فصل: بَابُ الْعَطِيَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْعَطِيَّةِ:

(وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ قَدْ أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ: فَهِيَ هِبَةٌ صَحِيحَةٌ)؛ لِحَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ لَا، تُعْمِرُوهَا، فَمَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلْمُعْمَرِ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَهُ».
وَرَوَى سَلِمَةُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِالْعُمْرَى لِلْمُعْمَرِ لَهُ وَلِعَقِبِهِ بَعْدَهُ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى قَطَعَ قَوْلُهُ حَقَّهُ يَعْنِي قَطَعَ قَوْلَهُ: وَهَبْت لَك عُمْرَك حَقَّهُ فِي الرُّجُوعِ بَعْدَ مَوْتِهِ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ مَلَكَهُ فِي الْحَالِ، وَالْوَارِثُ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
فَشَرْطُ الرُّجُوعِ إلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَاسِدٌ، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ.
قَالَ: (وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ نَحَلْتُك هَذَا الثَّوْبَ، أَوْ أَعْطَيْتُك هَذَا الثَّوْبَ عَطِيَّةً فَهَذِهِ عِبَارَاتٌ عَنْ تَمْلِيكِ الْعَيْنِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ هِبَةً)، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَدْ كَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} فَالْكَفَّارَةُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِتَمْلِيكِ الثَّوْبِ مِنْ الْمِسْكِينِ.
وَيُقَالُ فِي الْعُرْف: كَسَا الْأَمِيرُ فُلَانًا أَيْ: مَلَّكَهُ.
وَإِنْ قَالَ: حَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ: كَانَتْ عَارِيَّةً لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الدَّابَّةِ إرْكَابٌ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي مَنَافِعِهَا لَا فِي عَيْنِهَا فَتَكُونُ عَارِيَّةً إلَّا أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ: أَرَدْت الْهِبَةَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ يُذْكَرُ لِلتَّمْلِيكِ.
يُقَالُ: حَمَلَ الْأَمِيرُ فُلَانًا عَلَى فَرَسِهِ، أَيْ: مَلَّكَهُ، فَإِذَا نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَدْ أَخْدَمْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَهِيَ عَارِيَّةٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَكَّنْتُك مِنْ أَنْ تَسْتَخْدِمَهَا وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي مَنَافِعِهَا لَا فِي عَيْنِهَا.
وَإِنْ قَالَ: قَدْ مَنَحْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ، أَوْ هَذِهِ الْأَرْضَ فَهِيَ عَارِيَّةٌ لِأَنَّ الْمِنْحَةَ بَدَلَ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ بَدَلٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ».
فَيَكُونُ مَعْنَى كَلَامِهِ: جَعَلْت لَك مَنْفَعَةَ هَذِهِ الْعَيْنِ وَهُوَ نَفْسُ الْعَارِيَّةِ.
فَإِنْ قَالَ: قَدْ أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ غَلَّتَهَا.
وَالرُّقْبَى لِصَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تُطْعَمُ، فَمَعْنَاهُ: أَطْعَمْتُك مَا يَحْصُلُ مِنْهَا فَيَكُونُ تَمْلِيكًا لِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ- دُونَ عَيْنِهَا- وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مَتَى شَاءَ.
يَعْنِي: إذَا كَانَتْ فَارِغَةً.
فَأَمَّا بَعْدَ الزِّرَاعَةِ: إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا، فَإِنْ رَضِيَ الْمُسْتَعِيرُ بِأَنْ يَقْلَعَ زَرْعَهَا وَيَرُدَّهَا: فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَبَى تُرِكَتْ فِي يَدِهِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا إلَى وَقْتِ إدْرَاكِ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُحِقٌّ فِي زِرَاعَتِهِمَا غَيْرُ مُتَعَدٍّ.
فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّهِ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ وَإِنَّمَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ تُتْرَكَ فِي يَدِهِ بِأَجْرٍ إلَى إدْرَاكِ الْغَلَّةِ، وَإِنْ قَالَ: قَدْ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ فَاقْبِضْهُ، فَقَبَضَهُ: فَهَذِهِ هِبَةٌ لِأَنَّ عَيْنَ الطَّعَامِ تُطْعَمُ فَإِضَافَةُ لَفْظَةِ الْإِطْعَامِ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي الْعَيْنِ تَمْلِيكًا بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ هِبَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: جَعَلْت هَذِهِ الدَّارَ لَك، فَاقْبِضْهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ: مَلَّكْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي التَّمْلِيكِ بِبَدَلٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ لَفْظِ الْجُعْلِ، وَالتَّمْلِيكِ فَكَذَلِكَ فِي التَّمْلِيكِ بِغَيْرِ بَدَلٍ.
فَإِنْ قَالَ: دَارِي لَك عُمْرَى سُكْنَى: فَهَذِهِ عَارِيَّةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: سُكْنَى تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: عُمْرَى.
وَالْكَلَامُ الْمُبْهَمُ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ فَالْحُكْمُ لِلتَّفْسِيرِ، وَبَيَانُ هَذَا وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَك عُمْرَى، يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ عَيْنِهَا مِنْهُ عُمْرَهُ، وَيَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ مَنْفَعَتِهَا.
فَكَانَ قَوْلُهُ: سُكْنَى، تَفْسِيرًا، أَيْ: لَك سُكْنَاهَا عُمْرَك، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: نُحْلَى سُكْنَى، وَقَوْلُهُ: هِبَةٌ سُكْنَى، أَوْ سُكْنَى هِبَةٌ، أَوْ سُكْنَى صَدَقَةٌ، فَهَذَا كُلُّهُ عَارِيَّةٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: سُكْنَى، تَفْسِيرٌ لِلْمَحْمَلِ مِنْ كَلَامِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: هِيَ لَك فَاقْبِضْهَا: كَانَتْ هِبَةً، وَلَوْ قَالَ: هِيَ لَك سُكْنَى كَانَتْ عَارِيَّةً، وَجَعَلَ قَوْلَهُ: سُكْنَى تَفْسِيرًا، وَكَذَلِكَ إذَا زَادَ لَفْظَةَ الْعُمْرَى وَالْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ، وَإِنْ قَالَ: هِيَ لَك هِبَةٌ عَارِيَّةٌ، أَوْ هِيَ عَارِيَّةٌ هِبَةٌ: فَهِيَ عَارِيَّةٌ.
قَدَّمَ لَفْظَةَ الْهِبَةَ، أَوْ أَخَّرَهَا؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ هِبَةَ الْعَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ هِبَةَ الْمَنْفَعَةِ.
وَقَوْلُهُ: عَارِيَّةٌ، تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ الْمُبْهَمِ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُحْكَمٌ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَنْفَعَةَ، فَسَوَاءٌ قَدَّمَهُ أَوْ أَخَّرَهُ، فَالْحُكْمُ لَهُ وَإِنْ قَالَ: هِيَ لَك هِبَةٌ إجَارَةٌ كُلُّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ أَوْ إجَارَةٌ هِبَةٌ فَهِيَ إجَارَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْإِجَارَةِ فِي حَقِّ الْمَحَلِّ مُحْكَمٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَنْفَعَةَ، وَلَفْظَةُ الْهِبَةِ تَحْتَمِلُ تَنَاوُلَ الْعَيْنِ تَارَةً، وَالْمَنْفَعَةِ تَارَةً أُخْرَى؛ فَكَانَ الْحُكْمُ لِلَّفْظِ الْمُحْكَمِ قَدَّمَهُ، أَوْ أَخَّرَهُ، وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ تَكُونُ إجَارَةً.
وَإِنْ قَالَ: دَارِي هَذِهِ لَك عُمْرَى تَسْكُنُهَا، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ: فَهِيَ هِبَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا لَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لِقَوْلِهِ: عُمْرَى، فَالْفِعْلُ لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلِاسْمِ، وَلَكِنَّهُ مَشُورَةٌ أَشَارَ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ فَإِنْ شَاءَ: قَبِلَ مَشُورَتَهُ وَسَكَنَهَا، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ، وَهُوَ بَيَانٌ لِمَقْصُودِهِ أَنَّهُ مَلَّكَهُ الدَّارَ عُمْرَهُ لِيَسْكُنَهَا، وَهَذَا مَعْلُومٌ.
وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ التَّمْلِيكِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: هَذَا الطَّعَامُ لَكَ تَأْكُلُهُ، أَوْ هَذَا الثَّوْبُ لَك تَلْبَسُهُ.
قَالَ: (وَإِنْ قَالَ: وَهَبْت لَك الْعَبْدَ- حَيَاتَك وَحَيَاتَهُ- وَقَبَضَهُ: فَهِيَ هِبَةٌ جَائِزَةٌ)؛ لِأَنَّهُ مُلْكَهُ فِي الْحَالِ بِقَوْلِهِ: وَهَبْت لَك.
وَقَوْلُهُ: حَيَاتَك وَحَيَاتَهُ، فَضْلٌ مِنْ الْكَلَامِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ؛ فَكَانَ لَغْوًا، أَوْ فِيهِ إيهَامُ شَرْطِ الرُّجُوعِ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَعْمَرْتُكَ دَارِي هَذِهِ- حَيَاتَك- أَوْ أَعْطَيْتهَا- حَيَاتَك- أَوْ وَهَبْت لَك هَذَا الْعَبْدَ- حَيَاتَك- فَإِذَا مِتَّ فَهِيَ لِي، وَإِذَا مِتّ أَنَا فَهِيَ لِوَرَثَتِي: فَهَذَا كُلُّهُ تَمْلِيكٌ صَحِيحٌ فِي الْحَالِ، وَشَرْطُ الرُّجُوعِ إلَيْهِ أَوْ إلَى الْوَرَثَةِ بَاطِلٌ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هِيَ هِبَةٌ لَك، وَلِعَقِبِك بَعْدَك؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَيْن بِأَوَّلِ كَلَامِهِ، وَذِكْرُ الْعَقِبِ لَغْوٌ وَاشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ عَقِبَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِهِ.
وَإِنْ قَالَ: أَسْكَنْتُك دَارِي هَذِهِ- حَيَاتَك- وَلِعَقِبِك مِنْ بَعْدِك: فَهَذِهِ عَارِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِلَفْظِ الْإِسْكَانِ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ- دُونَ الْعَيْنِ-.
وَقَوْلُهُ: لِعَقَبَتِك بَعْدَك، عَطْفٌ، وَالْعَطْفُ: لِلِاشْتِرَاكِ، فَمَعْنَاهُ: سُكْنَاهَا لِعَقِبِك مِنْ بَعْدِك؛ فَهِيَ هِبَةٌ لَهُ، وَذِكْرُ الْعَقِبِ لَغْوٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: هِيَ لَك تَمْلِيكٌ لِعَيْنِهَا مِنْهُ، وَبَعْدَ مَا هَلَكَ عَنْهَا مِنْهُ لَا يَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ إيجَابِهَا لِغَيْرِهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَلِعَقِبِك مِنْ بَعْدِك لَغْوٌ- بِخِلَافِ الْأَوَّلِ- فَإِنَّ بَعْدَ إيجَابِ الْمَنْفَعَةِ لَهُ بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ يَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ لِغَيْرِهِ، فَكَانَ كَلَامُهُ عَارِيَّةً فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ عَقِبِهِ بَعْدَهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا- مَتَى شَاءَ-.
قَالَ: رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا عَلَى أَنْ يُعْتِقَهُ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ: فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ بَعْدَ تَمَامِ مِلْكِهِ فِي الْمَوْهُوبِ بَاطِلٌ، وَلَكِنَّ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ- كَمَا قُلْنَا-.
قَالَ: رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا مَرِيضًا بِهِ جُرْحٌ، فَدَاوَاهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ؛ فَبَرَأَ: لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِلزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْعَيْنِ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَصَمَّ أَوْ أَعْمَى، فَسَمِعَ وَأَبْصَرَ؛ لِأَنَّهُ زَوَالٌ لِلْعَيْنِ فَزَوَالُهُ يَكُونُ بِوُجُودِ ذَلِكَ الْجُزْءِ وَالزِّيَادَةُ فِي الْعَيْنِ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ كَمَا لَوْ كَانَ مَهْرٌ، وَلَمْ يُسَمَّ.
قَالَ: مَرِيضٌ وَهَبَ عَبْدَهُ لِرَجُلٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَتَبِعَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَأَعْتَقَهُ، أَوْ بَاعَهُ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي فِيهِ بِشَيْءٍ فَعِتْقهُ وَبَيْعُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَحُكْم بِصِحَّتِهِ فِي الْحَالِ؛ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُطْلَقَة لِلتَّصَرُّفِ- وَهُوَ الْمِلْكُ- وَكَوْنُ الْمَانِعِ مُحْتَمَلًا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ: مَرَض الْمَوْتِ وَهُوَ مَا يَتَّصِلُ بِهِ الْمَوْتُ، وَلَا يُدْرَى أَنَّ مَرَضَهُ هَذَا يَتَّصِلُ بِهِ الْمَوْتُ أَمْ لَا، وَالْمَوْهُوبُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَحَقِّقَ فَحَكَمَ بِنُفُوذِ تَصَرُّفه لِهَذَا، وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبْضِ وَإِنَّمَا تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ، وَالْعِتْقِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ الْهِبَةَ فُكَّتْ بِمَوْتِهِ فِي الْبَعْضِ، أَوْ فِي الْكُلِّ، وَفَسَادُ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ عِنْدَ الْقَبْضِ، فَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ- بِطَرِيقِ الْأَوْلَى- إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالرَّدِّ؛ لِاسْتِغْرَاقِ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِالْعَيْنِ، فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ مِلْكُهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ إذَا نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ قِيمَةَ الْعَبْدِ إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ مُسْتَغْرَقٌ لِتَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ، فَيَتَأَخَّرُ عَنْ الدَّيْنِ، وَلَزِمَهُ رَدُّ الْعَيْنِ، لِرَدِّ الْوَصِيَّة، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِإِخْرَاجِهِ إيَّاهُ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ ضَامِنًا قِيمَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَكِنْ لَا مَالَ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ، فَقَدْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي قَدْرِ الثُّلُثَيْنِ مِنْهُ، فَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مُعْسِرًا، وَقَدْ كَانَ أَعْتَقَ الْعَبْدَ، فَلَا سَبِيلَ لِغُرَمَاءِ الْوَاهِبِ وَلَا لِوَرَثَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَزِمَهُ بِاكْتِسَابِ سَبَبِهِ- وَهُوَ الْإِتْلَافُ- وَدِينُ الْحُرِّ الصَّحِيحِ فِي ذِمَّتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمِلْكِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَة بَعْدَ الْعِتْقِ فِي دَيْنٍ كَانَ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّتِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ.
فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمَوْهُوبِ لَهُ إيَّاهُ فِي مَرَضِهِ وَصِيَّةٌ؛ فَيَجِبُ رَدُّهَا لِلدَّيْنِ الْمُسْتَغْرَقِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الرِّقْبَةِ بِالْعِتْقِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ، وَتَكُونُ تِلْكَ الْقِيمَةُ بَيْنَ غُرَمَاءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَغُرَمَاء الْوَاهِبِ يَضْرِبُ فِيهِ غُرَمَاءُ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِدُيُونِهِمْ، وَغُرَمَاء الْوَاهِبِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ- لَا بِدُيُونِهِمْ-؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْقِيمَةَ تَرِكَةُ الْمَوْهُوبِ، فَيُقْسَمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِحَسَبِ دُيُونِهِمْ عَلَيْهِ، وَدَيْن غُرَمَاءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ كَانَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا دَيْنُ غُرَمَاءِ الْوَاهِبِ: أَصْلُهُ كَانَ عَلَى الْوَاهِبِ، وَإِنَّمَا اسْتَوْجَبُوا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ مِقْدَارَ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِإِتْلَافِ مَالِيَّةِ الرِّقْبَةِ عَلَيْهِمْ؛ فَلِهَذَا ضَرَبُوا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، وَتَعَلَّقَ حَقّ الْفَرِيقَيْنِ بِمَالِيَّةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ مَرَضِ الْمَوْتِ لَهُ؛ فَلِهَذَا: لَا يُقَدِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ.
قَالَ: رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا، وَسَلَّمَهُ، فَدَبَرَهُ: فَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ بِالتَّدْبِيرِ يَجِبُ لَهُ حَقُّ الْعِتْقِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ- وَإِنْ كَاتَبَهُ- ثُمَّ عَجَزَ فَرَدَّ رَقِيقًا، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ قِنًّا- كَمَا كَانَ-.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِالْكِتَابَةِ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الرُّجُوعِ، بَلْ يَتَعَذَّرُ لِمَعْنًى فِي الْمَحِلِّ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ: صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.
وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ: فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ، وَالْجِنَايَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَجِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى مَالِكِهِ فِيمَا يُوجِبُ الْمَالَ تَكُونُ هَدَرًا.
وَبِالرُّجُوعِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ حِينَ جَنَى، فَالرُّجُوعُ مِنْ وَجْهٍ يُنْهِي الْمِلْكَ الْمُسْتَفَادَ بِالْهِبَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا الْوَاهِبُ، فَلَا عُقْرَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بَعْدَ رُجُوعِ الْوَاهِبِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ سَلَّمَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بَعْدَ رُجُوعِ الْوَاهِبِ فِيهَا، فَكَذَلِكَ لَا تُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ رُجُوعِ الْوَاهِبِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَرَدَّهُ رَادٌّ: فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ عَيْبٌ، وَالنُّقْصَانُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ، وَالْجُعْلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ مِلْكَهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْجُعَل بِإِحْيَاءِ الْمِلْكِ- بِالرَّدِّ- فَإِذَا أَحْيَاهُ مَلَكَ الْمَوْهُوب لَهُ كَانَ الْجُعْلُ عَلَيْهِ.
قَالَ رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ شَجَرَةً بِأَصْلِهَا، فَقَطَعَهَا: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا.
قَالَ أَبُو عِصْمَةَ: هَذَا غَلَطٌ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: بِأَصْلِهَا: بِعُرُوقِهَا، وَيَأْذَن لَهُ فِي قَطْعِهَا؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الْمَوْهُوبِ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ فِي مَعْنَى الشُّيُوعِ؛ فَلَا تَتِمُّ الْهِبَةُ إلَّا بَعْدَ الْقَطْعِ، وَإِذَا تَمَّتْ الْهِبَةُ فِيهَا وَهِيَ مَقْطُوعَةٌ: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا.
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: بِأَصْلِهَا: بِعُرُوقِهَا مِنْ الْأَرْضِ- وَذَلِكَ مَعْلُومٌ- مُمَيَّزٌ، فَالْهِبَةُ تَمَّتْ فِي الْحَالِ.
ثُمَّ الْقَطْعُ بَعْدَ ذَلِكَ يَجْعَلُ الشَّجَرَةَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ نَامِيَةً، وَقَدْ صَارَتْ حَطَبًا؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: لَوْ قَطَعَهَا فَجَعَلَهَا أَبْوَابًا، أَوْ جُذُوعًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إذَا عَمِلَ فِيهَا شَيْئًا- قَلَّ أَوْ كَثُرَ-؛ لِأَنَّهَا الْآن لَيْسَتْ بِشَجَرَةٍ كَمَا وَهَبَهَا لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي مَوْضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْقَطْعِ فِي الشَّجَرَةِ نُقْصَانٌ- وَإِنْ كَانَ يَزِيدُ فِي مَالِيَّتِهَا-؛ فَهُوَ- بِاعْتِبَارِ رَغَائِبِ النَّاسِ فِيهِ- بِمَنْزِلَةِ الذَّبْحِ فِي الشَّاةِ، وَالنُّقْصَانُ فِي الْمَوْهُوبِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَهَا أَبْوَابًا أَوْ جُذُوعًا: فَذَلِكَ زِيَادَةُ صِفَةٍ حَادِثَةٍ فِي الْمَوْهُوبِ بِفِعْلِ الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ فَيَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ فِيهَا.
قَالَ: وَلَوْ وَهَبَهَا لَهُ بِغَيْرِ أَصْلِهَا وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهَا، فَقَطَعَهَا، وَقَبَضَهَا: كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ جَازَتْ وَهِيَ مَقْطُوعَةٌ، وَفِي الْبَابِ الْأَوَّلِ جَازَ بِالْهِبَةِ وَهِيَ شَجَرَةٌ.
وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عِصْمَةَ: أَنَّهُ بَعْدَ الْقَطْعِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إذَا تَمَّتْ الْهِبَةُ قَبْلَ الْقَطْعِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهَا إذَا كَانَ تَمَامُ الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَطْعِ.
قَالَ: وَإِنْ وَهَبَ لَهُ ثَمَرَةً فِي نَخْلٍ، وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ تَمَامَ الْهِبَةِ إذَا كَانَ مَعْرِضَ الْفَصْلِ.
قَالَ: رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا، فَجَنَى عَبْدُ الْمَوْهُوبِ لَهُ جِنَايَةً بَلَغَتْ قِيمَتُهُ، فَفَدَاهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ: فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ؛ لِأَنَّ بِالْفِدَاءِ يَظْهَرُ عَنْ الْجِنَايَةِ، وَعَادَ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْجِنَايَةِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ فِي عَيْنِهِ زِيَادَةٌ، فَكَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ، وَلَا يَرُدَّ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ فَدَى مِلْكَهُ بِاخْتِيَارِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِالرُّجُوعِ يَنْتَهِي مِلْكُهُ الْمُسْتَفَادُ بِالْهِبَةِ، وَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يَفْدِيَهُ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ يَدْفَعُهُ الْوَاهِبُ بِهَا أَوْ يَفْدِيه؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْجِنَايَةِ نَفْسُ الْعَبْدِ، وَاسْتِحْقَاقُ نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ نُقْصَانٌ فِيهِ، فَلَا يَمْنَع الْوَاهِب مِنْ الرُّجُوعِ، ثُمَّ بِرُجُوعِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يَنْعَدِمُ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلَا يَصِيرُ هُوَ مُسْتَهْلِكًا، وَلَا مُخْتَارًا، وَلَكِنَّ الْجِنَايَةَ تَبْقَى فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ فَيُخَاطَبُ مَالِكه بِالدَّفْعِ، أَوْ الْفِدَاءِ، وَمَالِكُهُ: الْوَاهِبُ فِي الْحَالِ، فَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ، كَمَا لَوْ مَاتَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْجَانِي، فَوَرْثهُ وَارِثهُ.
قَالَ: وَلَوْ وَهَبَهُ ثَوْبًا، فَشَقَّهُ نِصْفَيْنِ، فَخَاطَ نِصْفًا قَبَاءٍ، وَنِصْفهُ الْآخَر عَلَى حَالِهِ: كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الشِّقَّ نُقْصَانٌ فِي الثَّوْبِ، وَخِيَاطَةُ الْقَبَاءِ زِيَادَةٌ فِي النِّصْفِ الَّذِي حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ بِفِعْلِهِ فِيهِ تَعَذُّر الرُّجُوع.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَعَذُّرَ الرُّجُوعِ فِي النِّصْفِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي.
وَإِنْ قَالَ: وَإِنْ وَهَبَ لَهُ شَاةٌ، فَذَبَحَهَا: كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ نُقْصَانٌ فِي الْعَيْنِ؛ فَإِنَّ عَمَلَهُ فِي إزْهَاقِ الْحَيَاةِ.
قَالَ: وَإِنْ ضَحَّى بِهَا أَوْ ذَبَحَهَا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَرْجِعُ فِيهَا، وَتُجْزِئُهُ الْأُضْحِيَّةُ، وَالْمُتْعَةُ لِلذَّابِحِ، وَلَمْ يَذْكُرُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: قَوْلُهُ: كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، أَمَّا مُحَمَّدٌ يَقُولُ: مِلْكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْ عَيْنِهَا، وَالذَّبْحُ نُقْصَانٌ فِيهَا؛ فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيمَا بَقِيَ، كَالشَّاةِ لِلْقَصَّابِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى الْقِرْبَةِ فِي نِيَّتِهِ وَفِعْلِهِ دُونَ الْعَيْنِ، وَالْمَوْجُودُ فِي الْعَيْنِ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى نِيَّة اللَّحْمِ، أَوْ نِيَّةِ الْقِرْبَةِ.
وَاَلَّذِي حَدَثَ فِي الْعَيْنِ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ الشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ التَّصَدُّقِ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ كَرُجُوعِ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ الْمَوْهُوبِ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ هُنَا لَيْسَ بِمُتَحَتِّمِ، حَتَّى يَكُونَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ وَيُطْعِمَ مَنْ شَاءَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ- بِخِلَافِ الزَّكَاةِ- وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ فِي التَّضْحِيَةِ: جَعَلَهَا اللَّهُ- تَعَالَى- خَالِصًا، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ، فَلَا يَرْجِعُ الْوَاهِبُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَرْضًا فَجَعَلَهَا مَسْجِدًا.
وَبَيَانُ قَوْلِنَا: أَنَّ فِي التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ الْمَذْبُوح، أَوْ هَلَكَ: كَانَ مُجْزِئًا عَنْهُ، وَإِبَاحَة التَّنَاوُلِ مِنْهُ بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ بِقَوْلِهِ: تَعَالَيَا أَفْطِرَا مِنْهَا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوز لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَهُوَ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ وَيَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ فَعَلَهُ كَانَ ضَامِنًا، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ تَمَّ مَعْنَى التَّقَرُّبِ بِهِ، فَيَكُون نَظِير هَذَا مِنْ الزَّكَاةِ: مَا إذَا أَدَّاهُ إلَى الْفَقِيرِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْفِعْلُ فِي صُورَةِ ذَبْحِ شَاةِ الْقَصَّابِ وَلَكِنْ فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ غَيْرُهُ وَلَا تُعْتَبَرُ الصُّوَرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الذَّبْحَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَالْمَجُوسِيِّ، وَالتَّضْحِيَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى غَيْر الذَّبْحِ.
ثُمَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ: بِرُجُوعِ الْوَاهِبِ لَا تَبْطُلُ التَّضْحِيَةُ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ فِي الْقَائِمِ دُونَ مَا يُلَاشَى مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرُّجُوعَ يُنْهِي مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ فَإِنَّمَا انْعَدَمَ مِلْكِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَهُوَ فِي حَقِّ نَظِير مَا لَوْ هَلَكَ بَعْدَ الذَّبْحِ.
قَالَ: رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ دِرْهَمًا، فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ وَجَعَلَهُ صَدَقَةً لِلَّهِ تَعَالَى: فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ فِيهِ الصَّدَقَةَ بِنَذْرِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ فِيهِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الزَّكَاةُ؛ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ قَبْضَ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ لَا يُتِمُّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ فِيهِ، (وَكَذَلِكَ) لَوْ وَهَبَ لَهُ نَاقَةً، فَجَعَلَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بَدَنَة، وَقَلَّدَهَا: فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ.
وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ فَقَالَ: بِالتَّقْلِيدِ رَأَيْتُمْ، جَعَلَهَا لِلَّهِ- تَعَالَى- أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَلَّدَهَا عَنْ هَدْيٍ وَاجِبٍ، فَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَهَا: فَإِنَّهُ عَلَيْهِ أُخْرَى- بِخِلَافِ مَا بَعْدَ النَّحْرِ- وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَجْزَاعًا، فَكَسَرَهَا، وَجَعَلَهَا حَطَبًا: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا نُقْصَانٌ فِي الْعَيْنِ- وَإِنْ كَانَ يَزِيدُ فِي الْمَالِيَّةِ، فَذَلِكَ بِزِيَادَةِ رَغَائِبِ النَّاسِ فِيهِ لَا لِمَعْنًى فِي الْعَيْنِ- فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا.
(وَكَذَلِكَ) لَوْ وَهَبَ لَهُ لَبَنَهَا، فَجَعَلَهُ طِينًا: فَهَذَا نُقْصَانٌ، فَإِنْ أَعَادَهُ لَبَنًا لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّبَنَ حَادِثٌ بِفِعْلِهِ، أَوْ ضَرْبُ اللَّبَنِ مِنْ الطِّينِ زِيَادَةٌ فِي عَيْنِهِ، فَإِذَا كَانَ حَادِثًا فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ مَنَعَ ذَلِكَ الْوَاهِبَ مِنْ الرُّجُوعِ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ نَجِيحًا فَجَعَلَهُ خَلًّا: لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْخَلِّ غَيْرُ مَالِيَّةِ النَّجِيحِ، وَهَذِهِ مَالِيَّةٌ حَدَثَتْ بِصَنْعَةٍ حَادِثَةٍ فِي الْعَيْنِ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ.
وَإِنْ وَهَبَ لَهُ سَيْفًا فَجَعَلَهُ سَكَاكِينَ، أَوْ سِكِّينًا: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ السِّكِّينَ غَيْرُ السَّيْفِ.
(وَكَذَلِكَ) إنْ كَسَرَهُ، فَجَعَلَ مِنْهُ سَيْفًا آخَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا الثَّانِي حَادِثٌ بِعِلْمِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا قِيمَةَ السَّيْفِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَيَجْعَل مَا ضَرَبَهُ لَهُ.
قَالَ: وَإِنْ وَهَبَ لَهُ دَارًا، فَبَنَاهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْبِنَاءِ، وَتَرَكَ بَعْضَهَا عَلَى حَالِهَا: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ مَا زَادَ فِي الْبِنَاءِ فِي جَانِبٍ مِنْهَا يَكُونُ زِيَادَةً فِي جَمِيعِهَا، كَمَا فِي الْأَرْضِ إذَا بَنَى فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا.
قَالَ: وَإِنْ وَهَبَ لَهُ حَمَّامًا فَجَعَلَهُ مَسْكَنًا، أَوْ وَهَبَ لَهُ شَيْئًا فَجَعَلَهُ حَمَّامًا: فَإِنْ كَانَ الْبِنَاءُ عَلَى حَالِهِ- لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْءٌ- فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي الْمَنْفَعَةِ- دُونَ الْعَيْنِ- وَالْمَانِعُ مِنْ الرُّجُوعِ زِيَادَةٌ فِي الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ زَادَ عَلَيْهِ بِنَاء، أَوْ غَلَّقَ عَلَيْهِ بَابًا، أَوْ جَصَّصَهُ، أَوْ أَصْلَحَهُ، أَوْ جَعَلَهُ بِصَارُوجٍ، أَوْ طِنْيَةٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ زِيَادَةٌ فِي عَيْنِهَا.
قَالَ: مَرِيضٌ وَهَبَ لِصَحِيحٍ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، فَعَوَّضَهُ الصَّحِيح مِنْهُ عِوَضًا، وَقَبَضَهُ الْمَرِيضُ، ثُمَّ مَاتَ، وَالْعِوَضُ عِنْدَهُ: فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ مِثْلَ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، أَوْ أَكْثَرَ؛ فَالْهِبَةُ مَاضِيَةٌ، لِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَقْبُوضَ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرُوطِ، أَوْ أَقْوَى، وَالثُّلُثُ مِنْهُ كَانَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ، وَالثُّلُثَانِ حَقُّ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا كَانَ الْعِوَضُ مِثْلَ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْطُلْ شَيْئًا مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ، بِتَصَرُّفِهِ، وَإِنَّمَا تَصَرَّفَ فِيمَا هُوَ خَالِص حَقِّهِ، فَكَانَتْ الْهِبَةُ مَاضِيَةً، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قِيمَة الْعِوَضِ نِصْفَ قِيمَةِ الْهِبَةِ، يَرْجِعُ وَرَثَةُ الْوَاهِبِ فِي سُدُسِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي ثُلُثَيْ الْعَبْدِ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِمْ مِنْ الْعِوَضِ بِقَدْرِ مَالِيَّةِ نِصْفِ الْعَبْدِ، فَإِنَّمَا تَبَقَّى لِإِتْمَامِ حَقِّهِمْ سُدُسُ الْعَبْدِ؛ فَلِهَذَا يَرْجِعُ الْوَارِثُ بِسُدُسِ الْهِبَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ شَرْطًا فِي أَصْلِ الْهِبَةِ، فَإِنْ شَاءَ الْمَوْهُوبُ لَهُ رَدَّ الْهِبَةَ كُلَّهَا وَأَخَذَ الْعِوَضَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ سُدُسَ الْهِبَةِ وَأَمْسَكَ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ عِوَضِهِ إلَّا بِأَنْ يُسَلِّمَ لَهُ جَمِيعَ الْمَوْهُوبِ، وَلَمْ يُسَلِّم؛ وَلِأَنَّ التَّبْعِيضَ فِي الْمِلْكِ الْمُجْتَمِعِ عَيْبٌ، فَاسْتِحْقَاقُ جُزْءٍ مِنْ الْعَبْدِ- وَإِنْ قَلَّ- بِتَعَيُّبِ مَا بَقِيَ مِنْهُ، وَحَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ثَابِتٌ بَعْدَ التَّقَابُضِ إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَشْرُوطًا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ تَصِيرُ بَيْعًا بِالْقِيَاسِ؛ فَلِهَذَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعِوَضُ مَشْرُوطًا فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُعَاوَضَةً بِالتَّقَابُضِ فِي حُكْمِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَيَرُدّ سُدُس الْهِبَةِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعِوَضَ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ، وَقَدْ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.