فصل: جِمَاعُ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.جِمَاعُ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ:

فَأَمَّا جِمَاعُ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ حَرَامٌ بِالنَّصِّ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ وَيَفْسُقُ مُبَاشِرُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَمْتَدُّ إلَى الطُّهْرِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي غَيْرِ مَأْتَاهَا أَوْ أَتَاهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَوْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ بِالْوَطْءِ سِوَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنْ وَطِئَهَا فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ وَإِنْ وَطِئَهَا فِي آخِرِ الْحَيْضِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنِصْفِ دِينَارٍ وَرَوَى فِيهِ حَدِيثًا شَاذًّا وَلَكِنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: إنِّي رَأَيْت فِي الْمَنَامِ كَأَنِّي أَبُولُ دَمًا فَقَالَ: أَتَصْدُقُنِي قَالَ: نَعَمْ قَالَ: إنَّك تَأْتِي امْرَأَتَك فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ وَلَمْ يُلْزِمْهُ الْكَفَّارَةَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى الْجِمَاعِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا فَوْقَ الْمِئْزَرِ وَلَيْسَ لَهُ مَا تَحْتَهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَجْتَنِبُ شِعَارَ الدَّمِ وَلَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ مَعَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ هُوَ أَذًى} فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْحُرْمَةَ لِمَعْنَى اسْتِعْمَالِ الْأَذَى وَذَلِكَ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ وَرُوِيَ فِي الْكِتَابِ عَنْ الصَّلْتِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ سَأَلْت عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَتْ: يَتَجَنَّبُ شِعَارَ الدَّمِ وَلَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ يَعْنِي الْجِمَاعَ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ بَاقٍ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ وَحُرْمَةُ الْفِعْلِ لِمَعْنَى اسْتِعْمَالِ الْأَذَى فَكُلُّ فِعْلٍ لَا يَكُونُ فِيهِ اسْتِعْمَالُ الْأَذَى فَهُوَ حَلَالٌ مُطْلَقٌ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْحَيْضِ وَقَاسَهُ بِالِاسْتِمْتَاعِ فَوْقَ الْمِئْزَرِ وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الِاسْتِمْتَاعِ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا فَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْآثَارُ صَارَ مَخْصُوصًا مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ وَبَقِيَ مَا سِوَاهُ عَلَى الظَّاهِرِ.
وَرُوِيَ «أَنَّ وَفْدًا سَأَلُوا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْبُيُوتِ وَعَنْ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَقَالَ: أَسَحَرَةٌ أَنْتُمْ لَقَدْ سَأَلْتُمُونِي عَمَّا سَأَلْت عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ مَا فَوْقَ الْمِئْزَرِ وَلَيْسَ لَهُ مَا تَحْتَهُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ نُورٌ فَنَوِّرْ بَيْتَك مَا اسْتَطَعْت وَذَكَرَ الِاغْتِسَالَ مِنْ الْجَنَابَةِ» وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ: كُنْت فِي فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحِضْت فَانْسَلَلْت مِنْ الْفِرَاشِ فَقَالَ مَالَك «أَنَفِسْت قُلْت: نَعَمْ قَالَ: ائْتَزِرِي وَعُودِي إلَى مَضْجَعِك فَفَعَلْت فَعَانَقَنِي طُولَ اللَّيْلِ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ فِي مَوْضِعِ الْفَرْجِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ وَإِذَا قَرُبَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُوَاقِعَ الْحَرَامَ فَلْيَجْتَنِبْ مِنْ ذَلِكَ بِالِاكْتِفَاءِ بِمَا فَوْقَ الْمِئْزَرِ وَكَانَ هَذَا نَوْعَ احْتِيَاطٍ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَحِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» وَمُحَمَّدٌ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ وَقَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاتِّزَارِ حَقِيقَةَ الِاتِّزَارِ بَلْ الْمُرَادُ مَوْضِعُ الْكُرْسُفِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ التَّابِعِينَ اخْتِلَافٌ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا فَوْقَ الْمِئْزَرِ فَكَانَ إبْرَاهِيمُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِالسُّرَّةِ وَمَا فَوْقَهَا وَكَانَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْمُرَادُ: أَنْ يَتَدَفَّأَ بِالْإِزَارِ وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَوْقَ الْإِزَارِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَزِلَ فِرَاشَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ تَشَبُّهٌ بِالْيَهُودِ وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَرُوِيَ «أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَعَلَ ذَلِكَ فَبَلَغَ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِ وَقَالَتْ: أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُضَاجِعُنَا فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ».
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَى شَعْرِهَا وَصَدْرِهَا وَسَاقِهَا وَإِنْ اشْتَهَى لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ مَطْلُوبَةٌ بِالشِّرَاءِ فَلَا يَصِيرُ مِقْدَارُهُ مَعْلُومًا إلَّا بِالنَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَلِلْحَاجَةِ جَازَ النَّظَرُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمَسَّ إنْ اشْتَهَى أَوْ كَانَ ذَلِكَ أَكْبَرَ رَأْيِهِ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْمَسِّ فَمِقْدَارُ الْمَالِيَّةِ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِدُونِهِ وَلِأَنَّ حُكْمَ الْمَسِّ أَغْلَظُ مِنْ النَّظَرِ كَمَا قَرَرْنَا وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ حُكْمَ غُسْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَحُكْمُ غُسْلِ أُمِّ الْمَوْلَى لِمَوْلَاهَا وَإِذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ الرِّجَالِ وَلَا امْرَأَةَ مَعَهُمْ لَمْ يُغَسِّلُوهَا وَإِنْ كَانُوا مَحَارِمَهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لِابْنِهَا أَوْ أَبِيهَا أَنْ يُغَسِّلَهَا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ فِي حَقِّ الْمَحْرَمِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ نَظَرِ الْجِنْسِ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا الظَّهْرُ وَالْبَطْنُ عَوْرَةٌ فِي حَقِّ الْمَحَارِمِ وَبِالْمَوْتِ تَتَأَكَّدُ الْحُرْمَةُ وَلَا تَرْتَفِعُ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَالْآدَمِيُّ مُحْتَرَمٌ شَرْعًا حَيًّا وَمَيِّتًا وَلِهَذَا لَا يُغَسِّلُهَا الْمَحْرَمُ وَلَا غَيْرُ الْمَحْرَمِ وَلَكِنَّهَا تُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ مَعَ الرِّجَالِ لَيْسَ مَعَهُمْ امْرَأَةٌ قَالَ تُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ» وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ غُسْلُهَا لِانْعِدَامِ مَنْ يُغَسِّلُهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ غُسْلُهَا لِانْعِدَامِ مَا تُغَسَّلُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يُيَمِّمُهَا مَحْرَمًا لَهَا يَمَّمَهَا بِغَيْرِ خِرْقَةٍ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْرَمٍ لَهَا يَمَّمَهَا بِخِرْقَةٍ يَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمَسَّهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهَا بِخِلَافِ الْمَحْرَمِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا وَيَعْرِضَ بِوَجْهِهِ عَنْ ذِرَاعَيْهَا كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا دُونَ ذِرَاعَيْهَا وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ زَوْجُهَا لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْأَجْنَبِيِّ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي امْرَأَةٍ لَهُ هَلَكَتْ: نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا حِينَ كَانَتْ حَيَّةً فَأَمَّا إذْ مَاتَتْ فَأَوْلِيَاؤُهَا أَحَقُّ بِهَا وَإِنْ مَاتَ رَجُلٌ مَعَ نِسَاءٍ لَيْسَ فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ يَمَّمْنَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ مَنْ تُيَمِّمُهُ إذَا كَانَتْ حُرَّةً تُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ تَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهَا لِأَنَّهُ مَا كَانَ لَهَا أَنْ تَمَسَّهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً تُيَمِّمُهُ بِغَيْرِ خِرْقَةٍ لِأَنَّهُ كَانَ لَهَا أَنْ تَمَسَّهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ الْأَمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْرَمِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَأَمَتُهُ وَأَمَةُ غَيْرِهِ فِي هَذَا سَوَاءٌ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ انْتَقَلَ إلَى وَارِثِهِ بِمَوْتِهِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ كَافِرٌ عَلَّمْنَهُ الْغُسْلَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَ الرِّجَالِ أَمَةٌ كَافِرَةٌ عَلَّمُوهَا الْغُسْلَ لِتُغَسِّلَهَا لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمُوَافَقَةِ فِي الدِّينِ وَالْمُخَالَفَةِ إلَّا أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَعْرِفُ سُنَّةَ غُسْلِ الْمَوْتَى فَيُعَلَّمُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَهُنَّ صِبْيَةٌ صِغَارٌ لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشَّهْوَةِ عَلَّمُوهُمْ غُسْلَ الْمَوْتَى لِيُغَسِّلُوهَا وَهَذَا عَجِيبٌ فَالرِّجَالُ قَدْ يَعْجِزُونَ عَنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ فَكَيْفَ يَقْوَى عَلَيْهِ الصِّغَارُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشَّهْوَةِ وَلَكِنَّ مُرَادَ مُحَمَّدٍ بَيَانُ الْحُكْمِ أَنْ تُصُوِّرَ فَإِنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ فَجَرَبِهَا ابْنُهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّ حِلَّ الْمَسِّ وَالْغُسْلِ هَهُنَا بِاعْتِبَارِ الْعِدَّةِ حَتَّى لَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ وَبِمَا اعْتَرَضَ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الْعِدَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَارِضُ قَبْلَ مَوْتِهِ لِأَنَّ الْحِلَّ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ النِّكَاحِ وَقَدْ ارْتَفَعَ بِهَذَا الْعَارِضِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ: إنَّ رِدَّتَهَا وَفِعْلَ ابْنِ الزَّوْجِ بِهَا لَوْ صَادَفَ حِلًّا مُطْلَقًا كَانَ رَافِعًا لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا صَادَفَ مَا بَقِيَ مِنْ الْحِلِّ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ حِلُّ الْغُسْلِ وَالْمَسِّ فَيَكُونُ رَافِعًا لَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَلَا نَقُولُ أَنَّ هَذَا الْحِلَّ لِأَجْلِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ الْعِدَّةَ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَالْوَطْءُ بِالشُّبْهَةِ لَا يُفِيدُ حِلَّ الْغُسْلِ وَالْمَسِّ وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ أَنَّ الْمَجُوسِيَّ لَوْ أَسْلَمَ وَمَاتَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَ زُفَرَ وَلَهَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَزُفَرُ يَعْتَبِرُ وَقْتَ الْمَوْتِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حِلُّ الْغُسْلِ وَالْمَسِّ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا يَثْبُتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ انْقَضَتْ عِدَّةُ الْأُخْتِ وَقَاسَ بِحُكْمِ الْفِرَارِ فِي الْمِيرَاثِ فَإِنَّهَا لَوْ أُعْتِقَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ أَسْلَمَتْ لَمْ تَرِثْ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَتْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ أَوْ أُعْتِقَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْحِلُّ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا بَعْدَ وَطْءِ الْأُخْتِ وَلَكِنَّ عِدَّتَهَا مَانِعَةٌ وَلَوْ زَالَ هَذَا الْمَانِعُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ثَبَتَ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ مُطْلَقًا فَكَذَلِكَ إذَا زَالَ بَعْدَ مَوْتِهِ ثَبَتَ مِنْ الْحِلِّ بِقَدْرِ مَا يَقْبَلُهُ الْمَحَلُّ وَهُوَ حِلُّ الْغُسْلِ وَالْمَسِّ وَأَمَّا الصَّغِيرُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ إذَا مَاتَ مَعَ النِّسَاءَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُغَسِّلْنَهُ وَكَذَلِكَ الصَّغِيرَةُ مَعَ الرِّجَالِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ لِعَوْرَتِهِ حُكْمُ الْعَوْرَةِ فِي الْحَيَاةِ حَتَّى لَا يَجِبَ سُتْرَةٌ وَيُبَاحُ النَّظَرُ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَعْتُوهَةُ كَالْعَاقِلَةِ لِأَنَّهَا تُشْتَهَى وَإِذَا حَضَرَ الْمُسَافِرَ الصَّلَاةُ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً إلَّا فِي إنَاءٍ أَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّهُ قَذِرٌ وَهُوَ عِنْدَهُ مُسْلِمٌ مَرْضِيٌّ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فِي أَمْرِ الدِّينِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ عِنْدَنَا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مَا لَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ أَيْضًا فَإِنَّ الْعَمَلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَجُوزُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ}.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} وَمِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْبَيَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وُجُوبُ الْقَبُولِ مِنْهُ وَفَائِدَةُ الْقَبُولِ مِنْهُ الْعَمَلُ بِهِ قَالَ تَعَالَى {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} وَاسْمُ الطَّائِفَةِ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ فَصَاعِدًا وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ إلَى قَيْصَرَ لِيَدْعُوَهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ إلَى كِسْرَى وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كِتَابٌ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُلْزِمًا لَمَا اكْتَفَى بِبَعْثِ الْوَاحِدِ «وَبَعَثَ عَلِيًّا وَمُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا إلَى الْيَمَنِ» وَالْآثَارُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ كَثِيرَةٌ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ بَعْدَ هَذَا بَعْضَهَا وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْعَمَلِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْعَمَلِ بِمَا يُخْبَرُ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ حَتَّى يُكْتَفَى فِيهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِالِاتِّفَاقِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَغَالِبُ الرَّأْيِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا عِلْمَ الْيَقِينِ.
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا الْمُخْبِرُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مَرْضِيًّا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مَسْتُورًا فَإِنْ كَانَ عَدْلًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِذَلِكَ الْمَاءِ لِتَرْجِيحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ لِظُهُورِ عَدَالَتِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فَلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِذَلِكَ الْمَاءِ لِتَرْجِيحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ فَإِنَّ اعْتِبَارَ دِينِهِ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ وَاعْتِبَارَ تَعَاطِيهِ الْكَذِبَ وَارْتِكَابِهِ مَا يَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَذِبِهِ فِي خَبَرِهِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّوَقُّفِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَبَيَّنُوا} وَعِنْدَ الْمُعَارَضَةِ الْأَصْلُ فِي الْمَاءِ الطَّهَارَةُ فَيَتَمَسَّكُ بِهِ وَيَتَوَضَّأُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْأَخْذُ فِيهَا بِخَبَرِ الْفَاسِقِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ هُنَاكَ تَتَحَقَّقُ- فَالْعَدْلُ لَا يُوجَدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَلَا دَلِيلَ هُنَاكَ يُعْمَلُ بِهِ سِوَى الْخَبَرِ وَهُنَا لَا ضَرُورَةَ وَمَعَنَا دَلِيلٌ آخَرُ يُعْمَلُ بِهِ سِوَى الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَاءِ الطَّهَارَةُ.
(فَإِنْ قِيلَ): أَلَيْسَ أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ لَا يُقْبَلُ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَلَيْسَ هُنَاكَ دَلِيلٌ سِوَى الْخَبَرِ.
(قُلْنَا): الضَّرُورَةُ هُنَاكَ لَا تَتَحَقَّقُ لِأَنَّ فِي الْعُدُولِ الَّذِينَ يَرْوُونَ ذَلِكَ الْخَبَرَ كَثْرَةٌ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْخَبَرَ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ مُلْزِمٍ فَيَسْقُطُ فِيهِ اعْتِبَارُ شَرْطِ الْعَدَالَةِ وَفِي الدِّيَانَاتِ الْخَبَرُ مُلْزِمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ شَرْطِ الْعَدَالَةِ فِيهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَسْتُورًا فَأُلْحِقَ الْمَسْتُورُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِالْفَاسِقِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْمَسْتُورُ فِي هَذَا الْخَبَرِ كَالْعَدْلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِينَ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ مَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَحَدِ شَرْطَيْ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ الْخَبَرُ مُلْزِمًا وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ قُلْنَا مَا كَانَ شَرْطًا لَا يَكْتَفِي بِوُجُودِهِ ظَاهِرًا كَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ مَضَى الْيَوْمُ فَقَالَ الْعَبْدُ لَمْ أَدْخُلْ وَقَالَ الْمَوْلَى: دَخَلْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِأَنَّ عَدَمَ الدُّخُولِ شَرْطٌ فَلَا يَكْتَفِي بِثُبُوتِهِ ظَاهِرًا لِنُزُولِ الْعِتْقِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ عَبْدًا لِأَنَّ فِي أُمُورِ الدِّينِ خَبَرَ الْعَبْدِ كَخَبَرِ الْحُرِّ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَهَذَا لِأَنَّهُ يُلْزِمُهُ نَفْسَهُ ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْغَيْرِ وَبِالرِّقِّ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ فَأَمَّا فِيمَا هُوَ إلْزَامٌ يُسَوَّى بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ امْرَأَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَهَذَا لِأَنَّهَا تَلْتَزِمُ كَالرَّجُلِ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا وَرِوَايَةُ النِّسَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَتْ مَقْبُولَةً كَرِوَايَةِ الرِّجَالِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تَأْخُذُونَ شَطْرَ دِينِكُمْ مِنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا» ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْفَاسِقِ وَالْمَسْتُورِ أَنَّهُ يُحَكِّمُ رَأْيَهُ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ تَيَمَّمَ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِيمَا بُنِيَ عَلَى الِاحْتِيَاطِ كَالْيَقِينِ وَإِنْ أَرَاقَهُ ثُمَّ تَيَمَّمَ كَانَ أَحْوَطَ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ تَوَضَّأَ بِهِ وَلَمْ يَتَيَمَّمْ.
(فَإِنْ قِيلَ): كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَيَمَّمَ احْتِيَاطًا لِمَعْنَى التَّعَارُضِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ كَمَا قُلْنَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ التَّوَضُّؤِ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ.
(قُلْنَا): حُكْمُ التَّوَقُّفِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ مَعْلُومٌ بِالنَّصِّ وَفِي الْأَمْرِ بِالتَّيَمُّمِ هُنَا عُمِلَ بِخَبَرِهِ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ بِخِلَافِ النَّصِّ وَلَمَّا ثَبَتَ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ بَقِيَ أَصْلُ الطَّهَارَةِ لِلْمَاءِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ضَمِّ التَّيَمُّمِ إلَيْهِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ وَرَدَ مَاءَ حِيَاضٍ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ: أَخْبِرْنَا عَنْ السِّبَاعِ أَتَرِدُ مَاءَكُمْ هَذَا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا تُخْبِرْنَا عَنْ شَيْءٍ فَلَوْلَا أَنَّ خَبَرَهُ عُدَّ خَبَرًا لِمَا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَعَمْرُو بْنِ الْعَاصِ بِالسُّؤَالِ قَصَدَ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ وَقَدْ كَرِهَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِوُجُودِ دَلِيلِ الطَّهَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا بَقِيَ هَذَا الدَّلِيلُ فَلَا حَاجَةَ إلَى احْتِيَاطٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ لَا لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِي مَعْنَى الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ وَلَكِنْ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُمْ السَّعْيُ فِي إفْسَادِ دِينِ الْحَقِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي إفْسَادِ أَمْرِكُمْ فَكَانَ مُتَّهَمًا فِي هَذَا الْخَبَرِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ كَمَا لَا يُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لِمَعْنَى التُّهْمَةِ يَقُولُ: فَإِنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُرِيقَ الْمَاءَ ثُمَّ يَتَيَمَّمَ وَإِنْ تَوَضَّأَ بِهِ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ وَفِي خَبَرِ الْفَاسِقِ قَالَ: وَإِذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ تَيَمَّمَ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْفَاسِقَ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ وَلِهَذَا نَفَذَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ فَيَتَأَيَّدُ ذَلِكَ بِأَكْبَرِ رَأْيِهِ وَلَيْسَ الْكَافِرُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْكَافِرَ يُلْزِمُ الْمُسْلِمَ ابْتِدَاءً بِخَبَرِهِ وَلَا يَلْتَزِمُ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَأَمَّا الْفَاسِقُ الْمُسْلِمُ يَلْتَزِمُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ.
(قَالَ) وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ إذَا عَقَلَا مَا يَقُولَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ: مُرَادُهُ بِهَذَا الْعَطْفِ أَنَّ الصَّبِيَّ كَالْبَالِغِ إذَا كَانَ مَرْضِيًّا وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مَنْ سَمِعَ فِي صِغَرِهِ وَلَوْ رَوَى كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ وَكَمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْبُلُوغِ كَمَا فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ مُرَادَهُ الْعَطْفُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَأَنَّ خَبَرَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ فِي هَذَا كَخَبَرِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُمَا لَا يَلْتَزِمَانِ شَيْئًا وَلَكِنْ يُلْزِمَانِ الْغَيْرَ ابْتِدَاءً فَإِنَّهُمَا غَيْرُ مُخَاطَبَيْنِ فَلَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَكَانَ خَبَرُهُمَا فِي مَعْنَى خَبَرِ الْكَافِرِ رَجُلٌ دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَأْكُلُونَ طَعَامًا وَيَشْرَبُونَ شَرَابًا فَدَعَوْهُ إلَيْهِ فَقَالَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ قَدْ عَرَفَهُ: هَذَا اللَّحْمُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ وَهَذَا الشَّرَابُ قَدْ خَالَطَهُ الْخَمْرُ وَقَالَ الَّذِينَ دَعَوْهُ إلَى ذَلِكَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ وَهُوَ حَلَالٌ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى حَالِهِمْ فَإِنْ كَانُوا عُدُولًا لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُعَارِضُ خَبَرَ الْجَمَاعَةِ فَإِنَّ خَبَرَ الْجَمَاعَةِ حُجَّةٌ فِي الدِّيَانَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الْأَحْكَامِ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِيِّ وَلَا يَشْرَبُونَ مَا خَالَطَهُ الْخَمْرُ فَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي مُعَارَضَةِ خَبَرِهِمْ خَبَرٌ مُسْتَنْكَرٌ فَلَا يُقْبَلُ، وَإِنْ كَانُوا مُتَّهَمِينَ أُخِذَ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَقْرَبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ خَبَرَهُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِمْ مُسْتَقِيمٌ صَالِحٌ وَلَا مُعْتَبَرَ بِخَبَرِهِمْ لِفِسْقِهِمْ فِي حُكْمِ الْعَمَلِ بِهِ وَلِأَنَّ خَبَرَ الْعَدْلِ بِالْحُرْمَةِ يُرِيبُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِاعْتِبَارِ حَالِهِمْ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ بِالْحُرْمَةِ حُرًّا أَوْ مَمْلُوكًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ فَإِنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مِنْ بَابِ الدِّينِ وَلَوْ كَانَ فِي الْقَوْمِ رَجُلَانِ مَرْضِيَّانِ أُخِذَ بِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي الْأَحْكَامِ تَتِمُّ بِخَبَرِ الْمَثْنَى فَلَا يُعَارِضُ خَبَرُهُمَا خَبَرَ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ ثِقَةٌ وَاحِدٌ عُمِلَ فِيهِ عَلَى أَكْبَرِ رَأْيِهِ لِاسْتِوَاءِ الْخَبَرَيْنِ عِنْدَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ رَأْيٌ وَاسْتَوَى الْحَالَانِ عِنْدَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ ذَلِكَ وَشُرْبِهِ وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ مِنْهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَمَّا الْمَصِيرُ إلَى غَالِبِ الرَّأْيِ فَلِلْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ لَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَغَالِبُ الرَّأْيِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِلْعَمَلِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَلَأَنْ يَصْلُحَ لِلتَّرْجِيحِ أَوْلَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ تَمَسَّكَ بِأَصْلِ الطَّهَارَةِ.
(فَإِنْ قِيلَ): لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْفِي الْحُرْمَةَ وَالْآخَرَ يُثْبِتُ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ (قُلْنَا): هَذَا فِي الشَّهَادَاتِ فَأَمَّا فِي الْأَخْبَارِ الْمُعَارَضَةُ تَتَحَقَّقُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ مَقْبُولٌ.
(فَإِنْ قِيلَ): لَا كَذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ إذَا زَكَّاهُ أَحَدُ الْمُزَكِّينَ وَجَرَّحَهُ الْآخَرُ كَانَ الْجَرْحُ أَوْلَى لِأَنَّ الْجَرْحَ مُثْبِتٌ وَالْآخَرَ نَافٍ.
(قُلْنَا): نَعَمْ، وَلَكِنْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ النَّافِي مُعْتَمِدًا لِدَلِيلٍ فِي خَبَرِهِ تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ النَّافِي مُعْتَمِدًا لِدَلِيلٍ يَتَرَجَّحُ الْمُثْبِتُ فَهُنَا النَّافِي مُعْتَمِدٌ لِدَلِيلٍ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَاءِ وَنَجَاسَتَهُ تُعْلَمُ حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ حِلُّ الطَّعَامِ وَحُرْمَتُهُ فَلِهَذَا تَحَقَّقَتْ الْمُعَارَضَةُ وَاَلَّذِي زَكَّى الشَّاهِدَ لَا يُعْتَمَدُ دَلِيلًا فِي خَبَرِهِ لِأَنَّ نَفْيَ أَسْبَابِ الْجَرْحِ لَا يُعْلَمُ حَقِيقَةً فَلِهَذَا يُرَجَّحُ الْمُثْبِتُ هُنَاكَ عَلَى النَّافِي فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ حَلَالٌ مَمْلُوكَانِ ثِقَتَانِ وَاَلَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَاحِدٌ حُرٌّ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ لِأَنَّ فِي الْخَبَرِ الدِّينِيِّ الْمَمْلُوكَ وَالْحُرَّ سَوَاءٌ وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْمَثْنَى فِي الْخَبَرِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ مَا لَا يَحْصُلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ مَمْلُوكَانِ ثِقَتَانِ وَاَلَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ حَلَالٌ حُرٌّ وَاحِدٌ ثِقَةٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ مُعَارِضًا لِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْبَرَهُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَبْدٌ ثِقَةٌ وَبِالْآخِرِ حُرٌّ ثِقَةٌ يَعْمَلُ بِأَكْبَرِ رَأْيِهِ فِيهِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَتِمُّ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ بِخَبَرِ حُرٍّ وَاحِدٍ وَمِنْ حَيْثُ الدِّينِ خَبَرُ الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ سَوَاءٌ فَلِتَحَقُّقِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ يَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مَمْلُوكَانِ ثِقَتَانِ وَبِالْأَمْرِ الْآخَرِ حُرَّانِ ثِقَتَانِ أَخَذَ بِقَوْلِ الْحُرَّيْنِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ تَتِمُّ بِقَوْلِ الْحُرَّيْنِ وَلَا تَتِمُّ بِقَوْلِ الْمَمْلُوكَيْنِ فَعِنْدَ التَّعَارُضِ يَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْحُرَّيْنِ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِمَا زِيَادَةَ إلْزَامٍ فَإِنَّ الْإِلْزَامَ بِقَوْلِ الْمَمْلُوكَيْنِ يَنْبَنِي عَلَى الْإِلْزَامِ اعْتِقَادًا وَالْإِلْزَامُ فِي قَوْلِ الْحُرَّيْنِ لَا يَنْبَنِي عَلَى الْإِلْزَامِ اعْتِقَادًا حَتَّى كَانَ مُلْزَمًا فِيمَا لَا يَكُونُ الْمَرْءُ مُعْتَقِدًا لَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي خَبَرِهِمَا زِيَادَةَ إلْزَامٍ فَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ السَّبَبِ صَحِيحٌ قَالَ: أَلَا تَرَى «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَهِدَ عِنْدَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْجَدَّةَ أُمَّ الْأُمِّ السُّدُسَ فَقَالَ: ائْتِ مَعَك بِشَاهِدٍ آخَرَ فَجَاءَ بِمُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ فَشَهِدَ عَلَى مِثْلِ شَهَادَتِهِ فَأَعْطَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السُّدُسَ وَهَذَا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ» وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَهِدَ عِنْدَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤَذَّنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ ائْتِ مَعَك بِشَاهِدٍ آخَرَ فَشَهِدَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِثْلِ شَهَادَتِهِ» قَالَ مُحَمَّدٌ: فَهَذَا إنَّمَا فَعَلَاهُ لِلِاحْتِيَاطِ وَالْوَاحِدُ يُجْزِي وَكَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ يَقُولُ: بَلْ إنَّمَا طَلَبْنَا شَاهِدًا آخَرَ عَلَى طَرِيقِ الشَّرْطِ لِأَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ تَحْصُلُ بِقَوْلِ الْمَثْنَى دُونَ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ضَرُورَةٌ فِي الِاكْتِفَاءِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ تَحَقَّقَ مَعْنَى الضَّرُورَةِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْأَصَحُّ مَا أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمَا طَلَبَا ذَلِكَ لِلِاحْتِيَاطِ وَكَانَا يَقْبَلَانِ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَاهِدٌ آخَرُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبِلَ شَهَادَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِينَ شَهِدَ عِنْدَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ وَلَمْ يَطْلُبْ شَاهِدًا آخَرَ وَأَجَازَ قَوْلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الطَّاعُونِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الشَّامَ وَبِهَا الطَّاعُونُ فَاسْتَشَارَهُمْ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ بِالدُّخُولِ فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إذَا وَقَعَ هَذَا الرِّجْزُ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ فِيهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فَأَخَذَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَرَجَعَ» وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُشْكَلِ الْآثَارِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَالٍ لَوْ دَخَلَ فَابْتُلِيَ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ اُبْتُلِيَ بِدُخُولِهِ وَلَوْ خَرَجَ فَنُجِّيَ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ نُجِّيَ بِخُرُوجِهِ فَلَا يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ صِيَانَةً لِاعْتِقَادِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ وَأَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَدْخُلَ وَيَخْرُجَ.
وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَنَّهُ كَانَ لَا يُوَرِّثُ الْمَرْأَةَ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا حَتَّى شَهِدَ عِنْدَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ وَرِّثْ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ» «وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ إلَى قَيْصَرَ بِكِتَابِهِ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِ» فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ كَانَ مُلْزَمًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا هُوَ الْيَوْمُ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنْت إذَا لَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ حَدِيثًا فَحَدَّثَنِي بِهِ غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا مَذْهَبٌ تَفَرَّدَ بِهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ وَيُحَلِّفُ الْمُدَّعِيَ مَعَ الْبَيِّنَةِ وَيُحَلِّفُ الرَّاوِيَ وَلَمْ يُتَّبَعْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَنَّ خَبَرَهُ يَصِيرُ مُزَكًّى بِيَمِينِهِ كَالشَّهَادَاتِ فِي بَابِ اللِّعَانِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى تَصِيرَ مُزَكَّاةً بِالْيَمِينِ وَمَنْ لَمْ يُعْصَمْ عَنْ الْكَذِبِ لَا يَكُونُ خَبَرُهُ حُجَّةً مَا لَمْ يَصِرْ مُزَكًّى بِيَمِينِهِ إلَّا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ تَسْمِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ الصِّدِّيقَ كَافٍ فِي جَعْلِ خَبَرِهِ مُزَكًّى وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاسْتِشْهَادِ شَاهِدَيْنِ وَبِطَلَبِ الْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ فَاشْتِرَاطُ الْيَمِينِ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَقَدْ وَقَعَتْ الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ حَلَّفَ أَحَدًا مِنْ الشُّهُودِ وَلَا حَلَّفَ الْمُدَّعِيَ مَعَ الْبَيِّنَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُمْ قَدْ تَرَكُوا نَقْلَهُ لِأَنَّ هَذَا لَا يُظَنُّ بِهِمْ خُصُوصًا فِيمَا تَعُمُّ الْبَلْوَى فَقَدْ نَقَلُوا كُلَّ مَا دَقَّ وَجَلَّ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
(قَالَ): وَبَلَغَنَا «أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَبُو طَلْحَةَ كَانُوا يَشْرَبُونَ شَرَابًا لَهُمْ مِنْ الْفَضِيخِ فَأَتَاهُمْ آتٍ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا: أَنَسُ قُمْ إلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا فَقُمْت إلَيْهَا فَكَسَرْتُهَا حَتَّى أَهْرَاقَ مَا فِيهَا» وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةً مَا وَسِعَهُمْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَتَأْوِيلُ كَسْرِ الْجِرَارِ أَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ تُشْرَبُ فِيهَا فَلَا تَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا بِوَجْهٍ آخَرَ وَكَانَ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ الِانْقِيَادِ وَتَحْقِيقِ الِانْزِجَارِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ وَشَقِّ الرَّوَايَا» وَذَكَرَ حَدِيثَ عِكْرِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ شَهَادَةَ أَعْرَابِيٍّ وَحْدَهُ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ رَآهُ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَصُومُوا بِشَهَادَتِهِ» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي الدِّينِ مَقْبُولَةٌ وَلَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ الْفِطْرِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ قَالَ: قُلْت لِمُحَمَّدٍ فَإِذَا قَبِلْت شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَأَمَرْت بِالصَّوْمِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ أَلَيْسَ أَنَّهُمْ يُفْطِرُونَ وَهَذَا فِطْرٌ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: لَا أَتَّهِمُ الْمُسْلِمَ بِتَبْدِيلِ يَوْمٍ مَكَانَ يَوْمٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا فَيُقَالُ: الْفِطْرُ غَيْرُ ثَابِتٍ بِشَهَادَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ تُفْضِي إلَيْهِ شَهَادَتُهُ كَمَا لَوْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ بِالنَّسَبِ يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ وَلَا يُسْتَحَقُّ الْمَالُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ.
فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُفْطِرُونَ وَإِنْ صَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا إذَا لَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ قَالَ الْحَاكِمُ: وَهِلَالُ الْأَضْحَى كَهِلَالِ الْفِطْرِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى هِلَالِ الْأَضْحَى كَالشَّهَادَةِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَمْرٍ دِينِيٍّ وَهُوَ ظُهُورُ وَقْتِ الْحَاجِّ وَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى.
فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: هَذَا فِي مَعْنَى هِلَالِ الْفِطْرِ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلنَّاسِ هُنَا مِنْ حَيْثُ التَّوَسُّعِ بِلُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ كَمَا فِي هِلَالِ الْفِطْرِ وَلَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ قَوْلُ مُسْلِمٍ وَلَا مُسْلِمَيْنِ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ لِلتُّهْمَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ فِي أَمْرِ الدِّينِ غَيْرُ مُلْزِمٍ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ مَقْبُولٌ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ قِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ غَيْرَ عَدْلٍ أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِرِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَسْتُورِ وَقِيلَ: بَلْ مُرَادُهُ الْفَاسِقُ وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التُّهْمَةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْ خَبَرِهِ هَذَا لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْ الصَّوْمِ مَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ فَأَمَّا عَبْدٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَوْ أَمَةٌ مُسْلِمَةٌ أَوْ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ حُرَّةٌ فَشَهَادَتُهُمْ فِي ذَلِكَ جَائِزَةٌ لِأَنَّ فِي الْخَبَرِ الدِّينِيِّ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ وَالْأَحْرَارَ وَالْمَمَالِيكَ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَبَرٌ لَا شَهَادَةٌ حَتَّى لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَذُكِرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ قَدْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ فَشَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ أَيْضًا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِكَذِبِهِ وَإِذَا كَانَتْ شَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ بِالْكَذِبِ لَا تُقْبَلُ هُنَا فَالْمَحْكُومُ بِالْكَذِبِ أَوْلَى وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ خَبَرَ الْمَحْدُودِ فِي أَمْرِ الدِّينِ مَقْبُولٌ.
أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ بَعْدَمَا أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ كَانَتْ تُعْتَمَدُ رِوَايَتُهُ وَهَذَا لِأَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ لِحَقِّ الْمَقْذُوفِ وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْهُ بِإِهْدَارِ قَوْلِهِ وَذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ وَيَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى فِي أُمُورِ الدِّينِ فَكَانَ الْمَحْدُودُ فِيهِ كَغَيْرِهِ يَقُولُ فَإِذَا كَانَ الَّذِي شَهِدَ بِذَلِكَ فِي الْمِصْرِ وَلَا عِلَّةَ فِي السَّمَاءِ مِنْ ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ أَقَاوِيلَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْفَصْلِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِيهِ عَدَدَ الْخَمْسِينَ عَلَى قِيَاسِ الْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ وَفِيمَا ذُكِرَ هُنَاكَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَيْضًا أَوْ جَاءَ مِنْ مَكَان آخَرَ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ لِأَنَّهُ يَتَّفِقُ مِنْ الرُّؤْيَةِ فِي الصَّحَارِي مَا لَا يَتَّفِقُ فِي الْأَمْصَارِ لِمَا فِيهَا مِنْ كَثْرَةِ الْغُبَارِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ فَقَدْ يَتَّفِقُ لَهُ مِنْ الرُّؤْيَةِ مَا لَا يَتَّفِقُ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَوْقِفِ رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَاءَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَوْ امْرَأَةٌ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمَا ارْتَضِعَا مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَحَبُّ إلَيَّ التَّنَزُّهُ عَنْهَا فَيُطَلِّقُهَا وَيُعْطِيهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَالْآخَرُ فِي التَّنَزُّهِ أَمَّا فِي الْحُكْمِ فَالْحُرْمَةُ لَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الرَّضَاعِ عِنْدَنَا مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَزَعَمَ أَنَّ الرَّضَاعَ لَا يَحِلُّ مُطَالَعَتُهُ لِلْأَجَانِبِ مِنْ الرِّجَالِ وَلَكِنْ نَقُولُ الْإِرْضَاعُ يَكُونُ بِالثَّدْيِ وَذَلِكَ مِمَّا يَحِلُّ مُطَالَعَتُهُ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ بِالْإِيجَارِ وَذَلِكَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْأَجَانِبُ، وَمَالِكٌ كَانَ يَقُولُ: يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ بِالرَّضَاعِ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاسْتَدَلَّ فِيهِ بِحَدِيثِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ بْنِ عُقْبَةَ «أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا تَزَوَّجَ بِنْتَ إهَابٍ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَأَخْبَرَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا جَمِيعًا فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ هَذَا الْقَدْرُ» ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ حُجَّةُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يُقْبَلُ عَلَى الرَّضَاعِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ وَلِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ تَقُومُ لِإِبْطَالِ الْمِلْكِ وَلَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ فِيهِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى التَّنَزُّهِ بِقَوْلِهِ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ وَلَوْ ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِخَبَرِهَا لَمَا أَشَارَ إلَى التَّنَزُّهِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَالزِّيَادَةُ الَّتِي يَرْوِيهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَنَا وَالدَّلِيلُ عَلَى ضَعْفِهِ مَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «تَزَوَّجْت بِنْتَ أَبِي إهَابٍ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ تَسْتَطْعِمُنَا فَأَبَيْنَا أَنْ نُطْعِمَهَا فَجَاءَتْ مِنْ الْغَدِ تَشْهَدُ عَلَى الرَّضَاعِ» وَمِثْلُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ عَنْ ضِغْنٍ فَلَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِهَا فَأَمَّا بَيَانُ وَجْهِ التَّنَزُّهِ أَنَّ الْمُخْبِرَ إذَا كَانَ ثِقَةً فَاَلَّذِي يَقَعُ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ فَصُحْبَتُهَا تَرِيبُهُ وَمُفَارَقَتُهَا لَا تَرِيبُهُ وَلَوْ أَمْسَكَهَا رُبَّمَا يَطْعَنُ فِيهِ أَحَدٌ وَيَتَّهِمُهُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إيَّاكَ وَمَا يَسْبِقُ إلَى الْقُلُوبِ إنْكَارُهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَك اعْتِذَارُهُ فَلَيْسَ كُلُّ سَامِعٍ نُكْرًا تُطِيقُ أَنْ تُوسِعَهُ عُذْرًا» وَلَأَنْ يَدَعَ وَطْئًا حَلَالًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْدُمَ عَلَى وَطْءٍ حَرَامٍ وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِأَنَّهَا مَنْكُوحَتُهُ فِي الْحُكْمِ فَإِذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهِ فَتَبْقَى مُعَلَّقَةً ثُمَّ يُعْطِيهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ بَعْدَ الطَّلَاقِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا لِأَنَّهَا اسْتَوْجَبَتْ فِي الْحُكْمِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا بِنَظَرِهِ لِنَفْسِهِ وَالْمُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ لَا تَأْخُذَ شَيْئًا إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ صَادِقًا وَالنِّكَاحُ لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَأْخُذَ مِقْدَارَ مَهْرِ مِثْلِهَا بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَأْخُذَ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الْمُسَمَّى وَلَكِنْ تُبْرِيهِ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهَا فِي الْحُكْمِ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِسْقَاطِهَا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُنْدَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى مَا قُلْنَا كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ نِصْفَ الصَّدَاقِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ نَدَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ إلَى الْعَفْوِ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي الْجَارِيَةَ فَيُخْبِرُهُ عَدْلٌ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ فَإِنْ تَنَزَّهَ عَنْ وَطْئِهَا فَهُوَ أَفْضَلُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَسِعَهُ ذَلِكَ وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَأَثْبَتَ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَلَمْ يَثْبُتْ هُنَا لِأَنَّ حِلَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَثْبُتُ بِالْإِذْنِ بِدُونِ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ كُلْ طَعَامِي هَذَا أَوْ تَوَضَّأْ بِمَائِي هَذَا أَوْ اشْرَبْهُ وَسِعَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ بِمَا لَا يَبْطُلُ بِهِ الْمِلْكُ وَحِلُّ الْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ قَالَ طَأْ جَارِيَتِي هَذِهِ فَقَدْ أَذِنْت لَك فِيهِ أَوْ قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ حُرَّةٌ فِي نَفْسِهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْوَطْءُ فَكَذَلِكَ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ بِمَا لَا يَبْطُلُ بِهِ الْمِلْكُ وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْفَرْقِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ فِيمَا سِوَى الْبُضْعِ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ لِمَا كَانَ يَثْبُتُ بِدُونِ مِلْكِ الْحِلِّ وَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ فَكَانَ هَذَا خَبَرًا بِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِ مُلْزِمٌ فَأَمَّا فِي الْوَطْءِ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ يَثْبُتُ حُكْمًا لِلْمَلْكِ وَزَوَالُهُ لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ.
وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِي إبْطَالِ الْمِلْكِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَكَذَلِكَ فِي الْحِلِّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ وَالثَّانِي أَنَّ فِي الْوَطْءِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ يَلْزَمُهَا الِانْقِيَادُ لِلزَّوْجِ فِي الِاسْتِفْرَاشِ وَالْمَمْلُوكَةُ يَلْزَمُهَا الِانْقِيَادُ لِمَوْلَاهَا وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لِشَخْصٍ عَلَى شَخْصٍ فَأَمَّا حِلُّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَلَيْسَ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ حَقٍّ عَلَى أَحَدٍ يَبْطُلُ ذَلِكَ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَمْرٌ دِينِيٌّ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي مِثْلِهِ حُجَّةٌ مُسْلِمٌ اشْتَرَى لَحْمًا فَلَمَّا قَبَضَهُ أَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ لِأَنَّهُ أُخْبِرَ بِحُرْمَةِ الْعَيْنِ وَهُوَ أَمْرٌ دِينِيٌّ فَتَتِمُّ الْحُجَّةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِيهِ وَكَمَا لَا يَأْكُلُهُ لَا يُطْعِمُهُ غَيْرَهُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي نَظِيرِهِ: «أَتُطْعِمِينَ مَا لَا تَأْكُلِينَ» وَلَا يَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَكَمَا لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَفْسَخُهُ وَلَا يَسْتَحِلُّ مَنْعَ الْبَائِعِ ثَمَنَهُ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْجَبَهُ بِالْعَقْدِ قَبْلَهُ وَقَوْلُ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إسْقَاطِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لِلْعِبَادِ وَلِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ بَقِيَ مَمْلُوكًا لَهُ مُتَقَوِّمًا لِأَنَّ نَقْضَ الْمِلْكِ فِيهِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ ثَمَنِهِ (فَإِنْ قِيلَ) الْحِلُّ هُنَا إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمًا لِلْمَالِكِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَثْبُتَ الْحُرْمَةُ إلَّا بِمَا يَبْطُلُ بِهِ الْمِلْكُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْوَطْءِ (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ بَلْ ثُبُوتُ حِلِّ التَّنَاوُلِ بِالْإِذْنِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْبَيْعِ إذْنُ الْمُشْتَرِي فِي التَّنَاوُلِ مُسَلَّطًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ كَافٍ لِثُبُوتِ الْحِلِّ فِي هَذَا الْعَيْنِ فَمَا زَادَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حُكْمِ الْحِلِّ وَبِنَحْوِهِ عَلَّلَ فِي الْبُيُوعِ فِي تَنْفِيذِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ فَقَالَ لِأَنَّ الْبَائِعَ سَلَّطَهُ عَلَى ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا تَمَامُ الْبَيْعِ بِهَذَا اللَّفْظِ حَتَّى لَوْ قَالَ كُلْ هَذَا الطَّعَامَ بِدِرْهَمٍ لِي عَلَيْك فَأَكَلَهُ كَانَ هَذَا بَيْعًا وَكَانَ قَدْ أَكَلَهُ حَلَالًا بِخِلَافِ الْوَطْءِ فَإِنَّ الْحُرَّةَ لَوْ قَالَتْ طَأْنِي بِكَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا لَوْ فَعَلَهُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْجُمْلَةُ دُونَ الْأَحْوَالِ وَإِذَا كَانَ حِلُّ الطَّعَامِ فِي الْجُمْلَةِ يَثْبُتُ بِغَيْرِ مِلْكٍ فَكَذَلِكَ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَلَوْ لَمْ يَبِعْهُ هَذَا الرَّجُلُ وَلَكِنْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّنَاوُلِ فَأَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَنَّهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ تَنَاوُلُهُ فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَبْلَ الْبَيْعِ إنَّمَا لَا يَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْعَيْنِ تَثْبُتُ فِي حَقِّهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْبَيْعُ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إزَالَةِ حُرْمَةٍ ثَابِتَةٍ لِلْعَيْنِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ بَعْدَ الْإِذْنِ أَوْ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ تَنَاوُلُهُ فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهُ قَبْلَ الْإِذْنِ فَأَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِأَنَّهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ وَلَوْ اشْتَرَى طَعَامًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ مَلَكَ ذَلِكَ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ فَجَاءَ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ فَشَهِدَ أَنَّ هَذَا لِفُلَانٍ الْفُلَانِيِّ غَصَبَهُ مِنْهُ الْبَائِعُ أَوْ الْوَاهِبُ أَوْ الْمَيِّتُ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ وَوَطْءِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُمَكِّنُ رِيبَةً فِي قَلْبِهِ وَالتَّنَزُّهُ عَنْ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَتَنَزَّهْ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ هُنَا لَمْ يُخْبِرْ بِحُرْمَةِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ تَمَلَّكَ مِنْ جِهَتِهِ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا وَهُوَ مُكَذَّبٌ فِي هَذَا الْخَبَرِ شَرْعًا فَإِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ صَاحِبَ الْيَدِ مَالِكًا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَلِهَذَا لَوْ نَازَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَعَلَى هَذَا أَيْضًا لَوْ أَذِنَ لَهُ ذُو الْيَدِ فِي تَنَاوُلِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ فَأَخْبَرَهُ ثِقَةٌ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فِي يَدِهِ غَصْبٌ مِنْ فُلَانٍ وَذُو الْيَدِ يُكَذِّبُهُ وَهُوَ مُتَّهَمٌ غَيْرُ ثِقَةٍ فَإِنْ تَنَزَّهَ عَنْ تَنَاوُلِهِ كَانَ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَتَنَزَّهْ كَانَ فِي سَعَةٍ وَفِي الْمَاءِ إذَا لَمْ يَجِدْ وَضُوءًا غَيْرَهُ تَوَضَّأَ بِهِ وَلَمْ يَتَيَمَّمْ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ ذِي الْيَدِ فِيمَا فِي يَدِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمُخْبِرُ إنَّمَا أَخْبَرَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فِي الْمَحَلِّ وَخَبَرُهُ فِي هَذَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَهُنَاكَ أَخْبَرَ بِحُرْمَةٍ ثَابِتَةٍ فِي الْمَحَلِّ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِيهِ حُجَّةٌ.
(فَإِنْ قِيلَ) الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْمَحَلِّ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ لِلْفِعْلِ الصَّادِرِ مِنْ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ التَّنَاوُلُ وَقَدْ أَخْبَرَهُ بِحُرْمَةِ التَّنَاوُلِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا (قُلْنَا) هَذَا شَيْءٌ تَوَهَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ غَلَطٌ عَظِيمٌ فَإِنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْحُرْمَةَ صِفَةً لِلْفِعْلِ حَقِيقَةً ثُمَّ تُوصَفُ الْعَيْنُ بِهِ مَجَازًا كَانَ مَشْرُوعًا فِي الْمَحَلِّ مِنْ وَجْهٍ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بَعْدَ ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْأُمَّهَاتِ وَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ بِالنَّصِّ وَلَكِنْ نَقُولُ الْحُرْمَةُ صِفَةُ الْعَيْنِ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ خَرَجَ شَرْعًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ الْحَلَالِ وَكَذَلِكَ حَقِيقَةً مُوجِبُهُ النَّفْيُ وَالنَّسْخُ ثُمَّ يَنْتَفِي الْفِعْلُ بِاعْتِبَارِ انْعِدَامِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْمَحَلِّ كَالْقَتْلِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَيِّتِ وَكَانَ هَذَا إقَامَةَ الْعَيْنِ مَقَامَ الْفِعْلِ فِي أَنَّ صِفَةَ الْحُرْمَةِ تَثْبُتُ لَهُ حَقِيقَةً وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي مَالِ الْغَيْرِ نَهَى عَنْ الْأَكْلِ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} إلَى قَوْلِهِ {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ} فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْأَكْلُ وَفِي الْمَيْتَةِ قَالَ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} فَقَدْ جَعَلَ الْحُرْمَةَ صِفَةً لِلْعَيْنِ وَكَذَلِكَ قَالَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وَبِمَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ يَحْسُنُ الْفِقْهُ وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْأَحْكَامُ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ عَلَيَّ كَمَتَاعِ فُلَانٍ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا قُلْنَا: الْحُرْمَةُ الثَّابِتَةُ صِفَةً لِلْعَيْنِ مَحْضُ حَقِّ الشَّرْعِ فَتَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِذْنِ الشَّرْعِ وَحُرْمَةُ التَّنَاوُلِ فِي طَعَامِ الْغَيْرِ ثَابِتَةٌ لِحَقِّ الْغَيْرِ وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِإِذْنِهِ وَحَقُّ الْغَيْرِ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ أَيْضًا وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مُسْلِمًا شَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ الَّتِي هِيَ فِي يَدِ فُلَانٍ وَهِيَ مُقِرَّةٌ لَهُ بِالرِّقِّ أَمَةٌ لِفُلَانٍ غَصَبَهَا وَاَلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ يَجْحَدُ ذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى مَا ذَكَرَ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَشْتَرِيَهَا وَإِنْ اشْتَرَاهَا وَوَطِئَهَا فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ مُكَذَّبٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ شَرْعًا وَالْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ فَيَشْتَرِيَهَا وَإِنْ احْتَاطَ فَلَمْ يَشْتَرِهَا كَانَ أَوْلَى لَهُ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِغَيْرِهَا وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ فِي مِثْلِهِ: كُنَّا نَدَعُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الْحَرَامِ وَلَوْ أَخْبَرَهُ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَصْلِ أَوْ أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً لِهَذَا الَّذِي فِي يَدِهِ فَأَعْتَقَهَا وَهُوَ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُخْبِرَ مُكَذَّبٌ شَرْعًا وَإِنَّ تَصَادُقَهُمَا عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِذِي الْيَدِ حُجَّةٌ شَرْعًا فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَعْتَمِدَ الْحُجَّةَ الشَّرْعِيَّةَ وَالتَّنَزُّهُ أَفْضَلُ لَهُ.
(فَإِنْ قِيلَ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَخْبَرَ بِحُرْمَةِ الْمَحَلِّ حِينَ زَعَمَ أَنَّهَا مُعْتَقَةٌ أَوْ حُرَّةٌ فَلَوْ جَعَلْت هَذَا نَظِيرَ مَا سَبَقَ (قُلْنَا): لَا كَذَلِكَ فَحُرْمَةُ الْمَحَلِّ هُنَا لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَمَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَا حُرْمَةَ فِي الْمَحَلِّ وَفِي الْكِتَابِ قَالَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ الَّذِي يُشْهَدُ فِيهِ بِالرَّضَاعِ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا قُلْنَا أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمِلْكٍ وَالْمِلْكُ الْمَحْكُومُ بِهِ شَرْعًا لَا يَبْطُلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَذَلِكَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ الْحِلِّ وَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ لِرَجُلٍ فَأَخَذَهَا رَجُلٌ آخَرُ وَأَرَادَ بَيْعَهَا لَمْ يَنْبَغِ لِمَنْ عَرَّفَهَا لِلْأَوَّلِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْ هَذَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ وَانْتَقَلَتْ إلَى مِلْكِ ذِي الْيَدِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ أَوْ يَعْلَمَ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهَا لِأَنَّ دَلِيلَ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ ظَهَرَ عِنْدَهُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلثَّانِي فِي حَقِّهِ إلَّا بِدَلِيلٍ يُوجِبُ النَّقْلَ إلَيْهِ وَالشِّرَاءُ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ لَا يَحِلُّ إلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَلَوْ عَلِمَ الْقَاضِي مَا عَلِمَهُ هُوَ كَانَ يَحِقُّ عَلَيْهِ تَقْرِيرُهُ عَلَى مِلْكِ الْأَوَّلِ حَتَّى يُثْبِتَ الثَّانِي سَبَبَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَهُ هَذَا الَّذِي يُرِيدُ شِرَاءَهُ فَإِنْ سَأَلَ ذَا الْيَدِ فَقَالَ: إنِّي قَدْ اشْتَرَيْتُهَا مِنْهُ أَوْ وَهَبَهَا لِي أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ أَوْ وَكَّلَنِي بِبَيْعِهَا فَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَدِّقَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَشْتَرِيَهَا مِنْهُ وَيَطَأَهَا لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُسْتَقِيمٍ صَالِحٍ فَيَكُونَ خَبَرُهُ مَحْمُولًا عَلَى الصِّدْقِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَالْمُعَارِضُ إنْكَارُ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُوجَدْ وَلَوْ كَلَّفْنَاهُ الرُّجُوعَ إلَى الْأَوَّلِ لِيَسْأَلَهُ كَانَ فِي ذَلِكَ نَوْعُ حَرَجٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا أَوْ مُخْتَفِيًا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهِ فِيهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فِي كُلِّ خَبَرٍ لِمَعْنَى الْحَرَجِ وَالضَّرُورَةِ لِأَنَّ الْخَبَرَ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ شَرْعًا مَعَ أَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ إذَا انْضَمَّ إلَى خَبَرِ الْفَاسِقِ تَأَيَّدَ بِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْأَخْبَارِ الدِّينِيَّةِ فَهَهُنَا أَوْلَى وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِيمَا لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَالْيَقِينِ وَلَوْ تَيَقَّنَ بِكَذِبِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ فِي ذَلِكَ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «ضَعْ يَدَك عَلَى صَدْرِك وَاسْتَفْتِ قَلْبَك فِيمَا حَاكَ فِي صَدْرِك فَهُوَ السَّالِمُ وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ بِهِ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِثْمُ حَزَّازُ الْقُلُوبِ» أَيْ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتْرُكَ مَا حَزَّ فِي قَلْبِهِ تَحَرُّزًا عَنْ الْإِثْمِ وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِغَيْرِ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ حَتَّى أَخْبَرَهُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ وَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمِلْكِ لِلْغَيْرِ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ شَرْعًا فَهَذَا فِي حَقِّ السَّامِعِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَلِمَ مِلْكَ الْغَيْرِ بِأَنْ عَايَنَهُ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ ثِقَةً صَدَّقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ سَبَبِ الْوِلَايَةِ لَهُ فِي بَيْعِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ صَدَّقَهُ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَمْ يَشْتَرِهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُخْبِرْهُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهِ مِنْهُ وَقَبُولِ هِبَتِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ لِأَنَّ دَلِيلَ الْمِلْكِ شَرْعًا ثَابِتٌ لَهُ وَهُوَ الْيَدُ وَالْفَاسِقُ وَالْعَدْلُ فِي هَذَا الدَّلِيلِ سَوَاءٌ حَتَّى إذَا نَازَعَهُ غَيْرُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَيَحِلُّ لِمَنْ رَآهُ فِي يَدِهِ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ وَالْمَصِيرُ إلَى أَكْبَرِ الرَّأْيِ عِنْدَ انْعِدَامِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ كَمَا لَا يُصَارُ إلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ وُجُودِ النَّصِّ.
(قَالَ) إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لَا يَتَمَلَّكُ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَيْنِ فَأُحِبُّ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ وَلَا يَتَعَرَّضَ لَهُ بِالشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ كَدُرَّةٌ يَرَاهَا فِي يَدِ فَقِيرٍ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا أَوْ رَأَى كِتَابًا فِي يَدِ جَاهِلٍ وَلَمْ يَكُنْ فِي آبَائِهٍ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ فَاَلَّذِي سَبَقَ إلَى قَلْبِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ سَارِقٌ لِذَلِكَ الْعَيْنِ فَكَانَ التَّنَزُّهُ عَنْ شِرَائِهِ مِنْهُ أَفْضَلَ وَإِنْ اشْتَرَى أَوْ قَبِلَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ رَجَوْت أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مَالِكٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ شَرْعًا فَالْمُشْتَرِي مِنْهُ يَعْتَمِدُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا وَذَلِكَ وَاسِعٌ لَهُ إلَّا أَنَّهُ مَعَ هَذَا لَمْ يَبُتَّ الْجَوَابَ وَعَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ لِمَا ظَهَرَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ وَلِمَا سَبَقَ إلَى وَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ مَالِكًا لِهَذِهِ الْعَيْنِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَاهُ بِهِ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ وَلَا يَقْبَلَهُ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ لِلْمِلْكِ وَهُوَ الرِّقُّ مَعْلُومٌ فِيهِ فَمَا لَمْ يُعْلَمْ دَلِيلًا مُطْلَقًا لِلتَّصَرُّفِ فِي حَقِّ مَنْ رَآهُ فِي يَدِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ الشِّرَاءُ مِنْهُ لِأَنَّهُ عَالِمٌ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ وَالْيَدُ فِي حَقِّ الْمَمْلُوكِ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ لِلتَّصَرُّفِ وَإِنَّ الرِّقَّ مَانِعٌ لَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ مَا لَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ فَإِنْ سَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ مَوْلَاهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ وَهُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهِ مِنْهُ وَقَبُولِهِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُسْتَقِيمٍ صَالِحٍ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ فَيُعْتَمَدُ خَبَرُهُ إذَا كَانَ ثِقَةً وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فَهُوَ عَلَى مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا قَالَ صَدَّقَهُ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يُعْرَضْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَا رَأْيَ لَهُ فِيمَا قَالَ لِأَنَّ الْحَاجِزَ لَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ ظَاهِرٌ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ مَعَهُ بِمُجَرَّدِ خَبَرِهِ مَا لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ الصِّدْقِ فِيهِ بِنَوْعِ دَلِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الْغُلَامُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا فِيمَا يُخْبِرُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ أَوْ أَنَّ فُلَانًا بَعَثَ مَعَهُ إلَيْهِ هَدِيَّةً أَوْ صَدَقَةً فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ وَسِعَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَهَذَا لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ فِي بَعْثِ الْهَدَايَا عَلَى أَيْدِي الْمَمَالِيكِ وَالصِّبْيَانِ وَفِي التَّوَرُّعِ عَنْهُ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ شَيْئًا لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِيمَا لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَالْيَقِينِ.
(قَالَ): وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الصَّبِيُّ إذَا أَتَى بَقَّالًا بِفُلُوسٍ يَشْتَرِي مِنْهُ شَيْئًا وَأَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّهُ أَمَرَتْهُ بِذَلِكَ فَإِنْ طَلَبَ الصَّابُونَ وَنَحْوَهُ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ مِنْهُ وَإِنْ طَلَبَ الزَّبِيبَ وَمَا يَأْكُلُهُ الصِّبْيَانُ عَادَةً فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَبِيعَهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يَقُولُ وَقَدْ عَثَرَ عَلَى فُلُوسِ أُمِّهِ فَيُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا حَاجَةَ نَفْسِهِ وَإِنْ قَالَ الصَّبِيُّ: هَذَا لِي وَقَدْ أَذِنَ لِي أَبَى فِي أَنْ أَهَبَهُ لَك أَوْ أَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْك لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ وِلَايَةُ الْإِذْنِ بِهَذَا التَّصَرُّفِ لِوَلَدِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَبِي بَعَثَهُ إلَيْك عَلَى يَدَيَّ صَدَقَةً أَوْ هِبَةً لِأَنَّ لِلْأَبِ هَذِهِ الْوِلَايَةَ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَكَانَ مَا أَخْبَرَهُ مُسْتَقِيمًا وَكَذَلِكَ الْفَقِيرُ إذَا أَتَاهُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ مَوْلَاهُ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا عَلِمَ أَنَّ جَارِيَةً لِرَجُلٍ يَدَّعِيهَا ثُمَّ رَآهَا فِي يَدِ رَجُلٍ آخَرَ يَبِيعُهَا وَيَزْعُمُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ وَذَلِكَ الرَّجُلُ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ وَكَانَتْ مُقِرَّةً لَهُ بِالْمِلْكِ غَيْرَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ وَذَلِكَ الرَّجُلُ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ وَكَانَتْ مُقِرَّةً لَهُ بِالْمِلْكِ غَيْرَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ لِي وَإِنَّمَا أَمَرَتْهُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ خُفْيَةً وَصَدَّقَتْهُ الْجَارِيَةُ بِذَلِكَ وَالرَّجُلُ ثِقَةٌ مُسْلِمٌ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُسْتَقِيمٍ مُحْتَمَلٍ وَلَوْ كَانَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مَعْلُومًا لِلسَّامِعِ كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا وَلَا يَقْبَلَهَا لِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْأَوَّلِ فَإِنَّ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ حِينَ كَانَتْ فِي يَدِهِ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لَهُ وَكَذَلِكَ سَمَاعُ هَذَا الرَّجُلِ مِنْهُ أَنَّهَا لَهُ دَلِيلٌ فِي حَقِّ إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ وَاَلَّذِي أَخْبَرَهُ الْمُخْبِرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ حِينَ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَالَ: ظَلَمَنِي وَغَصَبَنِي وَأَخَذْتهَا مِنْهُ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشِرَاءٍ وَلَا قَبُولٍ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ ثِقَةً أَوْ غَيْرَ ثِقَةٍ وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَخْبَرَ هُنَاكَ بِخَبَرٍ مُسْتَنْكَرٍ فَإِنَّ الظُّلْمَ وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْنَعُ كُلَّ أَحَدٍ عَنْهُ عَقْلُهُ وَدِينُهُ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ بِخَبَرِهِ غَصْبُ ذَلِكَ الرَّجُلِ بَقِيَ قَوْلُهُ أَخَذْتهَا مِنْهُ وَهَذَا أَخْذٌ بِطَرِيقِ الْعُدْوَانِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ عَايَنَ ذَلِكَ مِنْهُ أَمَرَهُ بِرَدِّهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ مَا يَدَّعِيهِ وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ يَدِهِ بَقِيَ دَعْوَاهُ الْمِلْكَ فِيمَا لَيْسَ فِي يَدِهِ وَذَلِكَ لَا يُطْلَقُ الشِّرَاءُ مِنْهُ وَفِي الْأَوَّلِ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُسْتَقِيمٍ كَمَا قَرَرْنَا فَإِنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّلْجِئَةِ عِنْدَ الْخَوْفِ وَالثَّانِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ حُجَّةٌ وَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِلْزَامِ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَخْبَرَ عَنْ حَالِ مُنَازَعَةٍ بَيْنَهُمَا فِي غَصْبِ الْأَوَّلِ مِنْهُ وَاسْتِرْدَادِ هَذَا فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُ حُجَّةً وَفِي الْأَوَّلِ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ مُسَالَمَةٍ وَمُوَاضَعَةٍ كَانَ بَيْنَهُمَا فَيُعْتَمَدُ خَبَرُهُ إنْ كَانَ ثِقَةً وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ كَانَ ظَلَمَنِي وَغَصَبَنِي ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ظُلْمِهِ فَأَقَرَّ لِي بِهَا وَدَفَعَهَا إلَيَّ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ ثِقَةٌ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهَا وَقَبُولِهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ مُسَالَمَةٍ وَهُوَ إقْرَارُهُ لَهُ بِهَا وَدَفَعَهَا إلَيْهِ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ عَايَنَ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ قَضَى بِالْمِلْكِ لَهُ فَيَجُوزُ لِلسَّامِعِ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهُ إنْ كَانَ ثِقَةً وَفِي الْأَوَّلِ لَوْ عَايَنَ الْقَاضِي أَخْذَهَا مِنْهُ قَهْرًا أَوْ أَمَرَهُ بِالرَّدِّ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ كَانَ غَصَبَنِي وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: خَاصَمْتُهُ إلَى الْقَاضِي فَقَضَى لِي بِهَا بِبَيِّنَةٍ أَقَمْتُهَا عَلَيْهِ أَوْ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ إثْبَاتُهُ مِلْكَ نَفْسِهِ بِالْحُجَّةِ ثُمَّ الْأَخْذُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الْأَخْذِ بِتَسْلِيمِ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ إلَيْهِ بَعْدَ إقْرَارِهِ لَهُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِي هَذَا كَالْيَقِينِ.
وَإِنْ قَالَ: قَضَى لِي بِهَا الْقَاضِي وَأَخَذَهَا مِنْهُ فَدَفَعَهَا إلَيَّ أَوْ قَالَ: قَضَى لِي بِهَا وَأَخَذْتُهَا مِنْ مَنْزِلِهِ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهَذَا وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ أَخْذَهُ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ دَفَعَهَا إلَيْهِ وَهَذَا خَبَرٌ مُسْتَقِيمٌ صَالِحٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَالَةِ الْمُسَالَمَةِ مَعْنًى لِأَنَّ كُلَّ ذِي دِينٍ يَكُونُ مُسْتَسْلِمًا لِقَضَاءِ الْقَاضِي وَإِنْ قَالَ: قَضَى لِي بِهَا فَجَحَدَنِي قَضَاهُ فَأَخَذْتهَا مِنْهُ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَحَدَ الْقَضَاءَ فَقَدْ جَاءَتْ الْمُنَازَعَةُ فَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِالْأَخْذِ فِي حَالَةِ الْمُنَازَعَةِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي هَذَا لَا يَكُونُ حُجَّةً لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِلْزَامِ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ سَبَبٌ مُطْلَقٌ لِلْأَخْذِ لَهُ كَالشِّرَاءِ وَلَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتهَا وَنَقَدْته الثَّمَنَ ثُمَّ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ فَأَخَذْتهَا مِنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: جَحَدَنِي الْقَضَاءَ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْجَاحِدِ فَيَكُونُ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ عِنْدَ جُحُودِ الْآخَرِ كَالْمَعْدُومِ مَا لَمْ يُثْبِتْهُ بِالْبَيِّنَةِ يَبْقَى قَوْلُهُ أَخَذْتهَا مِنْهُ وَلَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُهَا مِنْ فُلَانٍ وَقَبَضْتُهَا بِأَمْرِهِ وَنَقَدْتُهُ الثَّمَنَ وَكَانَ ثِقَةً عِنْدَهُ مَأْمُونًا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ آخَرُ: إنَّ فُلَانًا جَحَدَ هَذَا الشِّرَاءَ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَبِعْ مِنْهُ شَيْئًا وَاَلَّذِي قَالَ هَذَا أَيْضًا ثِقَةٌ مَأْمُونٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِشِرَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ أَخْبَرَ أَنَّهُ جَحَدَ الشِّرَاءَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُ غَيْرُهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ تَحَقَّقَتْ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ فِي الْأَمْرِ بِالْقَبْضِ وَعَدَمِ الْأَمْرِ وَالْجُحُودِ وَالْإِقْرَارِ فَالْأَصْلُ فِيهِ الْجُحُودُ.
وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ الثَّانِي غَيْرَ ثِقَةٍ إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ يَتَأَيَّدُ بِأَكْبَرِ رَأْيِ السَّامِعِ وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ أَنَّهُ كَاذِبٌ وَهُوَ غَيْرُ ثِقَةٍ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهَا مِنْهُ لِأَنَّ خَبَرَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِ السَّامِعِ بِخِلَافِهِ فَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ خَبَرَ الْعَدْلِ كَانَ مَقْبُولًا لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ لَا بِطَرِيقِ الْيَقِينِ فَإِنَّ الْعَدْلَ غَيْرُ مَعْصُومٍ مِنْ الْكَذِبِ فَإِذَا وُجِدَ مِثْلُهُ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ كَانَ خَبَرُهُ كَخَبَرِ الْعَدْلِ وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الثَّانِيَ صَادِقٌ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الثَّانِي ثِقَةً وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَعَلَيْهِ أُمُورُ النَّاسِ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ كُلَّ ذِي دِينٍ مُعْتَقِدٌ لِمَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَتَتِمُّ الْحُجَّةُ بِخَبَرِ الثِّقَةِ لِوُجُودِ الِالْتِزَامِ مِنْ السَّامِعِ اعْتِقَادًا وَالتَّعَامُلُ الظَّاهِرُ بَيْنَ النَّاسِ اعْتِمَادُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَلَوْ لَمْ يُعْمَلْ فِي مِثْلِ هَذِهِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ يُعْتَمَدُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ كَمَا جَعَلَ الشَّرْعُ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حُجَّةً تَامَّةً لِدَفْعِ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ.
(قَالَ): أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ تَاجِرًا قَدِمَ بَلَدًا بِجَوَارٍ وَطَعَامٍ وَثِيَابٍ فَقَالَ: أَنَا مُضَارِبُ فُلَانٍ أَوْ أَنَا مُفَاوِضُهُ وَسِعَ النَّاسَ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَقْدَمُ بَلَدًا بِتِجَارَةٍ وَيَدَّعِي أَنَّ مَوْلَاهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنَّ النَّاسَ يَعْتَمِدُونَ خَبَرَهُ وَيُعَامِلُونَهُ وَلَوْ لَمْ يُطْلِقْ لَهُمْ ذَلِكَ كَانَ فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ أَنَّ عَامِلًا لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْدَى إلَيْهِ جَارِيَةً فَسَأَلَهَا أَفَارِغَةٌ أَنْتِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ لَهَا زَوْجًا فَكَتَبَ إلَى عَامِلِهِ أَنَّك بَعَثْت بِهَا إلَيَّ مَشْغُولَةً قَالَ: أَفَتَرَى أَنَّهُ كَانَ مَعَ الرَّسُولِ شَاهِدَانِ أَنَّ عَامِلَك أَهْدَى هَذِهِ إلَيْك وَقَدْ سَأَلَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا فَلَمَّا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ لَهَا زَوْجًا صَدَّقَهَا وَكَفَّ عَنْهَا وَلَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهَا لَوْ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا فَارِغَةٌ لَمْ يَرَ بَأْسًا بِوَطْئِهَا.
(قَالَ): وَأَكْبَرُ الرَّأْيِ وَالظَّنِّ مُجَوِّزٌ لِلْعَمَلِ فِيمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا كَالْفُرُوجِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ فَإِنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَرَهَا فَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ إنْسَانٌ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَسِعَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهُ إذَا كَانَ ثِقَةً أَوْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَيَغْشَاهَا وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِهِ لَيْلًا وَهُوَ شَاهِرٌ سَيْفَهُ أَوْ مَادٌّ رُمْحَهُ يَشْتَدُّ نَحْوُهُ وَلَا يَدْرِي صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنَّهُ لِصٌّ أَوْ هَارِبٌ مِنْ اللُّصُوصِ فَإِنَّهُ يُحَكِّمُ رَأْيَهُ فَإِنْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لِصٌّ قَصَدَهُ لِيَأْخُذَ مَالَهُ وَيَقْتُلَهُ إنْ مَنَعَهُ وَخَافَهُ إنْ زَجَرَهُ أَوْ صَاحَ بِهِ أَنْ يُبَادِرَهُ بِالضَّرْبِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشُدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْبَيْتِ بِالسَّيْفِ فَيَقْتُلَهُ وَإِنْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ اللُّصُوصِ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ عَلَيْهِ وَلَا يَقْتُلَهُ وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِإِيضَاحِ مَا تَقَدَّرَ أَنَّ أَهَمَّ الْأُمُورِ الدِّمَاءُ وَالْفَرْجُ فَإِنَّ الْغَلَطَ إذَا وَقَعَ فِيهِمَا لَا يُمْكِنُ التَّدَارُكُ ثُمَّ جَازَ الْعَمَلُ فِيهِمَا بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ أَوْلَى وَإِنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَكْبَرِ الرَّأْيِ فِي حَقِّ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِأَنْ يُحَكِّمَ رَأْيَهُ وَهَيْئَتَهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْجُلُوسِ مَعَ أَهْلِ الْخَيْرِ فَيَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ اللُّصُوصِ وَإِنْ عَرَفَهُ بِالْجُلُوسِ مَعَ السُّرَّاقِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَارِقٌ وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: إنَّ فُلَانًا أَمَرَنِي بِبَيْعِ جَارِيَتِهِ الَّتِي هِيَ فِي مَنْزِلِهِ وَدَفَعَهَا إلَى مُشْتَرِيهَا فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهَا مِنْهُ وَقَبَضَهَا مِنْ مَنْزِلِ مَوْلَاهَا بِأَمْرِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَوْ إذَا أَوْفَاهُ ثَمَنَهَا وَكَانَ الْبَائِعُ ثِقَةً أَوْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ لَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ جَازَ شِرَاؤُهَا مِنْهُ لَا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ بَلْ بِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ فَإِنَّ هَذَا خَبَرٌ مُسْتَقِيمٌ صَالِحٌ وَهَذَا مَوْجُودٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِهِ وَبَعْدَ صِحَّةِ الشِّرَاءِ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا إذَا أَوْفَى الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى إذْنِ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ حَتَّى يَسْتَأْمِرَ مَوْلَاهَا فِي أَمْرِهَا لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ فِي حَقِّهِ فَإِنْ ظَهَرَ كَذِبُهُ قَبْلَ الشِّرَاءِ فَهُوَ مَانِعٌ لَهُ مِنْ الشِّرَاءِ وَإِنْ ظَهَرَ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَهُوَ مَانِعٌ لَهُ مِنْ الْقَبْضِ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ مَا يَمْنَعُ الْعَقْدَ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ يَمْنَعُ الْقَبْضَ بِحُكْمِهِ أَيْضًا كَالتَّخَمُّرِ فِي الْعَصِيرِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَهَا وَوَطِئَهَا ثُمَّ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ الْبَائِعَ كَذَبَ فِيمَا قَالَ وَكَانَ عَلَيْهِ أَكْبَرُ ظَنِّهِ فَإِنَّهُ يَعْتَزِلُ وَطْأَهَا حَتَّى يَتَعَرَّفَ خَبَرَهَا لِأَنَّ كُلَّ وَطْأَةٍ فِعْلٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ الْوَاطِئِ وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ هَذَا قَبْلَ الْوَطْأَةِ الْأُولَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَهَا وَهَكَذَا أَمْرُ النَّاسِ مَا لَمْ يَجِئْ التَّجَاحُدُ مِنْ الَّذِي كَانَ يَمْلِكُ الْجَارِيَةَ فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَقْرَبْهَا وَرَدَّهَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ فِيهَا ثَابِتٌ بِتَصَادُقِهِمْ وَتَوْكِيلُهُ لَمْ يَثْبُتْ بِقَوْلِ الْبَائِعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهَا وَيَتْبَعُ الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ جُحُودِ التَّوْكِيلِ وَيَنْبَغِي لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ الْعُقْرَ إلَى مَوْلَى الْجَارِيَةِ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ فَيَلْزَمُهُ الْعُقْرُ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي حِينَ اشْتَرَاهَا شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَا عَدْلٍ أَنَّ مَوْلَاهَا قَدْ أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا ثُمَّ حَضَرَ مَوْلَاهَا فَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا فَالْمُشْتَرِي فِي سَعَةٍ مِنْ إمْسَاكِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا حَتَّى يُخَاصِمَهُ إلَى الْقَاضِي لِأَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ حُجَّةٌ حُكْمِيَّةٌ وَلَوْ شَهِدَا عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يَلْتَفِتْ الْقَاضِي إلَى جُحُودِ الْمَالِكِ وَقَضَى بِالْوَكَالَةِ وَبِصِحَّةِ الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا عِنْدَهُ فَإِذَا خَاصَمَ إلَى الْقَاضِي فَقَضَى لَهُ بِهَا لَمْ يَسَعْهُ إمْسَاكُهَا بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي أَنْفَذُ مِنْ الشَّهَادَةِ الَّتِي لَمْ يُقْضَ بِهَا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَكُنْ مُلْزِمَةً بِدُونِ الْقَضَاءِ وَقَضَاءُ الْقَاضِي يُلْزِمُهُ بِنَفْسِهِ وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى غَابَ عَنْهَا فَأَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ أَنَّهَا قَدْ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْمُخْبِرُ ثِقَةٌ عِنْدَهُ وَهُوَ حُرٌّ أَوْ مَمْلُوكٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ وَسِعَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهَا لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَهُوَ حِلُّ نِكَاحِ الْأَرْبَعِ لَهُ وَهَذَا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَكَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ لِأَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ يَتَأَكَّدُ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ وَلِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ شَيْئًا وَالْمُعْتَبَرُ فِي مِثْلِهِ التَّمْيِيزُ دُونَ الْعَدَالَةِ وَإِنَّمَا اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فِي خَبَرٍ مُلْزِمٍ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَتَزَوَّجْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ لِأَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ بِمُعَارَضَةِ أَكْبَرِ الرَّأْيِ بِخِلَافِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُخْبِرُ أَخْبَرَ الْمَرْأَةَ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ ارْتَدَّ فَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ يَقُولُ: لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهَا بِذَلِكَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ قَالَ: لِأَنَّ رِدَّةَ الزَّوْجِ أَغْلَظُ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهَا اسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ بِخِلَافِ رِدَّةِ الْمَرْأَةِ وَمَا ذُكِرَ هُنَا أَصَحُّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ لَا إثْبَاتَ مُوجِبِ الرِّدَّةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَالْقَتْلُ بِمِثْلِهِ لَا يَثْبُتُ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَأَخْبَرَ أَنَّهَا قَدْ رَضَعَتْ مِنْ أُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ لَوْ أَخْبَرَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ مُرْتَدَّةٌ أَوْ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَالْمُخْبِرُ ثِقَةٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهَا مَا لَمْ يَشْهَدْ بِذَلِكَ عِنْدَهُ شَاهِدَا عَدْلٍ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِفَسَادِ عَقْدٍ حَكَمْنَا بِصِحَّتِهِ وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَفِي الْأَوَّلِ مَا أَخْبَرَ بِفَسَادِ أَصْلِ النِّكَاحِ بَلْ أَخْبَرَ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ يُوَضِّحُهُ أَنَّ إخْبَارَهُ بِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ فَاسِدًا مُسْتَنْكَرٌ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُبَاشِرُ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ عَادَةً فَأَمَّا إخْبَارُهُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِسَبَبٍ عَارِضٍ غَيْرِ مُسْتَنْكَرٍ وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَا عَدْلٍ بِذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي حَكَمَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِهِ عِنْدَ الزَّوْجِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ امْرَأَةً غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَأَخْبَرَهَا مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ مَاتَ عَنْهَا أَوْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فَأَتَاهَا بِكِتَابٍ مِنْ زَوْجِهَا بِالطَّلَاقِ وَلَا تَدْرِي أَنَّهُ كِتَابُهُ أَمْ لَا إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهَا أَنَّهُ حَقٌّ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَعْتَدَّ وَتَتَزَوَّجَ وَلَوْ أَتَاهَا فَأَخْبَرَهَا أَنَّ أَصْلَ نِكَاحِهَا كَانَ فَاسِدًا وَأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ أَخَاهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ مُرْتَدًّا لَمْ يَسَعْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً لِأَنَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَخْبَرَهَا بِخَبَرٍ مُسْتَنْكَرٍ وَقَدْ أَلْزَمَهَا الْحُكْمَ بِخِلَافِهِ وَفِي الْأَوَّلِ أَخْبَرَهَا بِخَبَرٍ مُحْتَمَلٍ وَهُوَ أَمْرٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا فَلَهَا أَنْ تَعْتَمِدَ ذَلِكَ الْخَبَرَ وَتَتَزَوَّجَ وَهِيَ نَظِيرُ امْرَأَةٍ قَالَتْ لِرَجُلٍ قَدْ طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا وَانْقَضَتْ عِدَّتِي وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِقَوْلِهَا وَكَذَلِكَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجْت بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِي ثُمَّ طَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا بَأْسَ عَلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا كَانَتْ عِنْدَهُ ثِقَةً أَوْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِحِلِّهَا لَهُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ: حَلَلْت لَك لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَا لَمْ يَسْتَفْسِرْهَا لِاخْتِلَافٍ بَيْنَ النَّاسِ فِي حِلِّهَا لَهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ مُطْلَقَ خَبَرِهَا بِالْحِلِّ حَتَّى تُفَسِّرَهُ وَلَوْ أَنَّ جَارِيَةً صَغِيرَةً لَا تُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ فَلَمَّا كَبِرَتْ لَقِيَهَا رَجُلٌ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ فَقَالَتْ: أَنَا حُرَّةُ الْأَصْلِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِذِي الْيَدِ فَإِنَّ الْيَدَ فِيمَنْ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ دَلِيلُ الْمِلْكِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ فَإِخْبَارُهَا بِخِلَافِ الْمَعْلُومِ لَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُ وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَنْكَرٌ وَإِنْ قَالَتْ: كُنْت أَمَةً لَهُ فَأَعْتَقَنِي وَكَانَتْ عِنْدَهُ ثِقَةً أَوْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ لَمْ أَرَ بَأْسًا بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِحِلِّهَا لَهُ بِسَبَبٍ مُحْتَمَلٍ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ خِلَافَهُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهَا وَكَذَلِكَ الْحُرَّةُ نَفْسُهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ رَجُلًا ثُمَّ أَتَتْ غَيْرَهُ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ نِكَاحَهَا الْأَوَّلَ كَانَ فَاسِدًا وَأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَنْبَغِ لِهَذَا أَنْ يُصَدِّقَهَا وَلَا يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِخَبَرٍ مُسْتَنْكَرٍ يَعْلَمُ هُوَ خِلَافَ ذَلِكَ وَإِنْ قَالَتْ: إنَّهُ طَلَّقَنِي بَعْدَ النِّكَاحِ أَوْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَسِعَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهَا وَيَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِحِلِّهَا لَهُ بِسَبَبٍ مُحْتَمَلٍ فَمَتَى أَقَرَّتْ بَعْدَ النِّكَاحِ أَنَّهُ كَانَ مُرْتَدًّا حِينَ تَزَوَّجَنِي أَوْ أَنِّي كُنْت أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَا يَعْتَمِدُ خَبَرَهَا لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَعْلُومِ وَإِذَا أَخْبَرَتْ بِالْحُرْمَةِ بِسَبَبٍ عَارِضٍ بَعْدَ النِّكَاحِ مِنْ رَضَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَثَبَتَتْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ ثِقَةً مَأْمُونَةً أَوْ غَيْرَ ثِقَةٍ إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَفِيهِ شُبْهَةٌ فَإِنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ لِلْغَيْرِ فِيهَا لَا يَبْطُلُ بِخَبَرِهَا وَقِيَامُ الْمِلْكِ لِلْغَيْرِ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا وَلَكِنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ لِلْغَيْرِ فِي الْحَالِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ بَلْ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَمَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَقْوَى مِنْ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَأَمَّا صِحَّةُ النِّكَاحِ فِي الِابْتِدَاءِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لَهُ وَهُوَ الْعَقْدُ الَّذِي عَايَنَهُ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ أَنَّهَا أَتَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِهَدِيَّةٍ إلَيْهَا فَأَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهَا فَكَرِهَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ تَأْكُلَهُ حَتَّى تَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ» فَقَدْ صَدَّقَ بَرِيرَةُ بِقَوْلِهَا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْعَيْنَ كَانَ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهَا وَصَدَّقَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِقَوْلِهَا أَيْضًا حِينَ تَنَاوَلَ مِنْهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.