فصل: بَابُ خُصُومَةِ الْمُفَاوِضَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ خُصُومَةِ الْمُفَاوِضَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا:

قَالَ: (وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ شَارَكَهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ، وَجَحَدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمَالُ فِي يَدِ الْجَاحِدِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَاحِدِ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ)؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْعَقْدَ، وَاسْتِحْقَاقَ نِصْفِ مَا فِي يَدِهِ- وَذُو الْيَدِ مُنْكِرٌ- فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ، وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ.
وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ فَشَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ مُفَاوَضَةٌ، أَوْ زَادُوا عَلَى هَذَا فَقَالُوا: الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِهِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، أَوْ قَالُوا: هُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِلْمُدَّعَى بِنِصْفِهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، وَلِأَنَّهُمَا إنْ قَالَا: الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، أَوْ هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَقَدْ صَرَّحَا بِالشَّهَادَةِ لِلْمُدَّعَى بِمِلْكِ نِصْفِ مَا فِي يَدِ ذِي الْيَدِ، وَإِنْ قَالَا: هُوَ مُفَاوَضَةٌ فَمُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ هَذَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا مُسْتَوِيَيْنِ فِي مِلْكِ الْمَالِ شَرِيكَيْنِ فِيهِ فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ ادَّعَى ذُو الْيَدِ عَيْنًا مِمَّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ مِيرَاثٌ لَهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ شُهُودُ الْمُدَّعِي شَهِدُوا بِأَنَّهُ مُفَاوَضَةٌ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، أَوْ هُوَ بَيْنَهُمَا؛ فَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: الْقَاضِي يَقْضِي بِمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ فَإِذَا شَهِدُوا بِمُطْلَقِ الْمُفَاوَضَةِ قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ أَيْضًا.
وَمُطْلَقُ الْمُفَاوَضَةِ لَا يَنْفِي احْتِمَالَ كَوْنِ بَعْضِ مَا فِي يَدِهِ مِيرَاثًا لَهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَقْدَ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا بَيْنَهُمَا، وَوَرِثَ أَحَدُهُمَا مَالًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ خَاصَّةً، وَتَبْقَى الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّا إنَّمَا نَجْعَلُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاعْتِبَارِ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ نَعْتَبِرُهُ، وَالظَّاهِرُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إذَا قَامَ الدَّلِيلُ بِخِلَافَةِ فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى عَيْنٍ أَنَّهُ مِيرَاثٌ لَهُ فَقَدْ ظَهَرَ الدَّلِيلُ الْمَانِعُ مِنْ اعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فِي هَذَا الْعَيْنِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدُوا بِالشَّرِكَةِ فِيمَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى بِالشَّرِكَةِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِذَلِكَ.
فَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى عَيْنٍ أَنَّهُ مِيرَاثٌ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَبَيِّنَةُ الْمَقْضِيّ عَلَيْهِ عَلَى إبْطَالِ الْقَضَاءِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً.
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَةِ الْإِطْلَاقِ وَالْبَيَانِ أَنَّ شَاهِدَيْنِ لَوْ شَهِدَا بِدَارِ فِي يَدِ رَجُلٍ لِإِنْسَانٍ، وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ زَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّ الْبِنَاءَ كَانَ مِلْكَ الْمَقْضِيّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِالْأَرْضِ لَهُ.
وَلَوْ كَانَ الشُّهُودُ شَهِدُوا لَهُ بِالْبِنَاءِ وَالْأَرْضِ مُفَسِّرًا، ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعِي أَنَّ الْبِنَاءَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَكُونُ ذَلِكَ إكْذَابًا مِنْهُ لِشُهُودِهِ، وَيَبْطُلُ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي لَهُ، وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْبِنَاءَ تَبَعٌ فَاسْتِحْقَاقُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ إلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْأَصْلَ.
وَعِنْدَ التَّفْسِيرِ وَالْبَيَانِ اسْتِحْقَاقُهُ الْبِنَاءَ بِالْحُجَّةِ، فَإِذَا أَكْذَبَ شُهُودَهُ فِي ذَلِكَ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ لَهُ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ذَا الْيَدِ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ لِصَاحِبِهِ، وَبَيِّنَةُ الْمَقْضِيّ عَلَيْهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَا تُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَدَّعِي تَلَقِّي الْمِلْكَ مِنْ جِهَةِ الْمَقْضِيّ لَهُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مُفَسَّرَةً؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَسْبَابَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ لِأَعْيَانِهَا بَلْ لِأَحْكَامِهَا، وَالْمُفَاوَضَةُ سَبَبٌ، وَحُكْمُهَا الشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ دَعْوَى الْمُفَاوَضَةِ لَا تَصِحُّ بِدُونِ دَعْوَى الشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ، فَكَذَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا إنَّمَا تُقْبَلُ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُصَرِّحَ الشَّاهِدُ بِالْحُكْمِ، وَبَيْنَ أَنْ يَذْكُرَ السَّبَبَ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالْحُكْمِ وَالسَّبَبِ جَمِيعًا بِالشَّهَادَةِ، كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِالشِّرَاءِ، أَوْ بِالشِّرَاءِ وَالْمِلْكِ جَمِيعًا لِلْمُشْتَرِي، ثُمَّ عِنْدَ التَّفْسِيرِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ يَعْتَبِرُونَ بِهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْإِبْهَامِ.
قَالَ: (فَإِنْ ادَّعَى ذُو الْيَدِ عَيْنًا فِي يَدِهِ أَنَّهُ لَهُ خَاصَّةً، وَهَبَهُ شَرِيكُهُ مِنْهُ حِصَّتَهُ فِيهِ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْهِبَةِ وَالْقَبْضِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ) وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا عَلَى أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ عَلَى أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ هُنَا بَيِّنَتَهُ مَقْبُولَةٌ- سَوَاءٌ فَسَّرَ شُهُودُ الْمُدَّعِي بِشَهَادَتِهِمْ أَوْ لَمْ يُفَسِّرُوا-.
ثُمَّ الْفَرْقُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَبُولِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ إبْطَالُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ فِي هَذَا الْعَيْنِ بَلْ فِيهَا تَقْرِيرُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي، وَإِنَّمَا تَصِحُّ الْهِبَةُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ مَعَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ هُنَاكَ إبْطَالُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْقَضَاءُ.
قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الَّذِي فِي يَدِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِي وَهَبَهُ لَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ.
وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ يَمْلِكُهُ، أَوْ أَنَّ رَجُلًا آخَرَ وَهَبَهُ مِنْهُ؛ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا.
فَكَذَلِكَ فِي الْمُفَاوَضَةِ.
وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ شَرِيكُهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ، وَالْمَالُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَقَرَّ لَهُ بِالْمُفَاوَضَةِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، ثُمَّ ادَّعَى عَبْدًا مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ أَنَّهُ مِيرَاثٌ لَهُ، أَوْ وَهَبَهُ مِنْ فُلَانٍ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ؛ قُبِلَ ذَلِكَ وَقُضِيَ لَهُ بِالْعَبْدِ، وَهُوَ دَلِيلٌ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ.
وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا): أَنَّ ذَا الْيَدِ هُنَا مُقِرٌّ بِالْمُفَاوَضَةِ مُدَّعٍ الْمِيرَاثَ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمَا كَانَ يَسْتَحْلِفُ خَصْمَهُ، وَفِي الْأَوَّلِ ذُو الْيَدِ جَاحِدٌ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَقَدْ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِحُجَّةِ صَاحِبِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْمِيرَاثَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ خَصْمَهُ، فَعَرَفْنَا بِهَذَا أَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَالْمُنْكِرُ لَا يَكُونُ مُدَّعِيًا؛ فَلِهَذَا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ.
(وَالثَّانِي) أَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ بِدُونِ الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِالْإِقْرَارِ فَقَطْ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنْ اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ بِالْإِقْرَارِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الزَّوَائِدِ الْمُنْفَصِلَةِ، فَأَمَّا الْبَيِّنَةُ لَا تُوجِبُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَالِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا؛ فَلِهَذَا لَا يَقْبَلُ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدَيْهِمَا جَمِيعًا، وَهُمَا مُقِرَّانِ بِالْمُفَاوَضَةِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَهُ مِيرَاثٌ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اُسْتُحْلِفَ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرُهَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ يَلْزَمُهُ، وَلَا إشْكَالَ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى تَمَلُّكَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ بِالْهِبَةِ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ بَيِّنَتَهُ تَكُونُ مَقْبُولَةً.
(وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ قَبْلَ رَجُلٍ شِرْكًا فِي عَبْدٍ لَهُ خَاصَّةً، وَجَحَدَ ذُو الْيَدِ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِنِصْفِهِ)؛ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ، وَلَا تُقْبَلُ مِنْ ذِي الْيَدِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ ادَّعَى مِيرَاثًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَقْضِيٌّ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ فِي نِصْفِهِ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِي تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ جِهَةِ الْمَقْضِيّ لَهُ.
قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَالْمَالُ فِي يَدِ الْبَاقِي مِنْهُمَا، فَادَّعَى وَرَثَةُ الْمَيِّتِ الْمُفَاوَضَةَ، وَجَحَدَ ذَلِكَ الْحَيُّ، فَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبُوهُمْ كَانَ شَرِيكَهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ: لَمْ يُقْضَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي يَدِ الْحَيِّ)؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِعَقْدٍ قَدْ عَلِمْنَا ارْتِفَاعَهُ بِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَنْتَقِضُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِمَا شَهِدُوا بِهِ فِي الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ فِيمَا مَضَى لَا تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّهُ مِنْ شَرِكَةِ مَا بَيْنَهُمَا؛ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى لَهُمْ بِنِصْفِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الِاسْتِحْقَاقَ بِالْحُجَّةِ.
أَمَّا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، فَقَدْ شَهِدُوا بِالنِّصْفِ لِلْمَيِّتِ، وَوَرَثَتُهُ خُلَفَاؤُهُ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ، فَالْيَدُ الثَّابِتَةُ لَهُ فِي حَالِ قِيَامِ الشَّرِكَةِ كَالْيَدِ الثَّابِتَةِ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، وَذَلِكَ مُوجَبُ مِلْكِ الْمَيِّتِ فِي نِصْفِهِ، وَوَرَثَتُهُ فِي ذَلِكَ يَخْلُفُونَهُ.
(فَإِنْ أَقَامَ الْحَيُّ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مِيرَاثٌ لَهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ)؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ قَدْ فَسَرُّوا، وَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ لِلْوَرَثَةِ بِشَهَادَتِهِمْ قَالُوا: وَهَذَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ مِنْ شَرِكَةِ مَا بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ وَجَحَدُوا الشَّرِكَةَ، فَأَقَامَ الْحَيُّ الْبَيِّنَةَ عَلَى شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، وَأَقَامَ الْوَرَثَةُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبُوهُمْ مَاتَ وَتَرَكَ هَذَا مِيرَاثًا مِنْ غَيْرِ شَرِكَةٍ بَيْنَهُمَا: لَمْ أَقْبَلْ مِنْهُمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ جَاحِدُونَ لِلشَّرِكَةِ، وَإِنَّمَا يُقِيمُونَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النَّفْيِ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْمُدَّعِي الشَّرِكَةَ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ بِالْبَيِّنَةِ فَيُقْضَى لَهُ بِنِصْفِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ حِينَ زَعَمُوا أَنَّ أَبَاهُمْ مَاتَ، وَتَرَكَ مِيرَاثًا فَقَدْ أَقَرُّوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ أَبِيهِمْ حَالَ قِيَامِ الشَّرِكَةِ، وَهَذَا الْفَصْلُ أَيْضًا حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْخِلَافِ، وَالْأَصَحُّ فِي الْفَصْلَيْنِ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ لِلْحُكْمِ لَا لِلسَّبَبِ، فَالسَّبَبُ قَدْ انْتَقَضَ بِالْمَوْتِ.
وَلِهَذَا يُسَوَّى بَيْنَ مَا إذَا فَسَّرَ الشُّهُودُ أَنَّهُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، أَوْ لَمْ يُفَسِّرُوا ذَلِكَ بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ.
(وَلَوْ قَالَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ: مَاتَ جَدُّنَا وَتَرَكَ مِيرَاثًا لِأَبِينَا، وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا لَمْ يُقْبَلْ) فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقُبِلَتْ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْمُفَاوِضُ حَيًّا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِالْمُفَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ.
فَإِنْ كَانَ شُهُودُ الْحَيِّ شَهِدُوا عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ الْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ، كَمَا لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ فِيهِ مِنْ الْمُوَرِّثِ لَوْ كَانَ حَيًّا.
قَالَ: (وَإِذَا افْتَرَقَ الْمُتَفَاوِضَانِ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ كَانَ شَرِيكَهُ بِالثُّلُثِ، وَادَّعَى صَاحِبُهُ النِّصْفَ، وَكِلَاهُمَا مُقِرٌّ بِالْمُفَاوَضَةِ، فَجَمِيعُ الْمَالِ مِنْ الْعَقَارِ وَغَيْرِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ)؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْمُفَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةُ فِي مِلْكِ الْمَالِ.
فَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى الْمُفَاوَضَةِ يَكُونُ اتِّفَاقًا عَلَى حُكْمِهَا، وَهُوَ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، ثُمَّ مُدَّعِي التَّفَاوُتِ يَكُونُ رَاجِعًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ، وَمُنَاقِضًا فِي كَلَامِهِ، وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ بِالْعَقْدِ يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ مِنْ الْعَقْدِ، وَلَا تَصِحُّ الْمُفَاوَضَةُ إلَّا بَعْدَ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ ثِيَابِ كِسْوَةٍ، أَوْ مَتَاعِ بَيْتٍ، أَوْ رِزْقِ الْعِيَالِ أَوْ خَادِمٍ يَطَؤُهَا فَإِنِّي أَجْعَلُ ذَلِكَ لِمَنْ يَكُونُ فِي يَدَيْهِ، وَلَا أَجْعَلُهُ فِي الشَّرِكَةِ- اسْتِحْسَانًا- وَفِي الْقِيَاسِ: يَدْخُلُ هَذَا فِي الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ حَاصِلٌ بِالتَّصَرُّفِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي التَّصَرُّفِ قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ عَقْدِ الشَّرِكَةِ لِعِلْمِنَا بِوُقُوعِ الْحَاجَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إلَيْهَا مُدَّةَ الْمُفَاوَضَةِ.
وَلِهَذَا لَوْ عَايَنَّاهُ اشْتَرَى ذَلِكَ جَعَلْنَاهُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ فَإِذَا صَارَ مُسْتَثْنًى لَمْ يَتَنَاوَلْهُ مُطْلَقُ الْمُفَاوَضَةِ، فَيُنْفَى ظَاهِرُ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ، وَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ ذِي الْيَدِ؛ لِإِنْكَارِهِ.
وَكَذَلِكَ الْخَادِمُ يَطَؤُهَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِلُّ شَرْعًا وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى وَطْئِهَا إلَّا إذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِمِلْكِهَا.
أَرَأَيْت لَوْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَمَا كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَ ذِي الْيَدِ، وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ.
وَلِذَلِكَ لَوْ لَمْ يَفْتَرِقَا، وَلَكِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الشَّرِكَةِ، فَهُوَ عَلَى النِّصْفِ؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا بِوُجُودِ الْمَالِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فِي حَالِ قِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ وَتَأْثِيرِ مَوْتِ أَحَدِهِمَا فِي نَقْضِ الْعَقْدِ، فَهُوَ وَافْتِرَاقُهُمَا سَوَاءٌ.
(وَلَوْ كَانَا حَيَّيْنِ وَالْمَالُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلشَّرِكَةِ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ شَرِيكُهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ لَهُ الثُّلُثَانِ، وَلِلَّذِي فِي يَدِهِ الثُّلُثُ؛ فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ فِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ)، لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمُفَاوَضَةِ إقْرَارٌ بِالْمُنَاصَفَةِ فِي الْمَالِ، وَذَلِكَ إكْذَابٌ مِنْهُ لِشُهُودِهِ فِيمَا شَهِدُوا بِهِ مِنْ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ، وَالْمُدَّعِي إذَا كَذَّبَ شَاهِدَهُ تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ لَهُ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَصْلِ الْمُفَاوَضَةِ مَقْبُولَةٌ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَى إتْمَامِ الشَّهَادَةِ إلَى مَا ذَكَرُوا مِنْ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ فَتُلْغَى تِلْكَ الشَّهَادَةُ فَتَبْقَى شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَصْلِ الْمُفَاوَضَةِ، وَلِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: مَعَ التَّفَاوُتِ فِي الْمَالِ تَصِحُّ الْمُفَاوَضَةُ.
فَلَعَلَّ الشُّهُودَ مِمَّنْ يَعْتَمِدُونَ ذَلِكَ فَفَسَّرُوا بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَبْنِي مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ- لَا عَلَى اعْتِقَادِ الشُّهُودِ- فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْفِعْلِ ضَعْفُ كَلَامِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا فَسَّرَ الشُّهُودُ أَوْ أَبْهَمُوا؛ فَإِنَّ تَفْسِيرَهُمْ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُفَاوَضَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ تَفْسِيرُهُمْ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ بَيِّنَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى مَتَاعٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ مِيرَاثٌ.
بَلْ الْمُبْهَمُ وَالْمُفَسَّرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي مَيِّتًا وَأَقَامَ وَارِثُهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ مُوَرِّثِهِ قَائِمٌ مَقَامَهُ.
قَالَ: (وَإِذَا افْتَرَقَ الْمُتَفَاوِضَانِ فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ كَانَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَأَنَّ قَاضِيَ كَذَا قَدْ قَضَى بِذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَسَمُوا الْمَالَ، وَأَنَّهُ قَضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ الْقَاضِي بِعَيْنِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَاضٍ وَاحِدٍ وَعَلِمْنَا التَّارِيخَ مِنْ الْقَضَاءَيْنِ أَخَذْنَا بِالْآخَرِ، وَهُوَ رُجُوعٌ عَنْ الْأَوَّلِ)؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِقَضَاءِ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّمَا يَقْضِي ثَانِيًا بِخِلَافِ مَا قَضَى بِهِ أَوَّلًا إذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ فِي الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الثَّانِيَ نَقْضًا لِلْأَوَّلِ، وَهُوَ كَمَا لَوْ تَبَايَعَا بِأَلْفٍ، ثُمَّ تَبَايَعَا بِمِائَةِ دِينَارٍ يُجْعَلُ الثَّانِي نَقْضًا لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا، أَوْ كَانَ الْقَضَاءُ مِنْ قَاضِيَيْنِ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَضَاءُ الَّذِي لَا نَعُدُّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ ظَاهِرٌ، وَأَنَّهُ قَضَى بِالْحُجَّةِ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِالشَّكِّ؛ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالْإِبْطَالِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ.
(وَإِذَا كَانَ مِنْ قَاضِيَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَمْلِكُ نَقْضَ قَضَاءِ الْآخَرِ وَلَا يَقْصِدُ ذَلِكَ، إنَّمَا يَقْضِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا شَهِدَ عِنْدَهُ الشُّهُودُ بِهِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا)؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُ مَالِ الشَّرِكَةِ، فَظَنَّ كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعُ مَالِ الشَّرِكَةِ، فَيُحَاسِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِمَا عَلَيْهِ، وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ.
قَالَ: (وَلَا يَلْزَمُ الْمُفَاوِضَ مَا عَلَى شَرِيكِهِ مِنْ مَهْرٍ أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُلْتَزَمٌ لِمَا وَجَبَ لِطَرِيقِ التِّجَارَةِ.
وَالنِّكَاحُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ؛ فَالْمَهْرُ الْوَاجِبُ بِهِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بِسَبَبِ التِّجَارَةِ، وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ.
وَكَفَالَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِدَيْنٍ هُوَ بَدَلُ مَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ حَتَّى يَكُونَ مَنْفَعَةً مُبَاشَرَةً بِسَبَبِ الِالْتِزَامِ لَهُمَا، وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْعُدْوَانِ دُونَ التِّجَارَةِ.
فَهُوَ بَدَلُ مَا لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ بِالْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِدُيُونِ التِّجَارَةِ.
قَالَ: (وَلَا يُشَارِكُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِيمَا يَرِثُ مِنْ مِيرَاثٍ، وَلَا جَائِزَةٍ يُجِيزُهَا السُّلْطَانُ لَهُ أَوْ هِبَةٍ، أَوْ هَدِيَّةٍ) إلَّا عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ: مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ الْمُسَاوَاةُ.
وَقَدْ بَقِيَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فَيَثْبُتُ مَا هُوَ مُقْتَضَاهَا، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ كَانَ رَأْسُ مَالِهِمَا عَلَى التَّفَاوُتِ يُجَوِّزُ الشَّرِكَةَ، وَيَصِيرُ رَأْسُ الْمَالِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَا بُدَّ لِلْمِلْكِ مِنْ سَبَبٍ، وَسَبَبُ الْإِرْثِ الْقَرَابَةُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْوَارِثِ مُمَلَّكًا نِصْفَهُ مِنْ شَرِيكِهِ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ سَبَبِ الْمِلْكِ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَالتَّمْلِيكُ لَا يَسْبِقُ سَبَبَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُجْعَلُ كَالْوَكِيلِ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَحْتَمِلُهُ، وَيُجَوِّزُ الْمِيرَاثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْوَارِثِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ شَرِيكِهِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ؛ فَإِنَّ مَعَ إضَافَةِ مُوجَبِ الْعَقْدِ إلَيْهِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ نَائِبًا عَنْ شَرِيكِهِ.
قَالَ: (وَلَا يُفْسِدُ ذَلِكَ الْمُفَاوَضَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَقَدْ قَبَضَهُ) مَعْنَاهُ: لَمْ يَكُنْ دَيْنًا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَتَى اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِمِلْكِ مَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ يَنْعَدِمُ بِهِ مُوجَبُ الْمُفَاوَضَةِ فَتَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ.
قَالَ: (وَكُلُّ وَدِيعَةٍ كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمَا فَهِيَ عِنْدَهُمَا جَمِيعًا)؛ لِأَنَّهُمَا بِعَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ صَارَ الشَّخْصُ وَاحِدًا فِيمَا يَلْتَزِمُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبَبٍ هُوَ مِنْ صَنِيعِ التِّجَارَةِ.
وَيَقُولُ: الْوَدِيعَةُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ، فَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَوْدَعُ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ إذَا مَاتَ مُجْهِلًا لِلْوَدِيعَةِ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا لِلْوَدِيعَةِ.
فَهَذَا ضَمَانُ مَا أَوْجَبَ بِتَمَلُّكِ أَحَدِهِمَا مَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ، فَيَكُونُ مُلْزِمًا صَاحِبَهُ.
(فَإِنْ قِيلَ): وُجُوبُ هَذَا الضَّمَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا مُفَاوَضَةَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
(قُلْنَا): لَا كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ الْبَيَانِ قَدْ تَحَقَّقَ التَّجْهِيلُ، وَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ.
فَإِنْ قَالَ الْحَيُّ: ضَاعَتْ فِي يَدِ الْمَيِّتِ قَبْلَ مَوْتِهِ؛ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ لَا عَقْدَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ قَوْلُ أَحَدِهِمَا كَقَوْلِ صَاحِبِهِ بِسَبَبِ الْعَقْدِ الْقَائِمِ بَيْنَهُمَا.
وَلِأَنَّ الْمُودِعَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا صَارَ ضَامِنًا بِالْجُحُودِ، وَلَوْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يُصَدَّقْ.
فَكَذَلِكَ قَوْلُ شَرِيكِهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمَرْءِ مَقْبُولٌ فِيمَا هُوَ أَمِينٌ فِيهِ لِنَفْيِ الضَّمَانِ عَنْهُ.
فَأَمَّا فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
وَإِنْ كَانَ الْحَيُّ هُوَ الْمُسْتَوْدِعُ صَدَقَ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ مُتَمَلِّكًا وَلَا ضَامِنًا لِلْوَدِيعَةِ مَا دَامَ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ شَرِيكِهِ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ.
فَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا.
(فَإِنْ قِيلَ): أَلَيْسَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَلْزَمُهُمَا مَقْبُولُ الْوَدِيعَةِ مِثْلَ صَاحِبِهِ؟ (قُلْنَا): نَعَمْ، وَلَكِنَّ التَّمْلِيكَ عِنْدَ الْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْأَيْدِيَ الْمَجْهُولَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ، الْوَدِيعَةُ فِي يَدِ الْمُودَعِ حَقِيقَةً لَا فِي يَدِ شَرِيكِهِ.
(وَإِنْ قَالَ: أَكَلْتهَا قَبْلَ مَوْتِ صَاحِبِي لَزِمَهُ الضَّمَانُ خَاصَّةً، وَلَمْ يُصَدَّقْ عَلَى صَاحِبِهِ)؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، وَعِنْدَ الْإِقْرَارِ لَا مُفَاوَضَةَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ فِي الِانْتِهَاءِ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَنْفَقَهَا فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ.
وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ؛ فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ عَلَيْهِ خَاصَّةً.
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا وَجَبَ عَلَى أَحَدِهِمَا ضَمَانٌ بِغَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكِ مَالٍ: فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا نَظِيرُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِسَبَبٍ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ الْمُسْتَهْلَكِ، وَالْمُسْتَهْلَكُ لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ.
وَهُمَا قَالَا: ضَمَانُ الْغَصْبِ الِاسْتِهْلَاكُ ضَمَانُ تِجَارَةٍ بِدَلِيلِ صِحَّةِ إقْرَارِ الْمَأْذُونِ بِهِ وَكَوْنِهِ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي الْحَالِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ بَدَلُ مَالٍ مُحْتَمِلٍ لِلشَّرِكَةِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِأَصْلِ السَّبَبِ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ، وَلِهَذَا مِلْكُ الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ بِالضَّمَانِ.
قَالَ: (وَإِذَا أَوْدَعَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مِنْ مَالِهِمَا وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ فَادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ أَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا إلَيْهِ أَوْ إلَى صَاحِبِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ)؛ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الرَّدِّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمِينٌ فِيهِ فَإِنَّهُ كَمَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي الْإِيدَاعِ، فَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِرْدَادِ.
فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُودَعِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ جَحَدَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِقَوْلِهِ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُودَعِ مَقْبُولٌ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ لَا فِي وُصُولِ الْمَالِ إلَى مَنْ أَخْبَرَ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُودِعَ لَوْ كَانَ وَصِيًّا فَادَّعَى الْمُودَعُ الرَّدَّ عَلَيْهِ لَا يَعْزِمُ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ شَيْئًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْضِيَ الْوَدِيعَةِ دَيْنَهُ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْت، وَقَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ: مَا قَضَيْت شَيْئًا؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ فِي بَرَاءَتِهِ، وَدَيْنُ الطَّالِبِ عَلَى الْمُودِعِ بِحَالِهِ.
وَلَكِنْ يَحْلِفُ الشَّرِيكُ الَّذِي ادَّعَى الْمُودَعُ الرَّدَّ إلَيْهِ بِاَللَّهِ مَا قَبَضْته؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ ضَمَانَ نَصِيبِهِ بِجُحُودِهِ الْقَبْضَ، وَلَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَزِمَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ حَلِفَهُ عَلَيْهِ.
(وَكَذَلِكَ) لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ ادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ أَنَّهُ كَانَ دَفَعَهُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ أَمِينًا بَعْدَ مَوْتِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الرَّدِّ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ وَرَثَةِ الْمُودِعِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ.
ثُمَّ يُسْتَحْلَفُ الْوَرَثَةُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْمُوَرِّثَ لَوْ كَانَ حَيًّا، وَأَنْكَرَ الْقَبْضَ اُسْتُحْلِفَ لِشَرِيكِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ.
إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ حَيًّا فَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَالْوَرَثَةُ يُسْتَحْلَفُونَ عَلَى فِعْلِ الْمُوَرِّثِ بِالْقَبْضِ.
فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ فَكَذَّبُوهُ، وَحَلَفُوا أَنَّهُمْ مَا قَبَضُوهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ حِصَّةِ الْحَيِّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي نَصِيبِ الْمَيِّتِ كَانَ لَهُ حَقُّ الدَّفْعِ إلَى وَرَثَتِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِي ذَلِكَ.
فَأَمَّا نَصِيبُ الْحَيِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاءُ الْمَيِّتِ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً، وَلِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ قَدْ انْقَضَتْ بِالْمَوْتِ، فَهُوَ فِي نَصِيبِ الْحَيِّ مُقِرٌّ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَدْفَعُهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ، ثُمَّ يَكُونُ ذَلِكَ النِّصْفُ بَيْنَ الْحَيِّ وَوَرَثَةِ الْمَيِّتِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي وُصُولِ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا يُصَدَّقُ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ، فَيُجْعَلُ ذَلِكَ النِّصْفُ كَالنَّاوِي، وَالْمَالُ الْمُشْتَرَكُ مَا يُنْوَى مِنْهُ يُنْوَى عَلَى الشَّرِكَةِ، وَمَا يَبْقَى يَبْقَى عَلَى الشَّرِكَةِ.
(وَلَوْ قَالَ: دَفَعْت الْمَالَ إلَى الَّذِي أَوْدَعَنِي بَعْدَ مَوْتِ الَّذِي يُودِعُنِي، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الضَّمَانِ)؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَدَاءَ الْأَمَانَةِ فِي الْكُلِّ، فَإِنَّ لِلْمُودَعِ حَقَّ الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَبَضَ مِنْهُ- مَالِكًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالِكٍ- فَرَدُّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ انْتِقَاضِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا كَرَدِّهِ فِي حَالِ قِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ.
وَلَا يَصْدُقُ عَلَى إلْزَامِ الْحَيِّ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ (مَا قَبَضَهُ).
فَإِنْ كَانَ الْمُودِعُ مَيِّتًا، فَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: قَدْ دَفَعْت الْمَالَ إلَيْكُمَا جَمِيعًا، إلَى الْحَيِّ نِصْفَهُ وَإِلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ نِصْفَهُ، وَجَحَدُوا ذَلِكَ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ مَعَ يَمِينِهِ.
وَهُوَ بَرِيءٌ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ بِإِيصَالِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَيْهِ.
فَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِقَبْضِ النِّصْفِ شَرَكَهُ الْفَرِيقُ الْآخَرُ فِيهِ؛ لِأَنَّ بِإِقْرَارِهِ يَثْبُتُ وُصُولُ النِّصْفِ إلَيْهِ، وَبِدَعْوَى الْمُودِعِ لَمْ يَثْبُتْ وُصُولُ النِّصْفِ الْآخَرِ إلَى صَاحِبِهِ فِيمَا يَثْبُتُ الْقَبْضُ فِيهِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ نَاوِيًا.
قَالَ: (وَإِنْ كَانَا حَيَّيْنِ وَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: قَدْ دَفَعْت الْمَالَ إلَيْهِمَا فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ وَجَحَدَهُ الْآخَرُ: فَالْمُسْتَوْدَعُ بَرِيءٌ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَ أَحَدِهِمَا إيَّاهُ فِي حَالِ قِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ كَتَصْدِيقِهِمَا، وَلَوْ صَدَّقَاهُ لَمْ يَكُنْ يَمِينٌ.
وَإِنْ افْتَرَقَا، ثُمَّ قَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: دَفَعْته إلَى الَّذِي أَوْدَعَنِي فَهُوَ بَرِيءٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ عَلَى الْمُودَعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوُصُولَ إلَى يَدِهِ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ لَا بِقِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا.
وَإِنْ قَالَ: دَفَعْته إلَى الْآخَرِ وَكَذَّبَهُ ذَلِكَ ضَمِنَ نَصِفَ ذَلِكَ الْمَالِ لِلَّذِي أَوْدَعَهُ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْفُرْقَةِ لَيْسَ لَهُ حَقُّ دَفْعِ نَصِيبِ الْمُودِعِ إلَى شَرِيكِهِ، وَلَهُ حَقُّ دَفْعِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ إلَيْهِ، فَكَانَ هُوَ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ مُخْبِرًا بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَفِي نَصِيبِ الْمُودِعِ مُقِرًّا بِالضَّمَانِ عَلَى نَفْسِهِ يَدْفَعُهُ إلَى غَيْرِهِ.
ثُمَّ مَا يَقْبِضُهُ الْمُودِعُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُودِعَ غَيْرُ مُصَدِّقٍ فِي وُصُولِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ إلَيْهِ لَمَّا كَذَبَهُ، فَجُعِلَ ذَلِكَ كَالنَّاوِي، فَكَانَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
وَإِنْ صَدَّقَهُ الشَّرِيكُ بِذَلِكَ فَالْمُودِعُ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَ شَرِيكَهُ نَصِيبَهُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُودَعَ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ نَصِيبَهُ إلَى شَرِيكٍ بَعْدَ انْتِقَاضِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا، وَالدَّافِعُ بِغَيْرِ حَقٍّ ضَامِنٌ كَالْقَابِضِ.
قَالَ: (وَعَارِيَّةُ الْمُفَاوِضِ وَأَكْلُ طَعَامِهِ وَقَبُولُ هَدِيَّتِهِ فِي الْمَطْعُومِ، وَإِجَابَةُ دَعْوَتِهِ بِغَيْرِ أَمْرِ شَرِيكِهِ جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ) وَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّاعِي وَلَا عَلَى الْآكِلِ- اسْتِحْسَانًا- وَفِي الْقِيَاسِ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ بِخِلَافِ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِالتِّجَارَةِ، وَالْعَارِيَّةُ وَالْإِهْدَاءُ وَاِتِّخَاذُ الدَّعْوَةِ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: هَذَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَجِدُ التَّاجِرُ مِنْهُ بُدًّا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ يَدْعُو الْمُجَاهِدِينَ إلَى طَعَامِهِ، وَيُهْدِي إلَيْهِمْ الْمَطْعُومَ لِيَجْتَمِعُوا عِنْدَهُ، وَالْمَأْذُونُ غَيْرُ مَالِكٍ لِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ إنَّمَا هُوَ تَاجِرٌ، وَالْمُفَاوَضُ تَاجِرٌ مَالِكٌ لِنِصْفِ الْمَالِ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى.
وَذَكَرَ حَدِيثَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَهْدَيْت لِرَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا عَبْدٌ قَبْلَ أَنْ أُكَاتَبَ فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنِّي».
وَحَدِيثُ الْأَخْرَسِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجَابَ دَعْوَةَ عَبْدٍ».
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: عَرَّسْت وَأَنَا عَبْدٌ فَدَعَوْت رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ فَأَجَابُونِي.
قَالَ: (وَلَوْ كَسَا الْمُفَاوَضُ رَجُلًا ثَوْبًا، أَوْ وَهَبَ لَهُ دَابَّةً، أَوْ وَهَبَ لَهُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ وَالْأَمْتِعَةَ، وَالْحُبُوبَ كُلَّهَا لَمْ يَجُزْ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ)؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَإِنَّمَا اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ فِي الْفَاكِهَةِ وَاللَّحْمِ وَالْخُبْزِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، مِمَّا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ إهْدَاءُ ذَلِكَ إلَى الْمُجَاهِدِينَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ فَأَمَّا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ الْهِبَةُ لَيْسَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ.
وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا إلَى الْعُرْفِ.
قَالَ: (وَلَوْ أَعَارَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً فَرَكِبَهَا الْمُسْتَعِيرُ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي رَكِبَهَا إلَيْهِ، وَقَدْ عَطِبَتْ الدَّابَّةُ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ فِي الْإِعَارَةِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَبَرِيءَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ ضَمَانِهَا) لِأَنَّ إقْرَارَ أَحَدِهِمَا فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُمَا بِحُكْمِ الْمُفَاوَضَةِ كَإِقْرَارِهِمَا.
قَالَ: (وَلَوْ اسْتَعَارَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ، فَرَكِبَهَا شَرِيكُهُ فَعَطِبَتْ، فَهُمَا ضَامِنَانِ)؛ لِأَنَّ رُكُوبَ الدَّابَّةِ يَتَفَاوَتُ فِيهِ النَّاسُ، وَصَاحِبُهَا إنَّمَا رَضِيَ بِرُكُوبِ الْمُسْتَعِيرِ دُونَ غَيْرِهِ، فَالْآخَرُ فِي رُكُوبِهَا غَاصِبٌ ضَامِنٌ إذَا هَلَكَتْ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا يَجِبُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِحُكْمِ الْغَصْبِ فَالْآخَرُ مُطَالَبٌ بِهِ؛ فَإِنْ كَانَ رَكِبَهَا فِي حَاجَتِهِمَا، فَالضَّمَانُ فِي مَالِهِمَا لِأَنَّ مَنْفَعَةَ رُكُوبِهِ تَرْجِعُ إلَيْهِمَا فِيمَا يَجِبُ مِنْ الضَّمَانِ بِسَبَبِهِ يَكُونُ فِي مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُنْمِ.
وَإِنْ رَكِبَ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ فَهُمَا ضَامِنَانِ؛ لِمَا قُلْنَا، إلَّا أَنَّهُمَا إنْ أَذِنَاهُ مِنْ مَالِ الشَّرِيكِ رَجَعَ الشَّرِيكُ عَلَى الرَّاكِبِ بِنَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرُّكُوبِ حَصَلَتْ لِلرَّاكِبِ، فَكَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ غَصْبٍ اغْتَصَبَهُ، أَوْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ فَأَكَلَهُ، وَقَدْ أَدَّى الثَّمَنَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَبَقِيَ الثَّمَنُ دَيْنًا عَلَيْهِ.
قَالَ: (وَإِذَا اسْتَعَارَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا طَعَامًا لَهُ خَاصَّةً لِرِزْقِهِ إلَى مَقَامٍ مَعْلُومٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا شَرِيكُهُ مِثْلَ ذَلِكَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، أَوْ لِخَاصَّتِهِمَا؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) مِنْ قِبَلِ أَنَّ التَّقْيِيدَ الَّذِي لَيْسَ بِمُفِيدٍ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا.
وَالضَّرَرُ عَلَى الدَّابَّةِ لَا يَخْتَلِفُ بِحَمْلِ مَا عُيِّنَ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ مِثْلِهِ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَمْلِ كَفِعْلِ صَاحِبِهِ.
ثُمَّ الْمُسْتَعِيرُ لَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا طَعَامًا مِنْ شَرِكَتِهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا لَمْ يَضْمَنْ، فَكَذَلِكَ شَرِيكُهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً، فَبَعَثَ بِالدَّابَّةِ مَعَ وَكِيلٍ لَهُ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا الطَّعَامَ، فَحَمَلَ الْوَكِيلُ طَعَامًا لِنَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يُضَمِّنُهُ، فَالْمُفَاوَضَةُ أَوْجَبُ مِنْ الْوَكَالَةِ، وَكَذَلِكَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إذَا اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَدْلَ زُطِّيٍّ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا شَرِيكُهُ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَدْلِ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا طَيَالِسَةً أَوْ أَكْسِيَةً كَانَ ضَامِنًا؛ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَلِلتَّفَاوُتِ فِي الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ.
قَالَ: (وَلَوْ حَمَلَ الْمُسْتَعِيرُ عَلَيْهَا ذَلِكَ ضَمِنَهُ، فَكَذَلِكَ شَرِيكُهُ) إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ تِجَارَتِهِمَا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِحُصُولِ الْمَنْفَعَةِ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ بِضَاعَة عِنْدَ الَّذِي حَمَلَ؛ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الَّذِي حَمَلَ عَنْهُ غَاصِبٌ، وَالْآخَرُ عَنْهُ كَفِيلٌ ضَامِنٌ، ثُمَّ يَرْجِعُ الشَّرِيكُ عَلَى الَّذِي حَمَلَ بِنِصْفِ ذَلِكَ إذَا أَدَّيَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي هَذَا الْحَمْلِ، فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ مِنْ قَرَارِ الضَّمَانِ شَيْءٌ، وَلَوْ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا شَرِيكُهُ عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ شَعِيرٍ مِنْ شَرِكَتِهِمَا؛ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ هَذَا أَخَفُّ عَلَى الدَّابَّةِ فَلَا يَصِيرُ الْحَامِلُ بِهِ مُخَالِفًا فِي حَقِّ صَاحِبِ الدَّابَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ أَوْ شَرِيكُهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا شَرِيكَيْنِ شَرِكَةَ عَنَانٍ فَاسْتَعَارَهَا، فَالْجَوَابُ فِي هَذَا كَالْجَوَابِ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ فِي الْحَمْلِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً- رِزْقًا لِأَهْلِهِ- فَحَمَلَ عَلَيْهَا شَرِيكُهُ شَعِيرًا لَهُ خَاصَّةً؛ كَانَ ضَامِنًا لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا، وَبِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ الْمُسْتَعِيرِ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَنْوِي عِنْدَ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّهُ يَسْتَعِيرُهَا لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَا أَعَدَّهُ رِزْقًا لِأَهْلِهِ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ خَاصَّةً، وَذَلِكَ بِعَدَمِ رِضَاهُ بِانْتِفَاعِ الشَّرِيكِ بِهَا؛ فَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا.
قَالَ: (وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بَاعَهُ خَادِمًا، فَجَحَدَ ذَلِكَ الْمُتَفَاوِضَانِ؛ فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيْعَ عَلَى الثَّبَاتِ وَشَرِيكَهُ عَلَى الْعِلْمِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي كَانَ إقْرَارُهُ مُلْزِمًا إيَّاهُمَا، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِرَجَاءِ نُكُولِهِ إلَّا أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيْعَ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى الثَّبَاتِ، وَصَاحِبُهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، فَيَكُونُ يَمِينًا عَلَى الْعِلْمِ.
وَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ قُضِيَ بِالْجَارِيَةِ لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الَّذِي ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ، وَإِقْرَارُ أَحَدِهِمَا مُلْزَمٌ إيَّاهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى تَوْلِيَةً أَوْ شَرِكَةً أَوْ إجَارَةً أَوْ تَسْلِيمَ دَيْنٍ أَوْ تَسْلِيمَ دَارٍ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ فِيمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ فِعْلُ أَحَدِهِمَا كَفِعْلِهِمَا، وَإِقْرَارُ أَحَدِهِمَا مُلْزِمٌ لِلْآخَرِ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَعْوَى الْمُدَّعِي؛ فَإِنْ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْبَتَّةَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآنَ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ أَمْضَى الْأَمْرَ عَلَيْهِمَا.
وَإِنْ ادَّعَى عَلَى ذَلِكَ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ غَائِبٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْحَاضِرَ عَلَى عَمَلِهِ، فَإِنْ حَلَفَ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ أَلْبَتَّةَ كَمَا لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُفَاوَضُ هُوَ الَّذِي ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَحَلَّفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ أَرَادَ شَرِيكُهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ أَيْضًا؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ.
وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا): أَنَّ الْمُفَاوَضَ الْمُدَّعِي يَكُونُ نَائِبًا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ، وَبَعْدَمَا اسْتَحْلَفَ بِخُصُومِهِ الْوَكِيلَ لَا يَسْتَحْلِفُ بِخُصُومَةِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ فِي الِاسْتِحْلَافِ صَحِيحَةٌ.
وَإِذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَيْهِمَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُفَاوَضُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نَائِبًا عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْحَلِفِ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تُجْرَى فِي الْيَمِينِ.
فَلِهَذَا كَانَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَ الْآخَرَ.
(وَالثَّانِي): أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالِاسْتِحْلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ مُفِيدًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا فَلَا يُشْتَغَلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فَاسْتُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِخُصُومَةِ أَحَدِهِمَا؛ فَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِحْلَافِهِ لِخُصُومَةِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا حَلَفَ فِي حَادِثَةٍ لِخُصُومَةِ إنْسَانٍ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْيَمِينِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ لِخُصُومَةِ الْآخَرِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَيْهِمَا وَحَلَفَ أَحَدُهُمَا؛ كَانَ اسْتِحْلَافُ الْآخَرِ مُفِيدًا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ لَا يُبَالِي مِنْ الْيَمِينِ، وَالْآخَرُ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ؛ إذْ النَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْجُرْأَةِ عَلَى الْيَمِينِ.
فَلِهَذَا كَانَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْآخَرَ بَعْدَ مَا حَلَفَ أَحَدُهُمَا لِرَجَاءِ نُكُولِهِ.
قَالَ: (وَإِنْ ادَّعَى عَلَى أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ جِرَاحَةً خَطَأً لَهَا أَرْشٌ وَاسْتَحْلَفَهُ أَلْبَتَّةَ، فَحَلَفَ لَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ شَرِيكَهُ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَلَا خُصُومَةَ لَهُ مَعَ شَرِيكِهِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا لَزِمَهُ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ.
فَأَمَّا مَا يَلْزَمُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ لَا يَكُونُ الْآخَرُ كَفِيلًا بِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَتْ الْجِنَايَةُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الشَّرِيكِ شَيْءٌ مِنْ مُوجَبِهِ، وَلَا خُصُومَةَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَهُ.
فَذَلِكَ لَا يُحَلِّفُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِرَجَاءِ النُّكُولِ وَإِقْرَارُهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى شَرِيكِهِ بَاطِلٌ.
وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ وَالْجُعْلُ فِي الْخُلْعِ، وَالصُّلْحُ مِنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ إذَا ادَّعَاهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَحَلِفُهُ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْآخَرُ؛ لِمَا بَيَّنَّا.
قَالَ: (وَإِنْ ادَّعَى عَلَى أَحَد الْمُتَفَاوِضَيْنِ مَالًا مِنْ كَفَالَةٍ، وَحَوَّلَهُ عَلَيْهِ؛ فَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ شَرِيكَهُ عَلَيْهِ أَيْضًا) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِي قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إذَا كَفَلَ بِمَالٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا: إنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، كَالْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ، وَأَنَّهُ إذَا حَصَلَ مِنْ الْمَرِيضِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِالتِّجَارَةِ دُونَ التَّبَرُّعِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا تَصِحُّ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ، فَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ طَرِيقَانِ (أَحَدُهُمَا): أَنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْمُفَاوَضَةِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يَكُونُ كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا يَكُونُ وَكِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْكَفَالَةِ دَيْنٌ وَاجِبٌ بِمَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْمُفَاوَضَةِ، فَيَكُونُ مُلْزِمًا شَرِيكَهُ.
كَمَا لَوْ تَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا عَنْ إنْسَانٍ بِشِرَاءِ شَيْءٍ كَانَ شَرِيكُهُ مُطَالَبًا بِثَمَنِهِ.
(وَالثَّانِي): أَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَكِنَّهَا إذَا صَحَّتْ انْقَلَبَتْ مُفَاوَضَةً.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفِيلَ يَرْجِعُ بِمَا يُؤَدِّي عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ، وَقَدْ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ هُنَا وَاَلَّذِي كَفَلَ صَارَ مُطَالَبًا بِالْمَالِ، وَلَمَّا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ انْقَلَبَتْ مُفَاوَضَةً، وَمَا يُوجَبُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِمُفَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ يُطَالَبُ بِهَا الشَّرِيكُ كَالدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِالشِّرَاءِ بِخِلَافِ كَفَالَةِ الْمَدْيُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ وَالْمَرِيضِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ أَصْلًا، فَلَا يَكُونُ مُفَاوَضَةً.
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَبَرُّعًا فِي الِابْتِدَاءِ، مُفَاوَضَةً فِي الِانْتِهَاءِ، كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ؛ فَإِنَّهُ تَبَرُّعٌ فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَانَ مُفَاوَضَةً.
وَإِذًا ثَبَتَ أَنَّ كَفَالَةَ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ: (يَحْلِفُ الشَّرِيكُ عَلَى دَعْوَى الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا.
فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْمَالِ، لَوْ ثَبَتَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْبَيِّنَةِ، فَيُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ إذَا أَنْكَرَ- بِخِلَافِ الْمَهْرِ وَالْأَرْشِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ-.
وَإِذَا ثَبَتَ السَّبَبُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَوْ ثَبَتَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُطَالَبًا بِالْمَالِ، فَلَا يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ أَيْضًا.
قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالنَّفْسِ لَمْ يَلْزَمْ شَرِيكَهُ، وَلَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَنْكَرَهُ- بِالِاتِّفَاقِ)-؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ بِحَالٍ، فَحُكْمُهُ مُقْتَصِرٌ عَلَى مَنْ بَاشَرَ سَبَبَهُ؛ لِأَنَّ كَفَالَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِالْمَالِ الَّذِي يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لَا تَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ.