فصل: بابُ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بابُ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ:

قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ عَلَى أَنْ يَحْتَطِبَا الْحَطَبَ يَبِيعَانِهِ، فَمَا بَاعَاهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ كَانَتْ هَذِهِ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً)؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ، فَلَا تَصِحُّ فِيمَا لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ فِيهِ.
وَلَوْ وَكَّلَ إنْسَانًا بِأَنْ يَحْتَطِبَ لَهُ لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ، وَكَانَ الْحَطَبُ الَّذِي لَمْ يَحْتَطِبْ دُونَ الْمُوَكِّلِ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا- فِي الْمَعْنَى- يُوَكِّلُ صَاحِبَهُ بِمُبَاشَرَةِ بَعْضِ ذَلِكَ الْعَمَلِ لَهُ، وَلِأَنَّ الِاحْتِطَابَ اكْتِسَابٌ، وَالِاكْتِسَابُ فِي الْمَحَلِّ الْمُبَاحِ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُكْتَسِبِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَرِطُ لِنَفْسِهِ بَعْضَ كَسْبِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ رَأْسِ مَالٍ، وَلَا ضَمَانَ لَهُ فِيهِ.
أَوْ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْمُفَاوَضِ مَعَ صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا يَكْتَسِبُهُ صَاحِبُهُ، وَهَذَا مُفَاوَضَةٌ فِي الْمَجْهُولِ؛ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا احْتَطَبَ وَثَمَنُهُ إذَا بَاعَ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، فَإِنْ احْتَطَبَ أَحَدُهُمَا، وَأَعَانَهُ الْآخَرُ؛ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الَّذِي احْتَطَبَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ؛ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ الثَّمَنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ فَأَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: قَدْ رَضِيَ هَذَا بِنِصْفِ الْمُسَمَّى، فَيُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ لَهُ حِنْطَةً إلَى مَوْضِعِ كَذَا بِقَفِيزٍ مِنْهَا، فَحَمَلَهَا كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى؛ وَهَذَا لِأَنَّ تَقَدُّمَ الْمَنْفَعَةِ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ وَالتَّسْمِيَةِ؛ إذْ الْمَنَافِعُ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بِغَيْرِ الْعَقْدِ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى لَمْ تُوجَدْ التَّسْمِيَةُ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْمُسَمَّى مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَى: أَيُّ نَوْعٍ مِنْ الْحَطَبِ يُصِيبَانِ؟ وَهَلْ يُصِيبَانِ شَيْئًا أَمْ لَا؟.
وَالرِّضَا بِالْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ، فَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ رِضَاهُ بَقِيَتْ مَنَافِعُهُ مُسْتَوْفَاةً بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، فَإِذَا أَصَابَ شَيْئًا أَوْلَى، بِخِلَافِ حَمْلِ الْحِنْطَةِ، فَإِنَّ الْقَفِيزَ مِنْهَا مَعْلُومٌ؛ فَاعْتُبِرَ رِضَاهُ بِالْمَعْلُومِ؛ فَلِهَذَا لَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى، وَعَلَى هَذِهِ الشَّرِكَةُ فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ، نَحْوَ احْتِشَاشِ الْحَشِيشِ، وَاجْتِنَاءِ الثِّمَارِ مِنْ الْجِبَالِ، وَالْبَرَادِي مِنْ الْجَوْزِ، وَالْفُسْتُقِ، وَغَيْرِهِمَا فَإِذَا عَمِلَا ذَلِكَ، وَخَلَطَاهُ ثُمَّ بَاعَا؛ قُسِمَ الثَّمَنُ عَلَى كَيْلٍ وَوَزْنٍ مَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إنْ كَانَ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مَالِكًا لِمَا أَصَابَهُ.
وَالثَّمَنُ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا يُقْسَمُ عَلَى مَالِيَّةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَمَالِيَّةِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ تُعْرَفُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ؛ فَلِهَذَا قُسِمَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا؛ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ مَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَالِيَّةِ، فِيمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ، بِمَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ.
وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُ مَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الِاكْتِسَابِ- وَقَدْ كَانَ الْمُكْتَسَبُ فِي أَيْدِيهِمَا- وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَعْوَاهُ إلَى النِّصْفِ إنَّمَا يَدَّعِي مَا كَانَ فِي يَدِهِ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي خِلَافَ مَا يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، وَلِأَنَّهُ يَدَّعِي شَيْئًا كَانَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَرْءُ مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ بِدَعْوَاهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ بِنَقْلِ الطِّينِ وَبَيْعِهِ مِنْ أَرْضٍ لَا يَمْلِكَانِهَا، أَوْ الْجِصِّ أَوْ الْمِلْحِ أَوْ الْكُحْلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَجُوزُ؛ فَإِنَّهَا عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَالنَّاسُ فِيهَا سَوَاءٌ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ.
وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ مَا يُلْبِنَانِ مِنْ طِينٍ لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ أَوْ يُطَبِّخَانِهِ آجِرًا، أَوْ يُشْرِكَانِ عَلَى طَلَبِ الْكُنُوزِ، أَوْ عَلَى الِاصْطِيَادِ؛ فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِهِ؛ لِكَوْنِ أَصْلِهِ مُبَاحًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ فِيهِ.
قَالَ: (وَإِنْ كَانَ مِنْ طِينِ النُّورَةِ مَمْلُوكًا، فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا مِنْهُ، وَيَطْحَنَاهُ؛ فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا رَأْسُ مَالٍ؛ فَهُوَ شَرِكَةُ الْعَنَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَهُوَ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فِي هَذَا النَّوْعِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ سَهْلَةُ الزُّجَاجِ: إذَا اشْتَرَكَا عَلَى شَيْءٍ يَشْتَرِيَانِهِ مِنْ ذَلِكَ؛ جَازَ.
وَإِنْ اشْتَرَكَا عَلَى شَيْءٍ لَا يَشْتَرِيَانِهِ بَلْ هُوَ مُبَاحُ الْأَصْلِ؛ فَهُوَ فَاسِدٌ لِمَا قُلْنَا.
وَإِذَا اشْتَرَكَا فِي الِاصْطِيَادِ- فَنَصَبَا شَبَكَةً أَوْ أَرْسَلَا كَلْبًا لَهُمَا-؛ فَالصَّيْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْمِلْكِ- وَهُوَ الِاصْطِيَادُ-.
وَإِنْ كَانَ الْكَلْبُ لِأَحَدِهِمَا فَأَرْسَلَاهُ جَمِيعًا؛ فَالصَّيْدُ لِصَاحِبِ الْكَلْبِ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبٌ، فَأَرْسَلَ كُلُّ وَاحِدٍ كَلْبَهُ، فَإِنْ أَصَابَ كُلُّ كَلْبٍ صَيْدًا عَلَى حِدَةٍ؛ كَانَ ذَلِكَ الصَّيْدُ لِصَاحِبِهِ، وَإِنْ أَصَابَا صَيْدًا وَاحِدًا؛ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا صَيْدًا، فَأَثْخَنَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ، فَأَعَانَهُ؛ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْكَلْبِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ أَثْخَنَهُ، حَتَّى جَاءَ الْآخَرُ، فَأَثْخَنَاهُ؛ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ إذَا وُجِدَ مِنْ صَاحِبِ الْكَلْبِ فَقَدْ تَمَّ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْمِلْكِ- وَهُوَ الِاصْطِيَادُ- وَالْآخَرُ مُعِينٌ لَهُ فِي ذَلِكَ.
قَالَ: (وَإِذَا أَرْسَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبَهُ، فَإِنْ أَصَابَا صَيْدًا وَاحِدًا فَقَدْ اسْتَوَى الْمَالِكَانِ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ أَصَابَهُ أَحَدُ الْكَلْبَيْنِ، فَأَثْخَنَهُ؛ فَقَدْ تَمَّ أَخْذُهُ)؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ- بِفِعْلِهِ- مِنْ أَنْ يَكُونَ صَيْدًا، وَإِنْ أَثْخَنَاهُ جَمِيعًا؛ فَقَدْ تَقَرَّرَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي السَّبَبِ؛ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ، وَلِلْآخَرِ بَعِيرٌ عَلَى أَنْ يُؤَاجِرَا ذَلِكَ، فَمَا رَزَقَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ فَهَذَا فَاسِدٌ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمَعْنَى مُوَكِّلٌ لِصَاحِبِهِ بِأَنْ يُؤَاجِرَ دَابَّتَهُ؛ لِيَكُونَ نِصْفُ الْأَجْرِ لَهُ، وَهَذَا التَّوْكِيلُ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: أَجِّرْ دَابَّتَك عَلَى أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْأَجْرِ لِي؛ كَانَ بَاطِلًا، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْأَجْرِ لِي؛ وَهَذَا لِأَنَّ بَدَلَ الْمَنْفَعَةِ يُعْتَبَرُ بِبَدَلِ الْعَيْنِ.
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: بِعْ دَابَّتَك، عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ ثَمَنِهَا لِي؛ كَانَ بَاطِلًا، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَصِحُّ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ، وَالْمَعْنَى فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّوْكِيلَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ مُبَاشَرَتَهُ قَبْلَ التَّوْكِيلِ، وَالْمَالِكُ يَبِيعُ دَابَّتَهُ وَيُؤَاجِرُهَا قَبْلَ التَّوْكِيلِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ يَمْلِكُ عِنْدَ الْمُبَاحِ قَبْلَ التَّوْكِيلِ؛ فَلِهَذَا بَطَلَ التَّوْكِيلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَيْنِ نَظَرُ الْغَبْنِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْعُرُوضِ لَا تَصِحُّ، فَإِنْ أَجَّرَهُمَا جَمِيعًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فِي عَمَلٍ مَعْلُومٍ؛ قُسِمَ الْأَجْرُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِثْلِ أَجْرِ الْبَغْلِ، وَأَجْرِ الْبَعِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ لِلدَّابَّتَيْنِ، وَأَجْرُ الْمِثْلِ فِي الْمَنْفَعَةِ كَالْقِيمَةِ فِي الْعَيْنِ، فَكَمَا لَوْ بَاعَا الدَّابَّتَيْنِ قُسِمَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ إذَا أَجَّرَهُمَا، وَلَوْ تَقَبَّلَا حُمُولَةً مَعْلُومَةً بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، وَلَمْ يُؤْجَرْ الْبَغْلُ، وَالْبَعِيرُ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ أَجَّرَ الْبَعِيرَ بِعَيْنِهِ كَانَ الْأَجْرُ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَنْفَعَةِ دَابَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَعَانَهُ عَلَى الْحُمُولَةِ وَالنُّقْلَانِ؛ كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ الْأَجْرِ الَّذِي أَجَّرَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَهَذِهِ وَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى سَوَاءٌ.
قَالَ: (وَلَيْسَتْ الشَّرِكَةُ فِي إجَارَةِ الدَّوَابِّ بِأَعْيَانِهَا مِثْلَ الشَّرِكَةِ فِي عَمِلَ أَيْدِيهِمَا بِأَدَائِهِمَا)، حَتَّى إذَا اشْتَرَكَ قَصَّارَانِ، لِأَحَدِهِمَا أَدَاةُ الْقَصَّارِينَ، وَلِلْآخَرِ بَيْتٌ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا بِأَدَاةِ هَذَا فِي بَيْتِ هَذَا، عَلَى أَنَّ الْكَسْبَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ تَقَبُّلِ الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ بِالتَّقَبُّلِ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالتَّوْكِيلُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ.
وَهُنَا اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الدَّابَّةِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَصًّا بِمِلْكِ مَنْفَعَةِ دَابَّتِهِ؛ لَمْ يَجُزْ لِلشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِيهِمَا.
قَالَ: (وَلَوْ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ، لِأَحَدِهِمَا دَابَّةٌ، وَلِلْآخَرِ إكَافٌ وَجَوَالِيقُ، عَلَى أَنْ يُؤَاجِرَ الدَّابَّةَ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ فَهَذِهِ شَرِكَةٌ فَاسِدَةٌ)؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ بِطَرِيقِ اعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ بِالْعَيْنِ، وَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي مِثْلِهِ لَا يَصِحُّ، فَإِنْ أَجَّرَ الدَّابَّةَ؛ كَانَ الْأَجْرُ لِصَاحِبِهَا، وَلَا يُقْبَلُ مَعَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الدَّابَّةِ، فَإِنَّ الْحَمْلَ عَلَى الدَّابَّةِ هُوَ الْمَقْصُودُ، فَأَمَّا الْإِكَافُ، وَالْجَوَالِيقُ يَتَأَتَّى الْحَمْلُ بِدُونِهِمَا، فَلَا يُقَابِلُهُمَا شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ؛ فَكَانَ الْأَجْرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَقَدْ أَعَانَهُ الْآخَرُ بِنَفْسِهِ وَأَدَائِهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ؛ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ أَجْرِ الدَّابَّةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ: (رَجُلٌ دَفَعَ دَابَّتَهُ إلَى رَجُلٍ يُؤَجِّرُهَا عَلَى أَنَّ مَا أَجَّرَهَا بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ فَهَذِهِ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةٌ)؛ اعْتِبَارًا لِلْعَقْدِ الْوَارِدِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ بِهِ بِالْعَقْدِ الْوَارِدِ عَلَى الدَّيْنِ.
وَلَوْ دَفَعَ الدَّابَّةَ إلَيْهِ لِيَبِيعَهَا عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ كَانَ فَاسِدًا، فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ، وَالْأَجْرُ كُلُّهُ لِرَبِّ الدَّابَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ وَكِيلُهُ فِي إجَارَتِهَا، وَإِجَارَةُ الْوَكِيلِ كَإِجَارَةِ الْمُوَكِّلِ، وَلِلَّذِي أَجَّرَهَا أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ ابْتَغَى عَنْ مَنَافِعِهَا عِوَضًا، وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ لِفَسَادِ الْعَقْدِ؛ فَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ.
وَكَذَلِكَ السَّفِينَةُ وَالْبَيْتُ بِمَنْزِلَةِ الدَّابَّةِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ: (وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَابَّةً يَبِيعُ عَلَيْهَا الْبُرَّ وَالطَّعَامَ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ فَهَذِهِ شَرِكَةٌ فَاسِدَةٌ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ)؛ فَإِنَّ رَأْسَ مَالِ أَحَدِهِمَا عَرَضٌ، وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ مَنْفَعَةُ دَابَّتِهِ، فَإِذَا فَسَدَتْ شَرِكَتُهُ فَالرِّبْحُ لِصَاحِبِ الْبُرِّ وَالطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ فَإِنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا بَدَلَ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أَجْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ عِوَضًا عَنْ مَنْفَعَةِ دَابَّتِهِ، وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ الْعِوَضَ؛ فَاسْتَوْجَبَ أَجْرَ الْمِثْلِ عَلَى مَنْ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهَا بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ.
وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ وَالسَّفِينَةُ فِي هَذِهِ كَالدَّابَّةِ اعْتِبَارًا لِمَنْفَعَةِ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.كِتَابُ الصَّيْدِ:

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ الِاصْطِيَادَ مُبَاحٌ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وَأَدْنَى دَرَجَاتِ صِفَةِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} الْآيَةَ، وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ} فَعَلَى هَذَا بَيَانُ أَنَّ الِاصْطِيَادَ مُبَاحٌ مَشْرُوعٌ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ فَسَبَبُهُ يَكُونُ مَشْرُوعًا، وَهُوَ نَوْعُ اكْتِسَابٍ وَانْتِفَاعٍ بِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِذَلِكَ فَكَانَ مُبَاحًا، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الصَّيْدُ مَأْكُولَ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ لِمَا فِي اصْطِيَادِهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ بِجِلْدِهِ أَوْ دَفْعِ أَذَاهُ عَنْ النَّاسِ.
وَالْحَيَوَانَاتُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ مِنْهَا مَا لَا دَمَ لَهُ، فَلَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا السَّمَكَ، وَالْجَرَادَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ تَنَاوُلِ الْحَيَوَانَاتِ الذَّكَاةُ شَرْعًا، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ لَهُ فِيمَا لَا دَمَ لَهُ، إلَّا أَنَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ مُسْتَثْنَى بِالنَّصِّ مِمَّا شُرِطَ فِيهِ الذَّكَاةُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ أَمَّا الْمَيِّتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» وَمَالَهُ دَمٌ نَوْعَانِ مُسْتَأْنَسٌ، وَمُسْتَوْحِشٌ، فَاَلَّذِي يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ مِنْ الْمُسْتَأْنَسِ بِالِاتِّفَاقِ الْأَنْعَامُ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالدَّجَاجُ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {جَعَلَ لَكُمْ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وَفِيمَا سِوَاهَا مِنْ الْمُتَأَنَّسِ نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْمُسْتَوْحَشُ نَوْعَانِ: مِنْهَا صَيْدُ الْبَحْرِ لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهَا سِوَى السَّمَكِ، وَمِنْهَا صَيْدُ الْبَرِّ، وَيَحِلُّ تَنَاوُلُهَا إلَّا مَا لَهُ نَابٌ أَوْ مِخْلَبٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ وَلِمَعْنَى الْخُبْثِ فِيهِمَا، فَإِنَّ مِنْ طَبْعِهِمَا الِاخْتِطَافَ وَالِانْتِهَابَ، فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ أَثَرِ ذَلِكَ فِي خُلُقِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْغِذَاءِ مِنْ الْأَثَرِ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُرْضِعُ لَكُمْ الْحَمْقَاءُ، فَإِنَّ اللَّبَنَ يُعْدِي» وَالْمُسْتَخْبَثُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} وَلِهَذَا حَرَّمَ تَنَاوُلَ الْحَشَرَاتِ، فَإِنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ طَبْعًا، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَنَا أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} فَقَدْ أَكْرَمَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الْخِطَابِ حَيْثُ خَاطَبَهُمْ بِمَا خَاطَبَ بِهِ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ} الْآيَةَ.
ثُمَّ شَرَطَ حِلَّ التَّنَاوُلِ مِنْهَا فِيمَا يَحِلُّ مِنْهَا بِالذَّكَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} وَزَعَمَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الذَّبْحَ وَالتَّذْكِيَةَ مَحْظُورٌ بِالْعَقْلِ لِمَا فِيهَا مِنْ إيلَامِ الْحَيَوَانِ، وَهَذَا عِنْدِي بَاطِلٌ فَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَنَاوَلُ مِنْ اللَّحْمِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ» وَلَا يُظَنُّ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَاوَلُ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَ بِاسْمِ الْأَصْنَامِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ وَيَصْطَادُ بِنَفْسِهِ، وَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَا هُوَ مَحْظُورٌ عَقْلًا كَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَالسَّفَهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ قَطُّ، ثُمَّ فِي الذَّبْحِ وَالِاصْطِيَادِ تَحْصِيلُ مَنْفَعَةِ الْغِذَاءِ لِمَنْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ الْآدَمِيُّ.
فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا مُبَاحًا إلَيْهِ، وَأَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وَالْإِيلَامُ لِهَذَا الْمَقْصُودِ، فَلَا يَكُونُ مَحْظُورًا عَقْلًا كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ مَنْدُوبٌ، وَشُرْبُ الْأَدْوِيَةِ الْكَرِيهَةِ فِي وَقْتِهَا.
وَالذَّكَاةُ لُغَةً التَّوَقُّدُ، وَالتَّلَهُّبُ الَّذِي يَحْدُثُ فِي الْحَيَوَانِ بِحِدَّةٍ لِأَدِلَّةٍ سُمِّيَتْ الشَّمْسُ ذَكَاءً لِشِدَّةِ الْحَرَارَةِ، وَسُمِّيَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي خَاطِرِهِ حِدَّةٌ ذَكِيًّا، فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الذَّكَاةِ لِتَطْيِيبِ اللَّحْمِ بِهِ، فَإِنَّهُ نَوْعُ نُضْجٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُذَكَّى أَطْيَبَ لَحْمًا مِنْ الْمَيْتَةِ وَأَبْعَدَ مِنْ النَّسِيسِ وَالْفَسَادِ، وَقِيلَ: الذَّكَاةُ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْيِيلِ الدَّمِ الْفَاسِدِ النَّجِسِ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ فِي الْحَيَوَانِ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جُمْلَةِ الْمُحَرَّمَاتِ: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} فَكَانَتْ الذَّكَاةُ إزَالَةً لِلْخُبْثِ، وَتَطْيِيبًا بِتَمْيِيزِ الطَّاهِرِ مِنْ النَّجَسِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: الذَّبْحُ فِي الْمَذْبَحِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ»، وَبِالْجُرْحِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ ثُمَّ يَحْصُلُ بَعْضُ ذَلِكَ بِالْجَرْحِ وَالتَّكْلِيفِ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الذَّبْحُ فِي الْمَذْبَحِ مَقْدُورًا لَهُ لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ إلَّا بِهِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَعَذَّرَ يَقُومُ الْجُرْحُ مَقَامَهُ.
ثُمَّ حِلُّ التَّنَاوُلِ بِالِاصْطِيَادِ مُخْتَصٌّ بِشَرَائِطَ: (أَحَدُهَا) أَنْ يَكُونَ مَا يَصْطَادُ بِهِ مُعَلَّمًا.
(وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ جَارِحًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِمَّا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} وَفِي مَعْنَى الْجَوَارِحِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ يَكُونَ جَارِحًا حَقِيقَةً بِنَابِهِ وَمِخْلَبِهِ، (وَالثَّانِي) الْكَوَاسِبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} أَيْ كَسَبْتُمْ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهَا فَنَقُولُ: الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْكَوَاسِبِ الَّتِي تَخْرُجُ.
(وَالثَّالِثُ) الْإِرْسَالُ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «وَإِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، وَإِنْ شَارَكَ كَلْبُكَ كَلْبَ آخَرَ فَلَا تَأْكُلْ».
فَلَمَّا حَرُمَ التَّنَاوُلُ عِنْدَ عَدَمِ الْإِرْسَالِ فِي أَحَدِ الْكَلْبَيْنِ دَلَّ أَنَّ الْإِرْسَالَ فِي ذَلِكَ شَرْطٌ، وَلِأَنَّ التَّذْكِيَةَ إنَّمَا تَكُونُ مُوجِبًا لِلْحِلِّ إذَا حَصَلَ مِنْ الْآدَمِيِّ، فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِ آلَةِ الصَّيْدِ نَائِبًا عَنْ الْآدَمِيِّ لِيَحْصُلَ الْحِلُّ بِفِعْلِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِرْسَالِ، وَاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ مُعَلَّمًا لِتَحَقُّقِ الْإِرْسَالِ فِيهِ.
(وَالرَّابِعُ) التَّسْمِيَةُ.
(وَالْخَامِسُ) إمْسَاكُهُ عَلَى صَاحِبِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ مُفِيدٌ لِلْوُجُوبِ، وَلَا يَجِبُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْأَكْلِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ.
(وَالسَّادِسُ) أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ مِمَّا يُبَاحُ تَنَاوُلُهُ، وَيَكُونُ مُمْتَنِعًا وَمُسْتَوْحِشًا.
(وَالسَّابِعُ) أَنْ لَا يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ أَوْ لَا يَقْعُدَ عَنْ طَلَبِهِ حَتَّى يَجِدَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَابَ عَنْ بَصَرِهِ، فَلَا يَدْرِي لَعَلَّ مَوْتَهُ كَانَ بِسَبَبٍ آخَرَ سِوَى جُرْحِ مَا أَرْسَلَهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ: كُلْ مَا أَمَمْتَ، وَدَعْ مَا أَيْمَنْتَ وَالْإِمَاءُ مَا رَأَيْتَهُ، وَالْإِيمَاءُ مَا غَابَ عَنْكَ، وَإِذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ، فَلَا يَدْرِي لَعَلَّهُ لَوْ تَبِعَهُ وَقَعَ فِي يَدِهِ حَيًّا، وَقَدَرَ عَلَى ذَبْحِهِ فِي الْمَذْبَحِ، وَتَرْكُ ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ فِي الصَّيْدِ لَعَلَّ وَعَسَى أَنْ لَا يَحِلَّ تَنَاوُلُهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «إذَا وَقَعَتْ رَمْيَتُكَ فِي الْمَاءِ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَنَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمَكَ» إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: كَمَا يُشْتَرَطُ فِيمَا أَرْسَلَهُ الصَّيَّادُ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا فَكَذَلِكَ فِيمَا يُرْمَى بِهِ، وَبِهَا الْكِتَابُ بِبَيَانِهِ مَرْوِيٌّ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا خُرِقَ الْمِعْرَاضُ فَكُلْ، وَإِذَا لَمْ يَخْرِقْ فَلَا تَأْكُلْ، وَالْمِعْرَاضُ سَهْمٌ لَا نَصْلَ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَأْسُهُ مُحَدَّدًا، وَقِيلَ: سَهْمٌ لَا رِيشَ لَهُ فَرُبَّمَا يُصِيبُ السَّهْمُ عَرْضًا يَنْدَقُّ وَلَا يَخْرُجُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ «مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَجَرَحَ فَكُلْ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ، فَلَا تَأْكُلْ» وَالْحَرَقُ هُوَ الْخَرَقُ إلَّا أَنَّ لَفْظَةَ الْحَرَقِ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا حَيَاةَ لَهُ، كَالثَّوْبِ وَنَحْوِهِ، وَلَفْظَةُ الْخَرَقِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْحَيَوَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ تَسْيِيلِ الدَّمِ النَّجِسِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ إذَا خُرِقَ، وَلَا يَحْصُلُ إذَا دُقَّ وَلَمْ يُخْرَقْ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْمَوْقُوذَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ، وَذُكِرَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: كَانَتْ لِبَعْضِ أَهْلِ الْحَيِّ نَعَامَةٌ فَضَرَبَهَا إنْسَانٌ فَوَقَذَهَا فَأَلْقَاهَا عَلَى كُنَاسَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ فَسَأَلْنَا سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ: ذَكُّوهَا وَكُلُوهَا، وَبِهِ نَقُولُ، فَإِنَّ الْمَوْقُوذَةَ إذَا أَدْرَكَ ذَكَاتَهَا جَازَ تَنَاوُلُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} وَلِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجِسِ، وَمِنْهُ دَلِيلُ إبَاحَةِ تَنَاوُلِ النَّعَامَةِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْكَلْبِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَقَالَ: كُلْ، وَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُضْرَبُ حَتَّى يَتْرُكَ الْأَكْلَ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا: الْكَلْبُ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ الَّذِي أَخَذَهُ يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَحْرُمُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَالَ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ: كُلْ وَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ»، وَلِأَنَّهُ تَنَاوَلَ اللَّحْمَ دُونَ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الصَّيْدَ أَوَّلًا فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَيْدًا وَتَنَاوُلُ الْكَلْبِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ لَا يَحْرُمُ مَا بَقِيَ مِنْهُ عَلَى صَاحِبِهِ، كَمَا لَوْ فَتَّشَ فِي مِخْلَاةِ صَاحِبِهِ وَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الْقَدِيدِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وَحِينَ أَكَلَ مِنْهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى صَاحِبِهِ حِينَ لَا يَتْرُكُهُ حَتَّى يَشْبَعَ مِنْهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ ثُمَّ انْتَسَخَ أَوْ مُرَادُهُ إذَا وَلَغَ فِي دَمِ الصَّيْدِ، وَعِنْدَنَا ذَلِكَ الْقَدْرُ لَا يُحَرِّمُ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ثُبُوتَ الْحِلِّ بِفِعْلِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهِ، وَيَنْعَدِمُ ذَلِكَ إذَا أَكَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ سَعْيَهُ كَانَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ انْعَدَمَ الْإِرْسَالُ أَصْلًا.
(ثُمَّ) ذَكَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْبَازِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ وَيَأْكُلُ مِنْهُ قَالَ: كُلْ، وَقَالَ: تَعْلِيمُ الْبَازِي أَنْ تَدْعُوَهُ فَيُجِيبَكَ، وَلَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَضْرِبَهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْأَكْلَ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْبَازِي وَالْكَلْبُ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ لَا يَحِلُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يُمْسِكُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ جُثَّةَ الْكَلْبِ تَحْتَمِلُ الضَّرْبَ فَيُمْكِنُ أَنْ يُضْرَبَ لِيَدَعَ الْأَكْلَ، وَجُثَّةُ الْبَازِي لَا تَحْتَمِلُ الضَّرْبَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ.
(وَالثَّانِي) أَنَّ الْكَلْبَ أُلُوفٌ، وَعَلَامَتُهُ عِلْمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِطَبْعِهِ، وَإِجَابَتُهُ صَاحِبَهُ إذَا دَعَاهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِطَبْعِهِ، فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِهِ.
بَلْ يَكُونُ عَلَّامَةَ عِلْمِهِ تَرْكُ الْأَكْلِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ طَبْعِهِ، فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا، وَالشَّرْطُ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا، وَالْبَازِي مُنَفِّرٌ فَأَجَابَتْهُ صَاحِبَهُ إذَا دَعَاهُ خِلَافُ طَبْعِهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ عَلَامَةَ عِلْمِهِ دُونَ تَرْكِ الْأَكْلِ، فَهُوَ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ، فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ، وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ، فَإِنَّهُ مُسْتَوْحِشٌ كَالْبَازِي، ثُمَّ الْحُكْمُ فِيهِ وَفِي الْكَلْبِ سَوَاءٌ فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْكَلْبِ يَشْرَبُ مِنْ دَمِ الصَّيْدِ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الصَّيْدِ، وَبِهِ نَأْخُذُ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: يَحْرُمُ بِذَلِكَ لِأَنَّ دَمَ الصَّيْدِ جُزْءٌ مِنْهُ كَلَحْمِهِ فَتَبَيَّنَ شُرْبُهُ مِنْ دَمِهِ أَنَّهُ أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذَا دَلِيلُ حَذْقِهِ فِي كَوْنِهِ مُعَلَّمًا؛ لِأَنَّهُ شَرِبَ مَا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ، وَأَمْسَكَ عَلَيْهِ مَا يَعْلَمُ رَغْبَتَهُ فِيهِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ عِلْمِهِ، وَإِمْسَاكه عَلَى صَاحِبِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَلَا يَحْرُمُ تَنَاوُلُ الصَّيْدِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كَلْبِ الْمَجُوسِيِّ أَوْ بَازِيهِ يَصِيدُ بِهِ الْمُسْلِمُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الصَّيَّادَ مُرْسِلُ الْكَلْبِ لَا مَالِكُ الْكَلْبِ، وَمُرْسِلُ الْكَلْبِ مُسْلِمٌ مِنْ أَهْلِ التَّسْمِيَةِ، وَالْكَلْبُ آلَةُ الِاصْطِيَادِ فَاصْطِيَادُ الْمُسْلِمِ بِهِ يُوجِبُ الْحِلَّ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَجُوسِيِّ فَهُوَ كَاصْطِيَادِهِ بِقَوْسِهِ وَسَهْمِهِ (وَعَنْهُ) فِي الرَّجُلِ يُرْسِلُ كَلْبَهُ فَيَذْهَبُ مَعَهُ كَلْبٌ آخَرُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ الصَّيْدَ وَيَأْخُذُ الصَّيَّادَ مَعَهُ قَالَ: لَا يُؤْكَلُ، وَبِهِ نَأْخُذُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «وَإِنْ شَارَكَ كَلْبَكَ كَلْبٌ آخَرُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِكَ» وَلِأَنَّ إرْسَالَ الْكَلْبِ مِنْ شَرَائِطِهِ الْحِلُّ، وَانْعِدَامُهُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ، وَالصَّيْدُ صَارَ مَأْخُوذًا بِالْكَلْبَيْنِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ مُوجِبُ الْحِلِّ، وَمُوجِبُ الْحُرْمَةِ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ».
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: مَنْ رَمَى صَيْدًا فَتَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَلَا يَأْكُلْهُ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ التَّرَدِّي قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَى طَيْرًا فَوَقَعَ فِي مَاءٍ فَلَا تَأْكُلْهُ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَقُ قَتَلَهُ، وَبِهِ نَأْخُذُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «إذَا وَقَعَتْ رَمْيَتُكَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَنَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ أَمْ سَهْمُكَ» وَلِأَنَّ التَّرَدِّي وَجَبَ لِلْحُرْمَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ جُمْلَةَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَرَدِّيَةِ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ مَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ وَمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُرْمَةِ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ رَمَى طَيْرًا فِي الْهَوَاءِ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَمَاتَ، فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ فَيَكُونُ عَفْوًا، وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، بِخِلَافِ الْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ وَالتَّرَدِّي مِنْ مَوْضِعٍ، فَإِنَّهُ يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ طَيْرُ الْمَاءِ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ طَيْرَ الْمَاءِ يَعِيشُ فِي الْمَاءِ غَيْرَ مَجْرُوحٍ، فَأَمَّا بَعْدَ الْجُرْحِ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ قَاتِلًا لَهُ، كَمَا يُتَوَهَّمُ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَبَحَ شَاةً، وَتَرَدَّى بَعْدَ الذَّبْحِ مِنْ مَوْضِعٍ، أَوْ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ ذَكَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَإِنَّهُ يُحَادِي بِالْمَوْتِ عَلَيْهِ دُونَ مَا يَتَعَرَّضُ بَعْدَهُ، فَأَمَّا الرَّمْيُ لَيْسَ بِزَكَاةٍ مُسْتَقِرَّةٍ، حَتَّى إذَا وَقَعَ الصَّيْدُ فِي يَدِ الرَّامِي حَيًّا لَمْ يَحِلَّ إلَّا بِالذَّبْحِ؛ فَلِهَذَا كَانَ التَّرَدِّي مِنْ الْجَبَلِ، وَالْوُقُوعُ فِي الْمَاءِ مُحَرِّمًا لَهُ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ شَيْءٍ كَانَ قَوْمِي يَصِفُونَهُ بِالْبَادِيَةِ يَنْصِبُونَ السِّنَانَ فَيُصْبِحُ وَقَدْ قَتَلَ الضَّبُعَ، فَقَالَ لِي: وَإِنَّكَ مِمَّنْ يَأْكُلُ الضَّبُعَ.
؟ قُلْتُ: مَا أَكَلْتُهَا قَطُّ، فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: حَدَّثَنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي خَطْفَةٍ وَنُهْبَةٍ وَمُجَثَّمَةٍ وَعَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ» فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَدَقْتَ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الضَّبُعَ غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الضَّبُعِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ: يُؤْكَلُ لَحْمُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقِيلَ: أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ» وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَمِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ» وَلِأَنَّهُ ذُو نَابٍ يُقَاتِلُ بِنَابِهِ، فَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالذِّئْبِ، وَتَأْثِيرُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ الْقَصْدِ إلَى الْأَذَى وَالْبَلَادَةِ، فَيَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} وَحَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنْ صَحَّ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ الِابْتِدَاءِ ثُمَّ انْتَسَخَ بِنُزُولِ الْآيَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ شَرْعًا فَمَا يُرْوَى مِنْ الْحِلِّ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الضَّبُعَ صَيْدٌ بِحَسَبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ، وَعِنْدَهُ لِأَنَّهُ مَأْكُولُ اللَّحْمِ، فَأَمَّا مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَالْمُرَادُ بِالْخَطْفِ مَا يَخْتَطِفُ بِمِخْلَبِهِ مِنْ الْهَوَاءِ كَالْبَازِي وَالْعُقَابِ وَالشَّاهِينِ، وَالْمُنْهِبَةُ مَا يَنْتَهِبُ بِنَابِهِ مِنْ الْأَرْضِ كَالْأَسَدِ، وَالذِّئْبِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ، وَفِي ذِكْرِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الْحُرْمَةِ حَتَّى لَا يَسْرِيَ إلَى الْأَكْلِ هَذَا الْخُلُقُ الرَّدِيءُ، وَفِي الْمُحَتَّمَةِ رِوَايَتَانِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالْفَتْحِ مَا يُحْتِمُ عَلَيْهِ الْكَلْبُ فَيَقْتُلُهُ غَمًّا لَا جُرْحًا، فَذَلِكَ الصَّيْدُ حَرَامٌ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الذَّكَاةِ فِيهِ، وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالْكَسْرِ مَا يُحْتِمُ عَلَى الصَّيُودِ كَالذِّئْبِ وَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ «وَعَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ» مَا يَقْصِدُ بِنَابِهِ، وَيَدْفَعُ بِهِ، فَأَمَّا أَصْلُ النَّابِ يُوجَدُ لِكُلِّ صَيْدٍ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُحَرَّمَ مَا بَيَّنَّا.
، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ كُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ، وَمَا أَكَلَ الْجِيَفَ، وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ كَالْفِرَاقِ وَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ مُسْتَخْبَثٌ طَبْعًا فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ}.
(وَعَنْ) هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَكْلِ الْغُرَابِ فَقَالَ: وَمَنْ يَأْكُلُهُ بَعْدَ مَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسِقًا» يُرِيدُ بِهِ الْحَدِيثَ الْمَعْرُوفَ «خَمْسُ فَوَاسِقَ يَقْتُلُهُمْ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» وَذَكَرَ الْغُرَابَ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ، وَأَمَّا الْغُرَابُ الزَّرْعِيُّ الَّذِي يَلْتَقِطُ الْحَبَّ فَهُوَ طَيِّبٌ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْبَثٍ طَبْعًا، وَقَدْ يَأْلَفُ الْآدَمِيَّ كَالْحَمَامِ فَهُوَ وَالْعَقْعَقُ سَوَاءٌ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْعَقْعَقِ، فَإِنْ كَانَ الْغُرَابُ بِحَيْثُ يَخْلِطُ فَيَأْكُلُ الْجِيَفَ تَارَةً وَالْحَبَّ تَارَةً فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ.
(وَعَنْ) أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى قِيَاسِ الدَّجَاجَةِ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا، وَقَدْ أَكَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهِيَ قَدْ تَخْلِطُ أَيْضًا، وَهَذَا لِأَنَّ مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ فَلَحْمُهُ يَنْبُتُ مِنْ الْحَرَامِ فَيَكُونُ خَبِيثًا عَادَةً، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا يَخْلِطُ.
وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَنْ تُنْخَعَ الشَّاةُ إذَا ذُبِحَتْ» وَبِهِ نَأْخُذُ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يُبَالِغَ الذَّابِحُ بِالذَّبْحِ حَتَّى يَبْلُغَ بِالسِّكِّينِ النُّخَاعَ، وَالنُّخَاعُ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي عَظْمِ الرَّقَبَةِ، وَفِي هَذَا زِيَادَةُ إيلَامٍ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، وَالشَّرْعُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّبْغَانِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأُحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأُحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَلْيَحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» وَالنَّخْعُ لَيْسَ مِنْ الْإِحْسَانِ فِي شَيْءٍ، وَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَرُوِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا حَتَّى قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا تَجُرُّوا الْعَجْمَاءَ إلَى مَذْبَحِهَا بِرِجْلِهَا، وَأَحِدُّوا الشَّفْرَةَ، وَأَسْرِعُوا الْمَمَرَّ عَلَى الْأَوْدَاجِ، وَلَا تَحُفُّوا.
(وَعَنْ) مَكْحُولٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ذَبَحَ لَمْ يَنْخَعْ، وَلَمْ يَبْدُ بِسَلْخٍ حَتَّى تَبْرُدَ الشَّاةُ» وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَذْبَحَ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ تَرْكِ التَّرَحُّمِ فِي شَيْءٍ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ جُهَّالُ الْمُتَقَشِّفَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلذَّابِحِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ زِيَادَةِ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ.
(وَعَنْ) عِكْرِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ قَدْ أَضْجَعَ شَاةً وَهُوَ يُحِدُّ الشَّفْرَةَ، وَهِيَ مُلَاحِظَةٌ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَرَدْتَ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ» وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُحِدَّ الشَّفْرَةَ بَيْنَ يَدَيْهَا لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، وَضَرَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ رَآهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالدُّرَّةِ حَتَّى هَرَبَ وَشَرَدَتْ الشَّاةُ وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا وَقَدْ أَخَذَ أُذُنَ شَاةٍ، وَهُوَ يَجُرُّهَا إلَى الْمَذْبَحِ فَقَالَ: «قُدْهَا إلَى الْمَوْتِ قَوْدًا رَفِيقًا» وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «خُذْ سَاقَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ «مَا هِبْت الْبَهَائِمَ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةٍ خَالِقِهَا، وَرَازِقِهَا، وَحَتْفِهَا، وَسِفَادِهَا» فَإِذَا كَانَتْ تَعْرِفُ ذَلِكَ وَهُوَ يُحِدُّ الشَّفْرَةَ بَيْنَ يَدَيْهَا فَفِيهِ زِيَادَةُ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُحِدَّ الشَّفْرَةَ، وَلَكِنَّ الشَّاةَ لَا تَحْرُمُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الذَّكَاةِ، وَهِيَ تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجِسِ مِنْهَا قَدْ وُجِدَ، وَالنَّهْيُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ، وَقَدْ وُجِدَ (وَعَنْ) رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ مَا عَدَا السِّنَّ وَالظُّفْرَ وَالْعَظْمَ فَإِنَّهَا مُدَى الْحَبَشَةِ» وَالْمُرَادُ بَيَانُ آلَةِ الذَّبْحِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلذَّكَاةِ آلَةٌ مُحَدَّدَةٌ يَحْصُلُ بِهَا إنْهَارُ الدَّمِ، وَإِفْرَاءُ الْأَوْدَاجِ، وَالْإِنْهَارُ التَّسْيِيلُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ النَّهْرُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسِيلُ فِيهِ، وَالنَّهَارُ تَجْرِي فِيهِ الشَّمْسُ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْ الْعِبَادِ، وَالْإِفْرَاءُ الْقَطْعُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوْدَاجِ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَالْوَدَجَانِ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الذَّكَاةِ تَمْيِيزُ الطَّاهِرِ مِنْ النَّجِسِ بِتَسْيِيلِ الدَّمِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَالْمُرَادُ بِمَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ السِّنِّ وَالظُّفْرِ الْمُرَكَّبِ؛ لِأَنَّهُ بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ يَصِيرُ قَاتِلًا لَا ذَابِحًا، فَإِنَّهُمَا مِنْهُ، وَآلَةُ الذَّبْحِ غَيْرُ الذَّابِحِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِانْقِطَاعِ الْأَوْدَاجِ بِالْقُوَّةِ لَا بِحِدَّةِ الْآلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّهَا مُدَى الْحَبَشَةِ، وَهُمْ إنَّمَا يُعْتَادُونَ الذَّبْحَ بِسِنِّ أَنْفُسِهِمْ، وَظُفُرِ أَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ يَحْرُمُ بِالِاتِّفَاقِ، فَأَمَّا فِي الذَّبْحِ بِالسِّنِّ الْمَقْلُوعَةِ وَالظُّفُرِ الْمَنْزُوعَةِ وَالْعَظْمِ الْمُنْفَصِلِ إذَا كَانَ مَحْدُودًا اخْتِلَافٌ نُبَيِّنُهُ.