْمَمَالِيكِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ وَذَلِكَ لِلْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْعَمْدُ قَوَدٌ وَالرَّقِيقُ فِي حُكْمِ الْقَوَدِ وَالْحُرُّ سَوَاءٌ».
وَإِنْ قُتِلَ ابْنُ الْمُكَاتَبِ أَوْ عَبْدُهُ فَلَا قَوَدَ عَلَى الْقَاتِلِ، أَمَّا الِابْنُ فَلِأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَمِنْ وَجْهٍ هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُكَاتَبِ حَتَّى يَكُونَ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ فَاشْتَبَهَ مَنْ يَجِبُ الْقِصَاصُ لَهُ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَأَمَّا عَبْدُهُ فَلِأَنَّ لِلْمَوْلَى فِيهِ حَقُّ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّ بِعَجْزِهِ يَتِمُّ فِيهِ مِلْكُ الْمَوْلَى وَمِنْ وَجْهٍ هُوَ مِلْكُ الْمُكَاتَبِ حَتَّى يَتِمَّ مِلْكُهُ فِيهِ إذَا أَعْتَقَ فَيَشْتَبِهُ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا صَارَ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ لِيُؤَدِّيَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَالْقِصَاصُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ وَالْمَوْلَى مَمْنُوعٌ مِنْ كَسْبِهِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقِصَاصِ لَهُ أَيْضًا وَمَعَ الِاشْتِبَاهِ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، وَإِنْ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُقْتَصَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِأَصْلِ الْفِعْلِ فَلَا يَجِبُ بِاتِّفَاقِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَى الْقَاتِلِ الْقِيمَةُ لَمَّا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ وَهُوَ وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَكْسَابِهِ، وَإِنْ عَفَوْا فَعَفْوُهُمَا بَاطِلٌ، أَمَّا الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ شَيْءٌ وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلِأَنَّ الْعَفْوَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ فَلَا يَصِحُّ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدُّيُونِ وَإِنْ قَتَلَ الْمَوْلَى مُكَاتَبَهُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا وَقَدْ تَرَكَ وَفَاءً فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ تَقْضِي بِهِ كِتَابَتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ ابْنَهُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ كَانَ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ وَبِنَفْسِهِ فَلَمَّا جُعِلَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فِيمَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ كَسْبِهِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ نَفْسِهِ وَإِنْ أَقَرَّ الْمُكَاتَبُ بِجِنَايَةٍ خَطَأً أَوْ عَمْدًا لَا قِصَاصَ فِيهِ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ مَادَامَ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَتِهِ فِي كَسْبِهِ وَإِقْرَارُهُ فِي كَسْبِهِ صَحِيحٌ، وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ بَطَلَتْ عَنْهُ قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُقْضَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا يُؤْخَذُ بِمَا قُضِيَ عَلَيْهِ مِنَّا خَاصَّةً وَمَا أَدَّاهُ قَبْلَ الْعَجْزِ لَمْ يَسْتَرِدَّهُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَلَا يَلْزَمُ الْمُكَاتَبَ مَهْرٌ مِنْ نِكَاحٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ حَتَّى يَعْتِقَ وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ يَعْنِي إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ يَغْرَمُ عُقْرَهَا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ هُنَاكَ كَانَ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ وَهُوَ عَقْدُ تِجَارَةٍ فَمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ الضَّمَانِ يَكُونُ ضَمَانَ التِّجَارَةِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَفِي النِّكَاحِ سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهُ وَوُجُوبُ الْمَهْرِ كَانَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَهُوَ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ فَمَا يَجِبُ بِسَبَبِهِ لَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ التِّجَارَةِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى يَعْتِقَ.
تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّهُ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي الشِّرَاءِ فَفِي الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِسَبَبِهِ يَلْتَحِقُ بِالْحُرِّ وَلَمْ يَصِرْ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ مِنْ نِكَاحِ نَفْسِهِ فَفِيمَا يَجِبُ بِسَبَبِهِ هُوَ كَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ.
وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُكَاتَبُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي عُقُودِ الِاكْتِسَابِ، وَلَيْسَ فِي التَّزَوُّجِ اكْتِسَابُ الْمَالِ بَلْ فِيهِ الْتِزَامُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَلِأَنَّ حُكْمَ الْمَالِكِيَّةِ إنَّمَا يُثْبِتُ لَهُ يَدًا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَكُلُّ عَقْدٍ لَا يُوَصِّلُهُ إلَى ذَلِكَ لَا يُثْبِتُ لَهُ حُكْمَ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ بَلْ يَكُونُ هُوَ كَالْعَبْدِ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ لِلْعَبْدِ وَلَيْسَ بِاكْتِسَابٍ لِلْمَالِ، وَكَذَلِكَ لَا يُزَوِّجُ ابْنَهُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الْبَاقِيَ فِيهِ مُخْرِجٌ لَهُ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ بِالْقَرَابَةِ وَسَبَبُ الْمِلْكِ فِي ابْنِهِ أَبْعَدُ عَنْهُ مِنْ عَبْدِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ وَلِهَذَا لَا يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ فِي كِتَابَتِهِ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِمَوْلَاهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ وَلَا يُزَوِّجُهَا بِدُونِ إذْنِ مَوْلَاهَا وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ اكْتِسَابٌ فِي حَقِّهِ فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ بِهِ الْمَهْرَ وَيُسْقِطُ عَنْ نَفْسِهِ نَفَقَتَهَا وَهُوَ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي عُقُودِ الِاكْتِسَابِ (فَإِنْ قِيلَ) هَذَا مَوْجُودٌ فِي حَقِّ ابْنَتِهِ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّ ابْنَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى وَأَمَتُهُ لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِلْمَوْلَى حَتَّى يَنْفُذَ عِتْقُ الْمَوْلَى فِي ابْنَتِهِ دُونَ أَمَتِهِ وَلَوْ عَجَزَ وَقَدْ حَاضَتْ ابْنَتُهُ حَيْضَةً لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى فِيهَا اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ وَيَلْزَمُ ذَلِكَ فِي أَمَتِهِ وَمُكَاتَبَتِهِ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ بِكِتَابَتِهَا ثَبَتَ لَهَا الْحَقُّ فِي نَفْسِهَا دُونَ إذْنِ الْمَوْلَى وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا فِي تَزْوِيجِهَا وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَا الْمَوْلَى وَلَا تَتَزَوَّجُ الْمُكَاتَبَةُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اكْتِسَابٌ لِلْمَهْرِ فِي حَقِّهَا، وَلَكِنَّ رَقَبَتَهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَيَمْنَعُ ذَلِكَ ثُبُوتَ وِلَايَةِ الِاسْتِبْدَادِ لَهَا بِالتَّزَوُّجِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْيِيبُ رَقَبَتِهَا فَإِنَّ النِّكَاحَ عَيْبٌ فِيهَا وَرُبَّمَا تَعْجُزُ فَيَبْقَى هَذَا الْعَيْبُ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى.
تَوْضِيحُهُ أَنَّ النِّكَاحَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي الْأَصْلِ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ بَلْ لِلتَّحْصِينِ وَالنَّفَقَةِ وَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ فِي عُقُودِ اكْتِسَابِ الْمَالِ فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهَا مِنْ تَزْوِيجِ نَفْسِهَا شَيْئًا آخَرَ سِوَى الْمَالِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْعَقْدُ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْفَكُّ الثَّابِتُ بِالْكِتَابَةِ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا فَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا حَتَّى عَتَقَتْ جَازَ النِّكَاحُ وَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْمَوْلَى وَقَدْ سَقَطَ بِالْعِتْقِ، وَنُفُوذُ الْعَقْدِ كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ وَفِي مِثْلِهِ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهَا.
وَإِذَا وَقَعَ الْمُكَاتَبُ عَلَى بِكْرٍ فَافْتَضَّهَا كَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِوُجُودِ الزِّنَا الْمَحْضِ مِنْهُ وَهُوَ مُخَاطَبٌ، فَإِنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ وَجْهُ شُبْهَةٍ وَلَمْ تُطَاوِعْهُ الْمَرْأَةُ كَانَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ إذَا حَصَلَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَقَدْ سَقَطَتْ الْعُقُوبَةُ فَوَجَبَ الْمَهْرُ.
إلَّا أَنَّهَا إذَا طَاوَعَتْهُ فَقَدْ رَضِيَتْ بِتَأْخِيرِ حَقِّهَا فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِذَا لَمْ تُطَاوِعْهُ فَلَمْ تَرْضَ بِتَأْخِيرِ حَقِّهَا فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهَا كَانَ مُؤَاخَذًا بِالْأَرْشِ فِي الْحَالِ، فَإِنْ قَالَ تَزَوَّجْتهَا فَصَدَّقَتْهُ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْمَهْرُ إذَا عَتَقَ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهَا بِتَأْخِيرِ حَقِّهَا، وَإِنْ قَالَ اشْتَرَيْتهَا أَوْ وُهِبَتْ لِي أُخِذَ بِالْمَهْرِ فِي الْمُكَاتَبَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي الشِّرَاءِ الْوَاجِبَ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ التِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْمَالِ فَهُوَ نَظِيرُ الشِّرَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ بَعْدَ الْمِلْكِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ سِوَاهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِعْلُ الْغَيْرِ فِي الرِّضَا بِالتَّأْخِيرِ بِخِلَافِ التَّزْوِيجِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهَا مِنْ نَفْسِهَا فَيُعْتَبَرُ رِضَاهَا وَتَمْكِينُهَا مِنْ تَأْخِيرِ حَقِّهَا.
وَلَا يَجُوزُ هِبَةُ الْمُكَاتَبِ وَلَا صَدَقَتُهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَتَوَقَّفُ عِتْقُهُ وَهِبَتُهُ وَصَدَقَتُهُ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْمَوْلَى بِعِتْقِ الْمُكَاتَبِ فَإِذَا عَتَقَ نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ فِيهِ حَقُّ الْمَوْلَى عَلَى أَنْ يَصِيرَ مَمْلُوكًا إذَا عَجَزَ فَيَمْتَنِعُ نُفُوذُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْهُ فِي الْحَالِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمَوْلَى فَإِذَا سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى بِالْعِتْقِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ كَالْوَارِثِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّبَرُّعَاتِ لِكَوْنِهِ عَبْدًا وَلِأَنَّ صِحَّةَ التَّبَرُّعَاتِ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ التَّصَرُّفُ إذَا صَدَرَ مِنْ غَيْرِ أَهْلٍ فَهُوَ كَالصَّبِيِّ إذَا أَعْتَقَ أَوْ وَهَبَ ثُمَّ بَلَغَ لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ مِنْهُ وَلِأَنَّ بِالْعِتْقِ يَتِمُّ مِلْكُهُ فِي الْكَسْبِ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ فَلَا يَنْفُذُ التَّبَرُّعُ السَّابِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَوْ وَهَبَ كَسْبَهُ ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ حَتَّى مَلَكَ الْمَوْلَى لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ مِنْهُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَا يَجُوزُ وَصِيَّةُ الْمُكَاتَبِ، وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَكُونُ كَتَبَرُّعِهِ فِي حَيَاتِهِ (فَإِنْ قِيلَ) أَلَيْسَ أَنَّهُ إذَا أُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ حُرًّا وَلَوْ عَتَقَ فِي حَالَ حَيَاتِهِ وَجَبَ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ بِمَالٍ مُرْسَلٍ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ ثُلُثِهِ فَكَذَلِكَ أُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ (قُلْنَا) قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِنَادَ حُرِّيَّتِهِ إلَى آخِرِ حُكْمِ الْكِتَابَةِ لِلضَّرُورَةِ وَوَصِيَّتُهُ لَيْسَتْ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ وَلِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ إنَّمَا تَسْتَنِدُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَتِلْكَ الْحَالَةُ لِلَطَافَتِهَا لَا تَتَّسِعُ لِلْوَصِيَّةِ وَلَا يَجُوزُ إقْرَاضُهُ وَلَا كَفَالَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ.
إلَّا أَنَّ كَفَالَتَهُ كَكَفَالَةِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَاسْتِقْرَاضُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ بِالْمُحَابَاةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التِّجَارَةِ وَقَدْ يَفْعَلُهُ التَّاجِرُ لِإِظْهَارِ الْمُسَامَحَةِ حَتَّى يَمِيلَ النَّاسُ إلَيْهِ وَيُحَابِي فِي تَصَرُّفٍ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى تَصَرُّفٍ آخَرَ هُوَ أَنْفَعُ لَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ حَطَّ شَيْئًا بَعْدَ الْبَيْعِ بِعَيْبٍ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ أَوْ زَادَ فِي ثَمَنِهِ شَيْئًا اشْتَرَاهُ فَهَذَا مِنْ صُنْعِ التِّجَارَةِ وَالْمُكَاتَبُ فِيمَا هُوَ مِنْ التِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ وَإِنْ أَعَارَ دَابَّةً أَوْ أَهْدَى هَدِيَّةً أَوْ دَعَا إلَى طَعَامٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، فَأَمَّا فِي الْقِيَاسِ هَذَا كُلُّهُ تَبَرُّعٌ وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ، فَقَالَ: هَذَا مِنْ صُنْعِ التِّجَارَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ إيجَادِ الدَّعْوَةِ لِلْمُجَاهِرِينَ أَوْ الْإِهْدَاءِ إلَيْهِمْ أَوْ إعَارَةِ مَسْكَنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ إذَا أَتَوْهُ مِنْ بَلْدَةٍ أُخْرَى، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ تَفَرَّقُوا عَنْهُ فَلِكَوْنِهِ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ قُلْنَا يَمْلِكُهُ اسْتِحْسَانًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْسُوَ الثَّوْبَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَمْلِيكٌ لِعَيْنِ الثَّوْبِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ وَالتَّاجِرُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ عَادَةً، وَكَذَلِكَ لَا يُعْطِي دِرْهَمًا فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ بِخِلَافِ الْمَنْفَعَةِ فَالتُّجَّارُ يَتَوَسَّعُونَ فِي الْمَنَافِعِ مَا لَا يَتَوَسَّعُونَ فِي الْأَعْيَانِ فَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ دُونَ الدِّرْهَمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ عَادَةً فَإِنَّ مُجَاهِرَهُ إذَا شَرِبَ الْمَاءَ مِنْ سِقَاءٍ عَلَى بَابِ حَانُوتِهِ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ إعْطَاءِ فَلْسٍ لِأَجْلِهِ وَمَا دُونَ الدِّرْهَمِ قَلِيلٌ يَتَوَسَّعُ فِيهِ النَّاسُ فَلِهَذَا يَمْلِكُهُ اسْتِحْسَانًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.