فصل: كِتَابُ الشُّفْعَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كِتَابُ الشُّفْعَةِ:

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً: الشُّفْعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الشَّفْعِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْوَتْرِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَمِّ عَدَدٍ إلَى عَدَدٍ، أَوْ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ وَمِنْهُ شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُذْنِبِينَ فَإِنَّهُ يَضُمُّهُمْ بِهَا إلَى الْعَابِدِينَ، وَكَذَلِكَ الشَّفِيعُ بِأَخْذِهِ يَضُمُّ الْمَأْخُوذَ إلَى مِلْكِهِ، فَيُسَمَّى لِذَلِكَ شُفْعَةً، وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ يُتَمَلَّكُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِلْكًا صَحِيحًا لَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ مِنْ نَوْعِ الْأَكْلِ بِالْبَاطِلِ وَتَأَيَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»؛ وَلِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِالْمُشْتَرِي فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْإِضْرَارِ بِغَيْرِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ بِالْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْبَابِ، وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ الشُّفْعَةُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مُسْتَحْسَنٌ مِنْ الْقِيَاسِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَقَارًا وَرُبْعًا»، وَمِنْ ذَلِكَ مَا بَدَأَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْكِتَابَ بِهِ وَرَوَاهُ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَرَضَ بَيْتًا لَهُ عَلَى جَارٍ لَهُ، فَقَالَ خُذْهُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ، أَمَا إنِّي قَدْ أُعْطِيت بِهِ ثَمَانَمِائَةٍ، وَلَكِنِّي أُعْطِيكَهُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ لِأَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقْبِهِ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ بَيْعَ مِلْكِهِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى جَارِهِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُجَاوَرَةِ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»؛ وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الْخُصُومَةِ، وَالْمُنَازَعَةِ؛ فَلِهَذَا فَعَلَهُ سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحَطَّ عَنْهُ نِصْفَ الثَّمَنِ لِتَحْقِيقِ هَذَا الْمَعْنَى وَقِيلَ لِإِتْمَامِ الْإِحْسَانِ، وَإِنَّ تَمَامَ الْإِحْسَانِ أَنْ يَحُطَّ الشَّطْرَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى إنْسَانٍ فَطَالَبَ غَرِيمَهُ، فَقَالَ: أَحْسِنْ إلَيَّ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَهَبْت لَك النِّصْفَ فَقِيلَ لَهُ: النِّصْفُ كَثِيرٌ، فَقَالَ: وَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْله تَعَالَى {وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} سَمِعْت جَدِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مِنْ تَمَامِ الْإِحْسَانِ أَنْ يُحَطَّ الشَّطْرُ».
فَأَمَّا قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ»، فَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالسِّينِ، وَالْمُرَادُ الْقُرْبُ، وَبِالصَّادِ، وَالْمُرَادُ الْأَخْذُ، وَالِانْتِزَاعُ، يَعْنِي: لَمَّا جَعَلَهُ الشَّرْعُ أَحَقَّ بِالْأَخْذِ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالْعَرْضِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ أَيْضًا، وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْجِوَارِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ اسْمًا مُشْتَقًّا مِنْ مَعْنًى، وَالْحُكْمُ مَتَى عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ، فَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ خُصُوصًا إذَا كَانَ مُؤَثِّرًا فِيهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}، وقَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وَهَذَا الْمَعْنَى مُؤَثِّرٌ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَإِنَّ الضَّرَرَ مَدْفُوعٌ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فِي الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالْمُجَاوَرَةِ، يَعْنِي: الضَّرَرَ الْبَادِيَ إلَى سُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ مِنْ حَيْثُ إبْعَادِ النَّارِ وَإِعْلَاءِ الْجِدَارِ وَإِثَارَةِ الْغُبَارِ وَمَنْعِ ضَوْءِ النَّهَارِ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: الْمُرَادُ بِالْجَارِ الشَّرِيكُ، فَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْجَارِ عَلَى الشَّرِيكِ قَالَ الْأَعْشَى أَيَا جَارَتِي بِينِي فَإِنَّكِ طَالِق كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ عَادٍ وَطَارِقَة وَالْمُرَادُ زَوْجَتُهُ، وَهِيَ شَرِيكَتُهُ فِي الْفِرَاشِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي هَذَا تَرَكَ الْحَقِيقَةَ إلَى الْمَجَازِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، ثُمَّ الزَّوْجَةُ تُسَمَّى جَارَةً؛ لِأَنَّهَا مُجَاوَرَةٌ فِي الْفِرَاشِ تَتَصَرَّفُ عَنْهُ لَا؛ لِأَنَّهَا تُشَارِكُهُ وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَإِنَّ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَرَضَ بَيْتًا لَهُ عَلَى جَارٍ لَهُ وَرَوَى الْحَدِيثَ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْبَيْتِ كَانَ لَهُ، وَإِنَّهُ فَهِمَ مِنْ الْحَدِيثِ الْجَارَ دُونَ الشَّرِيكِ حِينَ اسْتَعْمَلَ الْحَدِيثَ فِيهِ.
وَعَنْ الْحَسَنِ فِي الشُّفْعَةِ لِلْيَتِيمِ قَالَ: وَصِيُّهُ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِ إنْ شَاءَ أَخَذُوا الْغَائِبَ عَلَى شُفْعَتِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ لِلصَّغِيرِ، وَأَنَّ وَلِيَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْأَخْذِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ، وَفِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْيَتَامَى وَتَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا الْمَقْصُودِ أَقَامَ الشَّرْعُ وَلِيَّهُ مَقَامَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ لِلْغَائِبِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُثْبِتَ لِحَقِّهِ قَائِمٌ مَعَ غَيْبَتِهِ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْغَيْبَةِ فِي إبْطَالِ حَقٍّ تَقَرَّرَ سَبَبُهُ، فَإِذَا حَضَرَ وَعَلِمَ بِهِ كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ بَعْدَ مَا يَثْبُتُ لَا يَسْقُطُ، إلَّا بِإِسْقَاطِهِ، وَالرِّضَا بِسُقُوطِهِ صَرِيحًا، أَوْ دَلَالَةً وَبِتَرْكِ الطَّلَبِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِهِ، وَالْغَيْبَةِ لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى لِانْعِدَامِ تَمَكُّنِهِ عَنْ الطَّلَبِ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ الشَّفِيعِ، وَالشَّفِيعُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ»، وَالْخَلِيطُ هُوَ الشَّرِيكُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، وَالشَّفِيعُ هُوَ الشَّرِيكُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ كَالشُّرْبِ، وَالطَّرِيقِ وَقِيلَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَى بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّ الشَّرِيكَ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ، وَالْخَلِيطَ أَحَقُّ مِنْ الشَّفِيعِ فَالشَّرِيكُ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، وَالْخَلِيطُ يَكُونُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ سُمِّيَ خَلِيطًا لِاخْتِلَاطٍ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَتَأَتَّى بِهِ الِانْتِفَاعُ مَعَ تَمَيُّزِ الْمِلْكِ، وَالشَّفِيعُ هُوَ الْجَارُ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ عَلَى مَرَاتِبَ، وَأَنَّ الْبَعْضَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْبَعْضِ بِقُوَّةِ سَبَبِهِ وَهَذَا إنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى مَذْهَبِنَا فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، فَلَا يُوجِبُ الشُّفْعَةَ، إلَّا لَلشَّرِيكِ، فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا التَّرْتِيبُ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» يَنْتَظِرُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ إمَامٌ مُطْلَقٌ فِي الْحَدِيثِ وَجَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَلَا طَعْنَ فِي إسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا وَجْهَ بِحَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى الشَّرِيكِ، فَإِنَّهُ إذَا حُمِلَ عَلَى الشَّرِيكِ كَانَ هَذَا لَغْوًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُفِيدًا إذَا كَانَ الْمُرَادُ جَارًا هُوَ شَرِيكٌ فِي الطَّرِيقِ قَالَ: كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يَقُولُ: الْعَجَبُ مِنْهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ يَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ شُهْرَتِهِ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ لِهَذَا اللَّقَبِ مَعْنًى سِوَى أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ فَلِأَجْلِهِ سُمُّوا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ لَا لِعِلْمِهِمْ بِالْحَدِيثِ.
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ، وَهُوَ حَاضِرٌ فَلَمْ يَطْلُبْ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ، وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الطَّلَبِ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ بِمُجَاوَرَةِ الْجَارِ الْحَادِثِ فَيَلْتَحِقُ بِالْجَارِ الْقَدِيمِ بِاعْتِبَارِ رِضَاهُ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ شُفْعَتَهُ ضَرُورَةً وَعَلَيْهِ دَلَّ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا» أَيْ لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهَا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ» فَكَنَّى بِهَذَا عَنْ سُرْعَةِ سُقُوطِهَا.
وَعَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ، وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ الْجَارِ، وَالْجَارُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي قُلْنَا إنَّ الشَّرِيكَ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، وَالْخَلِيطَ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ مَا كَانَ»، وَالشَّرِيدُ هَذَا مِمَّنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَنْشَدَنِي مِنْ أَشْعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَكُلَّمَا أَنْشَدْت شَيْئًا قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيهِ حَتَّى أَنْشَدْت مِائَةَ بَيْتٍ» وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرَوْنَ حَدِيثَهُ هَذَا فِي الشُّفْعَةِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَرْضٍ بِيعَتْ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شَرِكَةٌ، وَلَا قَسْمٌ، إلَّا الْجِوَارَ، فَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ مَا كَانَ» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَفَى الشَّرِكَةَ فِي السُّؤَالِ وَأَثْبَت الْجِوَارَ، فَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ وَلَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ كَانَ، فَإِنَّ مَا تُذْكَرُ بِمَعْنَى مَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لِلذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالْحُرِّ، وَالْمَمْلُوكِ، وَالصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرِ، وَالْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ مَا كَانَ أَيْ مَا كَانَ أَيْ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، أَوْ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، فَيَكُونُ دَلِيلًا لَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ: لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ، إلَّا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ.
وَبِظَاهِرِهِ يَسْتَدِلُّ مَنْ أَوْجَبَ الشُّفْعَةَ فِي بَعْضِ الْمَنْقُولَاتِ كَالسُّفُنِ وَنَحْوِهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ، وَلَكِنْ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ رَبْعٍ، أَوْ عَقَارٍ» تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ مَا كَانَ الْعَقَارُ دُونَ الْمَنْقُولِ.
وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَضَى لِلنَّصْرَانِيِّ بِالشُّفْعَةِ وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجَازَهَا، وَبِهَذَا نَأْخُذُ دُونَ مَا رَوَاهُ بَعْدَ هَذَا عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا شُفْعَةَ لِيَهُودِيٍّ، وَلَا لِنَصْرَانِيٍّ، وَلَا لِمَجُوسِيٍّ وَبِقَوْلِهِ الثَّانِي كَانَ يَأْخُذُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَيَقُولُ: الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ رِفْقٌ شَرْعِيٌّ، فَلَا يَثْبُتُ لِمَنْ هُوَ مُنْكِرٌ لِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِمَا قَضَى بِهِ شُرَيْحٌ، فَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِإِمْضَاءِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ عَنْهُمْ كَمَا هُوَ مَدْفُوعٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَعَنْ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ، وَالْجِوَارِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَات بِالْجِوَارِ، وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الْجِوَارِ فَأَمَّا مَعْنَى اللَّفْظِ الْآخَرِ «أَنَّ الْجَارَ كَانَ مُنَازِعًا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بِالْجِوَارِ وَبِالشُّفْعَةِ»، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِوَارَ يُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ حَتَّى سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ الْخُصُومَةَ فَقَضَى بِهِ وَبِالشُّفْعَةِ، وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: إذَا اقْتَسَمَ الْقَوْمُ الْأَرَضِينَ وَرَفَعُوا سَرَبًا بَيْنَهُمْ فَهُمْ شُفَعَاءُ، وَبِهِ نَأْخُذُ، فَنَقُولُ: الشَّرِكَةُ فِي السَّرَبِ تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهَا شَرِكَةٌ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ فَيَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ كَالشَّرِكَةِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ الْبَادِي لِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ يَتَحَقَّقُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا، وَعَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: الشُّفْعَةُ بِالْأَبْوَابِ، فَأَقْرَبُ الْأَبْوَابِ إلَى الدَّارِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا، وَإِنَّمَا الشُّفْعَةُ عِنْدَنَا لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ فَأَمَّا الْجَارُ الْمُحَاذِي، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ بِالْمُجَاوَرَةِ سَوَاءٌ كَانَ أَقْرَبَ بَابًا، أَوْ أَبْعَدَ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ قُرْبُ الْبَابِ فِي التَّقْدِيمِ فِي الشُّفْعَةِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أَبَرُّ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْك بَابًا»، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اطِّلَاعَهُ وَاطِّلَاعَ أَوْلَادِهِ عَلَى مَا يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ مِنْ النِّعْمَةِ أَكْثَرُ، فَهُوَ بِالْهَدِيَّةِ أَحَقُّ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَقُولُ فِي الْهَدَايَا: ابْدَءُوا بِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ» فَأَمَّا فِي الشُّفْعَةِ، فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقُرْبُ وَاتِّصَالُ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ، وَذَلِكَ فِي الْجَارِ الْمُلَاصِقِ دُونَ الْجَارِ الْمُحَاذِي، فَإِنَّ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ طَرِيقًا نَافِذًا، وَذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: لَا شُفْعَةَ، إلَّا لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَيْسَ يَأْخُذُ بِهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ إلَيْهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، فَإِنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ يَقْضِي بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ حَتَّى كَتَبَ إلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَهْدِيُّ يَأْمُرُهُ بِأَنْ لَا يَقْضِيَ بِالشُّفْعَةِ، إلَّا لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ فَأَخَذَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لَهُ وَنَحْنُ أَخَذْنَا بِقَوْلِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَدْ أَثْبَتَ الشُّفْعَةَ لِلْجَارِ حِينَ قَالَ: لِبَنِي عُذْرَةَ أَنْتُمْ شُفَعَاؤُنَا فِي أَمْوَالِ الْيَهُودِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَأَخَذْنَا بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ مَتَى صَحَّ عَنْهُ كَانَ حُجَّةً عَلَى كُلِّ صَحَابِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
(وَالْحَاصِلُ) أَنَّ الشُّفْعَةَ عِنْدَنَا عَلَى مَرَاتِبَ يُقَدَّمُ الشَّرِيكُ فِيهَا فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ الشَّرِيكُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ بَعْدَهُ، ثُمَّ الْجَارُ الْمُلَاصِقُ بَعْدَهُمَا، وَعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ، إلَّا لِلشَّرِيكِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ» وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» وَإِدْخَالُ الْأَلْفِ، وَاللَّامِ فِي الْكَلَامِ لِلْعُهُودِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِلْجِنْسِ، وَلَيْسَ هُنَا مَعْهُودٌ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ فَكَانَ لِلْجِنْسِ فَيَقْتَضِي أَنَّ جِنْسَ الشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ وَفِي رِوَايَةٍ «إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ»، وَإِنَّمَا لِتَقْرِيرِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ}، فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى نَفِي الشُّفْعَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا تَمَلَّكَ الْمَالَ بِغَيْرِ رِضَا الْمُتَمَلِّكِ عَلَيْهِ فَيَخْتَصُّ بِهِ الشَّرِيكُ دُونَ الْجَارِ كَالْمُتَمَلِّكِ بِالِاسْتِيلَادِ وَمِلْكُ أَحَدُ الْجَارَيْنِ مُتَمَيِّزٌ عَنْ مِلْكِ الْآخَرِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا مِلْكَ الْآخَرِ بِالشُّفْعَةِ كَالْجَارِ الْمُقَابِلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ طَالَبَهُ الْمُشْتَرِي بِالْقِسْمَةِ فَيَلْحَقُهُ بِسَبَبِهِ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ، فَالشَّرْعُ مَكَّنَهُ مِنْ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِيَدْفَعَ بِهِ ضَرَرَ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ فِيمَا لَا طَرِيقَ لَهُ لِدَفْعِ ذَلِكَ، إلَّا بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ مِلْكِهِ بِالْأَخْذِ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَالْمِلْكِ فِيهِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْجَارِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ الشُّفْعَةَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ بِالْأَخْذِ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ الشُّفْعَةَ فِي الْمَنْقُولَاتِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَفْعِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ هُنَاكَ بِبَيْعِ نَصِيبِهِ، وَالْبَيْعُ، وَالشِّرَاءُ فِي الْمَنْقُولِ مُعْتَادٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَأَمَّا الْعَقَارُ فَيُتَّخَذُ لِاسْتِيفَاءِ الْمِلْكِ فِيهِ؛ وَلِيَبْقَ مِيرَاثًا بِالْعَاقِبَةِ، فَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْمُقَاسَمَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، وَلَا يُعَارِضُهَا مَا رَوَوْا، فَفِيهَا بَيَانٌ أَنَّ لِلشَّرِيكِ شُفْعَةٌ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ عِنْدَنَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّ مَعَ الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ لَا مُزَاحَمَةَ لِأَحَدٍ فِي الشُّفْعَةِ، بَلْ هُوَ مُقَدَّمٌ، وَبِهِ نَقُولُ، وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ» دَلِيلُنَا أَنَّهُ عَلَّقَ نَفْيَ الشُّفْعَةِ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَلَمْ تُصَرَّفْ الطُّرُقُ بِأَنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاحِدًا أَنْ تَجِبَ الشُّفْعَةُ عِنْدَكُمْ لَا تَجِبُ، ثُمَّ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ، فَلَا شُفْعَةَ بِوُقُوعِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطُّرُقِ وَكَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ إشْكَالٍ؛ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فَرُبَّمَا يُشْكِلُ أَنَّهُ هَلْ يَسْتَحِقُّ بِهَا الشُّفْعَةَ فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِالْقِسْمَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْمِلْكِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ وَقَرَارٍ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ كَالشَّرِيكِ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ بِالْمُجَاوَرَةِ دُونَ الشَّرِكَةِ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ تَتَحَقَّقُ فِي الْمَنْقُولَاتِ، ثُمَّ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ، إلَّا فِي الْعَقَارِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْنًى يَظْهَرُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْعَقَارِ تُفْضِي إلَى الْمُجَاوَرَةِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا اقْتَسَمَا كَانَا جَارَيْنِ، وَالشَّرِكَةُ فِي الْمَنْقُولَاتِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُجَاوَرَةِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا اقْتَسَمَا لَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا مُجَاوَرَةٌ فِي الْمِلْكِ، فَإِذَا كَانَ بِاعْتِبَارِ الشَّرِكَةِ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُجَاوَرَةِ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ فَتَحْقِيقُهُ الْمُجَاوَرَةَ أَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ ضَرَرِ الْمُتَأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ لِجَارٍ السُّكْنَى كَالْمُسْتَأْجِرِ، أَوْ الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ جِوَارَهُ لَيْسَ بِمُسْتَدَامٍ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ فِي الْمَنْقُولِ وَضَرَرُ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ بِاتِّصَالِ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَأَتَّى الْفَصْلُ فِيهِ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمُجَاوَرَةِ حَتَّى يَرْغَبَ فِي مُجَاوَرَةِ بَعْضِ النَّاسِ لِحُسْنِ خُلُقِهِ، وَعَنْ جِوَارِ الْبَعْضِ لِسُوءِ خُلُقِهِ فَلِإِمْكَانِ أَنَّهُ يَتَأَذَّى بِالْجَارِ الْحَادِثِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لَا لِدَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْمُقَاسَمَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمَنْقُولَاتِ.
، وَلَا شُفْعَةَ فِيمَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ نَصِيبَهُ، وَهُنَا بِالْأَخْذِ تَزْدَادُ مُؤْنَةُ الْمُقَاسَمَةِ عَلَى الْبَاقِينَ، وَإِنَّمَا يَنْدَفِعُ عَنْهُمْ سُوءُ مُجَاوَرَةِ الْمُشْتَرِي؛ وَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ لِلْجَارِ الْمُقَابِلِ؛ لِأَنَّ سُوءَ الْمُجَاوَرَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِلْكُ أَحَدِهِمَا مُتَّصِلًا بِمِلْكِ الْآخَرِ، وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي حُقُوقِ الْمِلْكِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لَهُ؛ لِيَتَرَفَّقَ بِهِ مِنْ حَيْثُ تَوَسُّعِ الْمِلْكِ، وَالْمَرَافِقِ، وَهَذَا فِي الْجَارِ الْمُلَاصِقِ يَتَحَقَّقُ؛ لِإِمْكَانِ جَعْلِ إحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ الْأُخْرَى، أَوْ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْجَارِ الْمُقَابِلِ؛ لِعَدَمِ إمْكَانِ جَعْلِ إحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ الْأُخْرَى بِطَرِيقٍ نَافِذٍ بَيْنَهُمَا حَتَّى إذَا كَانَتَا فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلْكُلِّ؛ لِإِمْكَانِ جَعْلِ بَعْضِهَا مِنْ مَرَافِقِ الْبَعْضِ بِأَنْ تُجْعَلَ الدُّورُ كُلُّهَا دَارًا وَاحِدَةً، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا، الشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ الْقُرْبُ، وَالِاتِّصَالُ، وَذَلِكَ فِي حَقِّهِ أَقْوَى لِوُجُودِ الِاتِّصَالِ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَبِيعِ بِجُزْءٍ مِنْ مِلْكِهِ، ثُمَّ بَعْدَهُ لَلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ لِزِيَادَةِ الِاتِّصَالِ فِي حَقِّهِ عَلَى الْجَارِ وَقُوَّةُ السَّبَبِ تُوجِبُ التَّرْجِيحَ؛ وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ يَدْفَعُ بِالْأَخْذِ ضَرَرَ سُوءِ الْمُجَاوَرَةِ وَمُؤْنَةَ الْمُقَاسَمَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى دَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْمُقَاسَمَةِ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فَتَكُونُ عِلَّةً لِلتَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ أَبَدًا بِمَا لَا يَكُونُ عِلَّةً الِاسْتِحْقَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَخَ لِأَبٍ وَأُمٍّ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ إذَا اجْتَمَعَا يَتَرَجَّحُ الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِي الْعُصُوبَةِ بِسَبَبِ قَرَابَةِ الْأُمِّ، وَالْعُصُوبَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، ثُمَّ التَّرْجِيحُ يَقَعُ بِهَا فَهَذَا مِثْلُهُ وَتَفْسِيرُ مَا قُلْنَا فِي مَنْزِلٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي دَارٍ هِيَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الْمَنْزِلِ، فَالشَّرِيكُ فِي الْمَنْزِلِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ، فَإِذَا سَلَّمَ، فَالشُّرَكَاءُ فِي الدَّارِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الشُّرَكَاءِ فِي السِّكَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَمْيَزُ قُرْبًا لِلشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ فِي صَحْنِ الدَّارِ، فَإِنْ سَلَّمُوا فَأَهْلُ السِّكَّةِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ فِي الشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ سَلَّمُوا، فَالْجَارُ الْمُلَاصِقُ، وَهَذَا الَّذِي عَلَى ظَهْرِ هَذَا الْمَنْزِلِ وَبَابُ دَارِهِ فِي سِكَّةٍ أُخْرَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَعَ وُجُودِ الشَّرِيكِ لَا شُفْعَةَ لِأَحَدٍ سَوَاءٌ سَلَّمَ أَوْ اسْتَوْفَى؛ لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ لِحَقِّ الشَّرِيكِ، وَقَدْ ثَبَتَ حَقُّهُ سَوَاءٌ اسْتَوْفَى، أَوْ سَلَّمَ، وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ، وَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْجَارِ مَعَ الشَّرِيكِ لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ، إلَّا أَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ كَانَ مُقَدَّمًا، فَإِذَا سَلَّمَ كَانَ لِلْجَارِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ كَحَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ مَعَ غُرَمَاءِ الْمَرَضِ فِي التَّرِكَةِ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَحَقَّ أَسْقَطَ حَقَّهُمْ بِالْإِبْرَاءِ كَانَتْ التَّرِكَةُ لِغُرَمَاءِ الْمَرَضِ بِدُيُونِهِمْ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِمْ ثَابِتٌ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا يَنْبَغِي لِلْجَارِ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ إذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ مَعَ الشَّرِيكِ تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ بَعْدَ عِلْمِهِ حَتَّى يُسَلِّمَ الشَّرِيكُ، فَلَا حَقَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِنَاءٌ مُنْفَرِجٌ مِنْ الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ رَاجِعًا عَنْ الطَّرِيقِ، أَوْ زُقَاقٌ، أَوْ دَرْبٌ غَيْرُ نَافِذٍ فِيهِ دُورٌ فَبِيعَتْ دَارٌ مِنْهَا فَأَصْحَابُ الدُّورِ شُفَعَاءُ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْفِنَاءِ، وَالطَّرِيقِ، فَإِنْ سَلَّمَ هَؤُلَاءِ الشُّفْعَةَ، فَالْجَارُ الْمُلَاصِقُ أَحَقُّ مِنْهُمْ بِالشُّفْعَةِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: فِنَاءُ الدَّارِ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِ الدَّارِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ حَقُّهُ، وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِي الدَّارِ، وَالدَّارُ مَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ، وَالْفِنَاءُ اسْمٌ لِصَحْنٍ وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ مُعَدًّا لِإِيقَافِ الدَّوَابِّ وَكَسْرِ الْحَطَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، فَهُوَ حَقُّ أَصْحَابِ السِّكَّةِ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْخَاصَّةِ لَهُمْ، أَوْ مِلْكٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَفِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ الْجَارُ الْمُلَاصِقُ، وَالْمُقَابِلُ سَوَاءٌ.
وَلِهَذَا كَانَتْ الشُّفْعَةُ عِنْدَنَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ دُونَ مَقَادِيرِ الْأَنْصِبَاءِ، وَالدُّورِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَى مِقْدَارِ النُّصُبِ، وَبَيَانُهُ: فِي دَارٍ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا وَلِآخَرَ ثُلُثُهَا وَلِآخَرَ سُدُسُهَا بَاعَ صَاحِبُ النِّصْفِ نَصِيبَهُ وَطَلَبَ الْآخَرَانِ الشُّفْعَةَ قُضِيَ بِالشُّفْعَةِ فِي الْمَبِيعِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَثْلَاثًا بِقَدْرِ مِلْكَيْهِمَا، وَإِنْ بَاعَ صَاحِبُ السُّدُسِ مِلْكَهُ وَطَلَبَ الْآخَرَانِ الشُّفْعَةَ قُضِيَ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا عِنْدَهُ، وَإِنْ بَاعَ صَاحِبُ الثُّلُثِ نَصِيبَهُ قُضِيَ بِهِ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ أَرْبَاعًا عِنْدَهُ بِقَدْرِ مِلْكَيْهِمَا وَعِنْدَنَا يُقْضَى بِهِ نِصْفَيْنِ فَكَذَلِكَ عَلَى أَصْلِنَا إذَا بِيعَتْ دَارٌ وَلَهَا جَارَانِ أَحَدُهُمَا جَارٌ مِنْ ثَلَاثِ جَوَانِبَ، وَالْآخَرُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ وَاحِدٍ وَطَلَبَا الشُّفْعَةَ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَجْلَى يَهُودَ مِنْ وَادِي الْقُرَى قَالَ لِبَنِي عُذْرَةَ: «أَنْتُمْ شُفَعَاؤُنَا فِي أَمْوَالِ الْيَهُودِ» الحديث، إلَى أَنْ جَعَلَ الْوَادِيَ بَيْنَ بَنِي عُذْرَةَ وَبَيْنَ الْإِمَارَةِ نِصْفَيْنِ، فَقَدْ اعْتَبَرَ مِقْدَارَ النَّصِيبِ، وَلَمْ يَقْسِمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ بَنِي عُذْرَةَ، وَإِنَّ هَذَا رِفْقٌ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ، فَيَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ كَالرِّبْحِ أَوْ ثَمَرَةٍ تُسْتَحَقُّ بِالْمِلْكِ، فَيَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ كَالْأَوْلَادِ، وَالْأَلْبَانِ، وَالْأَثْمَارِ فِي الْأَشْجَارِ الْمُشْتَرَكَةِ يُوَضِّحُهُ الْمَنْفَعَةُ أَنَّ الَّتِي تُسْتَحَقُّ بِسَبَبِ الْمِلْكِ يُعْتَبَرُ بِالْغُرْمِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَالِكَ بِسَبَبِ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ بِقَدْرِ الْمِلْكِ، فَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا وَأُشْهِدَ عَلَيْهِمَا فِيهِ فَسَقَطَ وَأَصَابَ مَالًا، أَوْ نَفْسًا كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا بِقَدْرِ الْمِلْكِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ، فَإِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ عِنْدَهُ لِدَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْمُقَاسَمَةِ وَحَاجَةُ صَاحِبِ الْكَثِيرِ إلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَةِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ عِنْدَهُ عَلَى الشُّرَكَاءِ بِقَدْرِ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ مَا شُرِعَ لِدَفْعِ هَذِهِ الْمُؤْنَةِ وَجْهُ قَوْلِنَا إنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ إمَّا الْجِوَارُ، أَوْ الشَّرِكَةُ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ ذَلِكَ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ شَرِيكٌ كَصَاحِبِ الْكَثِيرِ، وَجَازَ لِاتِّصَالِ مِلْكِهِ بِالْمَبِيعِ كَصَاحِبِ الْكَثِيرِ (ثُمَّ تَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ) أَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ أَصْلُ الْمِلْكِ لَا قَدْرُ الْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَثِيرِ لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ كَانَ لِصَاحِبِ الْقَلِيلِ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ كَمَا لَوْ بَاعَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ نَصِيبَهُ كَانَ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ فَمِلْكُ كُلِّ جُزْءٍ عِلَّةٌ تَامَّةٌ؛ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ بِالشُّفْعَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْكَثِيرِ عِلَلٌ وَفِي حَقِّ صَاحِبِ الْقَلِيلِ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْمُسَاوَاة لَا تَتَحَقَّقُ بَيْنَ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْعِلَلِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَ الْمُدَّعِيَيْنِ لَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ وَأَقَامَ الْآخَرُ عَشَرَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ تَثْبُتُ الْمُعَارِضَةُ، وَالْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَةً وَاحِدَةً، وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَاتٍ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ اسْتَوَيَا فِي حُكْمِ ذَلِكَ الْقَتْلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِقُوَّةِ الْعِلَّةِ لَا بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ وَعِنْدَ ظُهُورِ الْعِلَّةِ التَّرْجِيحُ الْمَرْجُوحُ مَدْفُوعٌ بِالرَّاجِحِ، وَهُنَا لَا يَبْطُلُ حَقُّ صَاحِبِ الْقَلِيلِ أَصْلًا، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ فِي جَانِبِهِ مِنْ حَيْثُ قُوَّةُ الْعِلَّةِ، وَكَثْرَةُ الْعِلَّةِ لَا تُوجِبُ التَّرْجِيحَ؛ لِأَنَّ مَا يَصْلُحُ بِانْفِرَادِهِ عِلَّةً لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا، وَمِلْكُ كُلِّ جُزْءٍ بِانْفِرَادِهِ عِلَّةٌ، فَمِنْ هَذَا الطَّرِيقِ تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ الْغُرَمَاءِ فِي التَّرِكَةِ، فَإِنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي دَيْنِهِ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ التَّرِكَةِ، إلَّا قَدْرَ دَيْنِهِ، فَإِذَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الدَّيْنِ وَعَلَيْهِ يَتَرَتَّبُ اسْتِحْقَاقُ التَّرِكَةِ قُلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّ بِقَدْرِ دَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ الرِّبْحُ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَدْرِ الْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ الِانْفِرَادِ يَحْصُلُ الرِّبْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَالِهِ، وَكَذَلِكَ الْوَلَدُ، وَاللَّبَنُ، وَالثِّمَارُ، فَإِنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْعَيْنِ، فَإِنَّ مَا تَتَوَلَّدُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ غَلَطَ فِي اعْتِبَارِ حُكْمِ الْعِلَّةِ بِالْمُتَوَلِّدِ مِنْ الْعِلَّةِ وَقِسْمَةِ الْحُكْمِ عَلَى أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ، فَأَمَّا الْحَائِطُ الْمَائِلُ إذَا مَاتَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ، فَإِنْ جَرَحَهُ الْحَائِطُ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْعِلَّةِ، وَإِنْ مَاتَ بِنَقْلِ الْحَائِطِ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْعِلَّةِ لَمْ يُوجَدْ، فَإِنَّ نَقْلَ نَصِيبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ لَا يَكُونُ كَنَقْلِ نَصِيبِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا الْفَارِسُ مَعَ الرَّاجِلِ فِي الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ تَفْصِيلَ الْفَارِسِ بِفَرَسِهِ حُكْمٌ عُرِفَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ مَعَ أَنَّ الْفَرَسَ بِانْفِرَادِهِ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فَيَصْلُحُ مُرَجِّحًا فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْغَنِيمَةِ، وَهُنَا مِلْكُ كُلِّ جُزْءٍ عِلَّةٌ كَامِلَةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْجَمِيعِ، فَلَا تَصْلُحُ مُرَجِّحَةً.
، وَلَا شُفْعَةَ، إلَّا فِي الْأَرِضِينَ، وَالدُّورِ؛ لِأَنَّهَا عُرِفَتْ شَرْعًا، وَقَدْ نَصَّ الشَّرْعُ عَلَى الشُّفْعَةِ فِي الْعَقَارِ خَاصَّةً؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ عَقَارٍ، أَوْ رَبْعٍ».
، وَالصَّغِيرُ كَالْكَبِيرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ، إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا شُفْعَةَ لِلصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِدَفْعِ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ وَذَلِكَ مِنْ الْكَبِيرِ دُونَ الصَّغِيرِ فِي الْجِوَارِ تَبَعٌ، فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمُعِيرِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ مُتَحَقِّقٌ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ، وَهُوَ الشَّرِكَةُ أَوْ الْجِوَارُ مِنْ حَيْثُ اتِّصَالُ حَقِّ مِلْكِهِ بِالْمَبِيعِ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ، فَيَكُونُ مُسَاوِيًا لِلْكَبِيرِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِهِ أَيْضًا، ثُمَّ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْأَخْذِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فِي الْآتِي عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ فِي الْحَالِ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْحَاجَةِ جَازَ لِلْمَوْلَى تَزْوِيجُ الصَّغِيرِ، وَالصَّغِيرَةِ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ يَقُومُ بِالطَّلَبِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ شَرْعًا فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ، وَهُوَ أَبُوهُ، ثُمَّ وَصِيُّ أَبِيهِ، ثُمَّ جَدُّهُ أَبُو أَبِيهِ، ثُمَّ وَصِيُّ الْجَدِّ، ثُمَّ وَصِيٌّ نَصَّبَهُ الْقَاضِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا أَدْرَكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَثْبُتُ لَهُ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يُبْنَى عَلَى طَلَبٍ مُلْزِمٍ، وَلَا يَكُونُ طَلَبُهُ مُلْزِمًا قَبْلَ الْإِدْرَاكِ فَتَرْكُهُ الطَّلَبَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ؛ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّهُ كَالْبَائِعِ إذَا تَرَكَ الطَّلَبَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَالْغَائِبُ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا عَلِمَ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الطَّلَبِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَتَرْكُ الطَّلَبِ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الرِّضَا، أَوْ التَّسْلِيمِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ لَا قَبْلَهُ.
، وَالذَّكَرُ، وَالْأُنْثَى، وَالْحُرُّ، وَالْمَمْلُوكُ، وَالْمُسْلِمُ، وَالْكَافِرُ فِي حَقِّ الشُّفْعَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى سَبَبٍ مُتَصَوَّرٍ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ سَبَبِهِ.
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا وَقَبَضَهَا وَنَقَدَ الثَّمَنَ وَاخْتَلَفَ الشَّفِيعُ، وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ الدَّارَ عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَمَلَّكُهَا عَلَى الْبَائِعِ.
وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ كَمَا قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ، فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُهُ الْبَائِعُ» فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي مَعَ الشَّفِيعِ؛ وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الدَّارِ إلَيْهِ عِنْدَ إحْضَارِ الْأَلْفِ، وَالْمُشْتَرِي مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَيِّدُ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ، وَلَيْسَ فِي مُعَارَضَةِ حُجَّتِهِ سِوَى مُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ الْآخَرِ، وَالدَّعْوَى لَا تُعَارِضُ الْحُجَّةَ، ثُمَّ الشَّفِيعُ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، فَقَدْ أَثْبَتَ مَا ادَّعَى مِنْ وُجُوبِ تَسْلِيمِ الدَّارِ إلَيْهِ عِنْدَ أَدَاءِ الْأَلْفِ، وَالْمُشْتَرِي إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، فَقَدْ أَثْبَتَ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ بِبَيِّنَتِهِ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ بِبَيِّنَتِهِ، وَالشَّفِيعُ يَنْفِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ، وَالْمُثْبَتُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ أَوْلَى بِالْعَمَلِ بِهَا كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي، وَالشَّفِيعُ، فَقَالَ الْبَائِعُ: ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَلْفَانِ، وَقَالَ الشَّفِيعُ: أَلْفٌ، وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ بِالْقَبُولِ، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ مَعَ الْمُوَكِّلِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ.
وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ مَعَ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ إذَا اخْتَلَفَا فِي ثَمَنِ الْعَبْدِ الْمَأْسُورِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَتَانِ: إحْدَاهُمَا: حَكَاهَا مُحَمَّدٌ عَنْهُ، وَالْأُخْرَى: حَكَاهَا أَبُو يُوسُفَ، فَاَلَّتِي حَكَاهَا مُحَمَّدٌ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَدَرَ مِنْهُ إقْرَارٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَهُ، وَالْآخَرَ عَلَيْهِ فَكَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِيَ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّفِيعَ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ بِأَلْفٍ وَهَذَا عَلَيْهِ، وَالْمُشْتَرِي أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ إقْرَارَهُ بِالشِّرَاءِ بِأَلْفَيْنِ وَهَذَا لَهُ، وَبِهِ فَارَقَ الْبَائِعَ مَعَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَرَ مِنْهُ إقْرَارٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَا أَثْبَتَهُ بِبَيِّنَةٍ، وَهُوَ لَهُ، وَالْآخَرُ مَا أَثْبَتَهُ صَاحِبُهُ، وَهُوَ عَلَيْهِ فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ فَلِهَذَا صِرْنَا إلَى التَّرْجِيحِ بِالزِّيَادَةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ نُقَرِّرَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ وَجْهِ آخَرَ، فَنَقُولُ: لَا تَنَافِي بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِأَلْفٍ وَمَرَّةً بِأَلْفَيْنِ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا فِي حَقِّهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّرْجِيحِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا أَوْلَى، فَأَمَّا مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَتَيْنِ، فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَى التَّرْجِيحِ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ كَأَنَّ الشِّرَاءَيْنِ جَمِيعًا ثَابِتَانِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَوْلَى مَعَ الْعَبْدِ إذَا اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْمَوْلَى: قُلْت لَك: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَيْنِ فَأَنْتَ حُرٌّ وَقَالَ الْعَبْدُ قُلْت لِي إذَا أَدَّيْت إلَى أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْكَلَامَيْنِ صَدَرَا مِنْ الْمَوْلَى وَيُعْتَقُ الْعَبْدُ بِأَدَاءِ أَيِّ الْمَالَيْنِ شَاءَ بِخِلَافِ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي إذَا اخْتَلَفَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَتَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَالْعَقْدُ الثَّانِي فِي حَقِّهِمَا نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ؛ فَلِهَذَا صِرْنَا إلَى التَّرْجِيحِ بِالزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفُوا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ الِاخْتِلَافَ قَائِمًا بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي، فَلَا مُعْتَبَرَ بِاخْتِلَافِ الشَّفِيعِ وَأَمَّا الْوَكِيلُ مَعَ الْمُوَكِّلِ إذَا اخْتَفَى، فَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ صَدَرَ مِنْهُ إقْرَارَانِ كَمَا بَيَّنَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَالْوَكِيلُ مَعَ الْمُوَكِّلِ كَالْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي؛ وَلِهَذَا يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْعُذْرَ فِيمَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي، فَأَمَّا الْمَوْلَى الْقَدِيمُ مَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ إذَا اخْتَلَفَا، فَقَدْ نَصَّ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَحْشَةِ حِينَ نَصِّ السِّيَرِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَهُنَاكَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ الثَّانِي نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ فَصِرْنَا إلَى التَّرْجِيحِ بِالزِّيَادَةِ؛ لِهَذَا، وَالطَّرِيقَةُ الَّتِي حَكَاهَا أَبُو يُوسُفَ أَنَّ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ مُلْزِمَةٌ وَبَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُلْزَمَةٍ، وَالْبَيِّنَتَانِ لِلْإِلْزَامِ، فَالْمُلْزِمُ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ يَتَرَجَّحُ كَمَا فِي بَيِّنَةِ الْعَبْدِ مَعَ بَيِّنَةِ الْمَوْلَى فِي مَسْأَلَةِ التَّعْلِيقِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّهُ إذَا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الدَّارِ إلَيْهِ بِأَلْفٍ شَاءَ، أَوْ أَبَى، وَإِذَا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي لَا يَجِبُ عَلَى الشَّفِيعِ شَيْءٌ، وَلَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ، أَوْ يَتْرُكَ، وَبِهِ فَارَقَ بَيِّنَةَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ هُنَاكَ مُلْزِمَةٌ، وَكَذَلِكَ بَيِّنَةُ الْوَكِيلِ مَعَ الْمُوَكِّلِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُلْزِمَةٌ؛ فَلِهَذَا صِرْنَا إلَى التَّرْجِيحِ بِالزِّيَادَةِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْمُشْتَرِي مَعَ الْعَبْدِ مِنْ الْعَدُوِّ وَيَقُولُ: عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهَا مُلْزِمَةٌ وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُلْزِمَةٍ.
وَإِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الدَّارَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَعُهْدَتُهُ وَضَمَانُ مَالِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ الدَّارَ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَيْهِ، فَهُوَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ قِيلَ حَقُّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي شَرْعًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ أَخْذُ الشَّفِيعِ مِنْ يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ بِحَقٍّ مُقَدَّمٍ عَلَى حَقِّهِ قُلْنَا نَعَمْ حَقُّهُ مُقَدَّمٌ، وَلَكِنَّ ثُبُوتَ حَقِّهِ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ الشِّرَاءُ إذْ بِأَخْذِهِ لَا يَبْطُلُ ذَلِكَ السَّبَبُ بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ بِدَعْوَى الْمِلْكِ، فَإِذَا بَقِيَ السَّبَبُ وَتَأَكَّدَ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ الشَّفِيعُ مُتَمَلِّكًا عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ، وَلَا يَدَ حَتَّى قُضِيَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُجْعَلَ مُتَمَلِّكًا عَلَى الْمُشْتَرِي مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ يَدُهُ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ عُهْدَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا ابْتِدَاءً مِنْهُ وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْبَائِعِ وَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ فَعُهْدَتُهُ وَضَمَانُ مَالِهِ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: عُهْدَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ لَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَامَ مَقَامَهُ، ثُمَّ عُهْدَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ عُهْدَةُ الشَّفِيعِ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْبَائِعِ، وَلَكِنَّ الْبَائِعَ يُسَلِّمُهُ إلَى الْمُشْتَرِي وَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِعِوَضٍ، وَالْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِعِوَضٍ عَقَارًا كَانَ أَوْ مَنْقُولًا وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَأْخُذُ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ وَعُهْدَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِلَيْهِ يَدْفَعُ الثَّمَنَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يَثْبُتُ بِالشِّرَاءِ فَكَانَ مِنْ حُقُوقِ الشِّرَاءِ وَمَا يَكُونُ مِنْ حُقُوقِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ نَاسِخًا لَهُ وَكَيْف يَكُونُ أَخْذُ الشَّفِيعِ نَاسِخًا لِلْبَيْعِ، وَهُوَ مُبْطِلٌ حَقَّهُ كَمَا لَوْ ظَهَرَ بُطْلَانُ الْبَيْعِ مِنْ الْأَصْلِ وَإِذَا نَفَى الشِّرَاءَ كَانَ الشَّفِيعُ مُتَمَلِّكًا عَلَى الْمُشْتَرِي فَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أُخِذَ مِنْ يَدِهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي نَقَدَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ، فَالشَّفِيعُ يَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي وَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي نَقَدَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ، فَالشَّفِيعُ يَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ وَيَسْقُطُ حَقُّ الْبَائِعِ مِنْ الثَّمَنِ قَبْلَ الْمُشْتَرِي وَعُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْبَائِعِ، فَأَمَّا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَهُوَ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ ثَبَتَ بِالْبَيْعِ قَبْلَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَيَدِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُنْت بِعْت هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ وَقَالَ فُلَانٌ مَا اشْتَرَيْت كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِثُبُوتِ الْبَيْعِ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مِلْكُ الْمُشْتَرِي لِإِنْكَارِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَخْذِ قَبْلَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَقَبْلَ قَبْضِهِ أَوْلَى وَإِذَا أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ فَاتَ بِأَخْذِهِ الشُّفْعَةَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ كَمَا لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ.
وَهَذَا؛ لِأَنَّ يَدَ الشَّفِيعِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا نَائِبَةً عَنْ يَدِ الْمُشْتَرِي لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ الثَّانِي هُنَاكَ يُمْكِنُ جَعْلُهَا نَائِبَةً عَنْ يَدِ الْأَوَّلِ، فَلَا يَفُوتُ قَبْضُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ مَعْنًى، ثُمَّ إنْ حَضَرَ الشَّفِيعُ، وَالدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ الْخَصْمُ لِلشَّفِيعِ يَأْخُذُهُ مِنْ يَدِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ قَدْ انْتَهَى بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي وَصَارَ هُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَالشَّفِيعُ بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُشْتَرِي مِلْكَهُ وَيَدَهُ وَكَانَ هُوَ الْخَصْمُ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَضْرَةِ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا لِخُصُومَةِ الشَّفِيعِ فِي الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، وَالْيَدَ لِلْبَائِعِ، وَالشَّفِيعُ يُرِيدُ اسْتِحْقَاقَهُمَا جَمِيعًا فَيُشْتَرَطُ حُضُورُهُمَا لِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ فِي يَدِهِ، وَالشَّفِيعُ لَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ غَيْرِ مَنْ فِي يَدِهِ وَاحِدَةٌ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ مُوجِبُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ، إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي فَيُشْتَرَطُ حُضُورُهُمَا لِذَلِكَ.
وَإِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ مِنْ الْمُشْتَرِي الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِ كَتَبَ عَلَيْهِ نَحْوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْكِتَابِ التَّوَثُّقُ، وَالِاحْتِيَاطُ، فَالسَّبِيلُ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى أَحْوَطِ الْوُجُوهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: يَكْتُبُ عَلَى إقْرَارِهِ كِتَابًا أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهَا، وَأَنَّ هَذَا كَانَ شَفِيعَهَا فَطَلَبَ أَخْذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَسَلَّمَهَا إلَيْهِ لِشُفْعَتِهِ فِيهَا وَقَبَضَ مِنْهُ الثَّمَنَ وَدَفَعَ إلَيْهِ الدَّارَ وَضَمِنَ لَهُ الدَّرَكَ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الشُّهُودَ وَيَأْخُذُ أَيْضًا مِنْ الْمُشْتَرِي كِتَابَ الشِّرَاءِ الَّذِي عِنْدَهُ، فَذَلِكَ أَحْوَطُ لَهُ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ مَلَكَهُ، ثُمَّ الِاحْتِيَاطُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى شَهَادَةِ الشُّهُودِ فِيهِ حَتَّى إذَا جَحَدَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ يَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْحُجَّةِ، وَإِنْ أَخَذَ الدَّارَ مِنْ الْبَائِعِ كَتَبَ أَيْضًا عَلَيْهِ نَحْوَ ذَلِكَ وَزَادَ فِيهِ، وَقَدْ سَلَّمَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَجَازَهُ وَأَقَرَّ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَلَا فِي ثَمَنِهَا، وَإِنْ شَاءَ كَتَبَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمَا بِتَسْلِيمِ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ إلَيْهِ وَقَبَضَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ بِرِضَاهُمَا، وَضَمَانُ الْبَائِعِ الدَّرَكَ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَخْذِ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ يَحْتَاجُ إلَى حَضْرَتِهِمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُقْتَضِيًا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ، فَأَمَّا أَنْ يَكْتُبَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمَا، أَوْ عَلَى الْبَائِعِ وَيَذْكُرَ فِيهِ تَسْلِيمَ الْمُشْتَرِي أَيْضًا؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَحْوَطُ لِلشَّفِيعِ.
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ وَطَلَبهَا الشَّفِيعُ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا.
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ صِفَةُ الدَّيْنِ يُقَالُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ وَدَيْنٌ حَالٌّ وَلِلشَّفِيعِ حَقُّ الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الْمُشْتَرِي بِصِفَتِهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ زُيُوفٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْأَجَلُ مُدَّةً يَلْحَقُهُ بِالشَّرْطِ بِالْعَقْدِ شَرْطٌ، فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ كَالْخِيَارِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْأَجَلِ فِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ، وَالْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ فَكَيْفَ يَكُونُ صِفَةً لِلثَّمَنِ، ثُمَّ النَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي مَلَاةِ الذِّمَّةِ فَبِرِضَا الْبَائِعِ يَكُونُ مَالُهُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لَا يَكُونُ رِضًا مِنْهُ بِكَوْنِهِ فِي ذِمَّةِ الشَّفِيعِ؛ وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ بِمِثْلِ مَا يَتَمَلَّكُ بِهِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمَالِ، فَلَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ كَالْمَوْلَى، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، ثُمَّ وَلَّاهُ غَيْرُهُ لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِدُونِ الذِّكْرِ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَنَقُولُ: الشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ حَالًّا وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ حُلُولَ الْأَجَلِ فَإِذَا حَلَّ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ حَالًّا وَإِذَا اخْتَارَ الِانْتِظَارَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ فِي الْحَالِ حَتَّى إذَا لَمْ يَطْلُبْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ كَانَ يَقُولُ هَكَذَا أَوَّلًا، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَهُ: أَنْ يَأْخُذَهَا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ قَدْ ثَبَتَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ بِثَمَنٍ حَالٍّ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَالسُّكُوتُ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ ثُبُوتِ حَقِّهِ يُبْطِلُ شُفْعَتَهُ وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ أَنَّ الطَّلَبَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لَعَيْنِهِ، بَلْ لِلْآخِذِ، وَهُوَ فِي الْحَالِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَطْلُبُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ الْأَخْذَ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، أَوْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فِي الْحَالِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا فَائِدَةَ فِي طَلَبِهِ فِي الْحَالِ وَسُكُوتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ فِيهِ فَائِدَةً لَا لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الْأَخْذِ، وَإِنْ اخْتَارَ أَخْذَهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي وَدَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ فِي الْحَالِ كَانَ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَى أَجَلِهِ لِتَقَرُّرِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا.
وَإِذَا كَانَ لِلدَّارِ شَفِيعَانِ فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ، إلَّا أَنْ يَأْخُذَهَا كُلَّهَا، أَوْ يَدَعَهَا؛ لِأَنَّ مُزَاحَمَةَ الْمُسَلِّمِ قَدْ زَالَتْ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الشَّفِيعُ فِي حَقِّهِ، إلَّا وَاحِدًا، وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ؛ لِمَا فِي الْأَخْذِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَالْإِضْرَارِ بِالْمُشْتَرِي فِي تَبْعِيضِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ، وَالشَّفِيعُ بِالْأَخْذِ يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِغَيْرِهِ، ثُمَّ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّفِيعَيْنِ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْمَبِيعِ لِتَكَامُلِ الْعِلَّةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إلَّا أَنَّهُمَا إذَا طَلَبَا قَضَى الْقَاضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ لِلْمُزَاحَمَةِ وَنَفْيِ الضِّيقِ فِي الْمَحَلِّ، فَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ بَقِيَ حَقُّ الْآخَرِ فِي الْكُلِّ كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلَيْنِ عَمْدًا فَعَفَا عَنْهُ وَلِيُّ أَحَدِهِمَا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ اثْنَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا، وَالْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بِالشُّفْعَةِ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَاحِدًا لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِ الْبَعْضِ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُشْتَرِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَبَعَّضُ عَلَيْهِ الْمَالُ وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ، فَإِنَّمَا مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ، وَلَيْسَ فِي أَخْذِ الشَّفِيعِ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا إضْرَارٌ بِالْآخَرِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَخْذَهُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجَارِ الْحَادِثِ وَبِأَخْذِ الْبَعْضِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمُشْتَرِي لَا يَنْدَفِعُ ضَرَرُ مُجَاوَرَتِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ، إلَّا الْإِضْرَارَ بِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ، فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِجِوَارِهِ، وَالْآخَرُ مِمَّنْ يَتَضَرَّرُ بِجِوَارِهِ، فَهُوَ يَقْصِدُ دَفْعَ ضَرَرِ جَارِ السُّوءِ بِأَخْذِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ إذَا كَانَ الْبَائِعُ اثْنَيْنِ فَأَرَادَ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ يَتَمَلَّكُ عَلَى الْبَائِعِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ عُهْدَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ، وَالْمِلْكُ فِي حَقِّ الْبَائِعَيْنِ مُتَفَرِّقٌ وَبَعْدَ الْقَبْضِ إنَّمَا يُتَمَلَّكُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَالْمِلْكُ فِي حَقِّهِ مُجْتَمِعٌ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا، وَالْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ فَقَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ لِاجْتِمَاعِ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ لَهُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ، فَأَمَّا قَوْلُهُ الْآخَرُ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ جَانِبُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ فَسَّرَهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَاحِدَ إذَا اشْتَرَى دَارَ الرَّجُلَيْنِ فَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ لِوَاحِدٍ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ النِّصْفَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي اثْنَانِ، وَالْعَاقِدُ لِغَيْرِهِ فِي بَابِ الشِّرَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فِي أَحْكَامِ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ اثْنَيْنِ، وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا فَطَلَبَ نَصِيبَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ لَمْ تَبْطُلْ بِذَلِكَ شُفْعَتُهُ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا كُلَّهَا مَقْسُومَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَقْسُومَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَا أَعْرَضَ عَنْ الطَّلَبِ، وَلَكِنَّهُ أَظْهَرَ الطَّلَبَ، وَالرَّغْبَةَ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِتَقْسِيمٍ لَمْ يَجْعَلْ الشَّرْعُ لَهُ ذَلِكَ فَيَبْطُلُ تَقْسِيمُهُ وَيَبْقَى حَقُّهُ فِي جَمِيعِ الدَّارِ وَيَأْخُذُهُ إنْ شَاءَ وَلَوْ أَخْبَرَ الشَّفِيعُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فُلَانُ، فَقَالَ: قَدْ سَلَّمْت لَهُ، فَإِذَا الْمُشْتَرِي غَيْرُهُ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمُجَاوَرَةِ فَرِضَاهُ بِمُجَاوَرَةِ إنْسَانٍ لَا يَكُونُ رِضًا مِنْهُ بِمُجَاوَرَةِ غَيْرِهِ وَهَذَا التَّقَيُّدُ مِنْهُ مُفِيدٌ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي فُلَانًا، فَقَدْ سَلَّمْت الشُّفْعَةَ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ غَيْرُهُ، فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ فُلَانٌ وَآخَرُ مَعَهُ صَحَّ تَسْلِيمُهُ فِي نَصِيبِ فُلَانٍ، وَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِمُجَاوَرَةِ أَحَدِهِمَا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ رِضًا بِمُجَاوَرَةِ الْآخَرِ، وَالْبَعْضُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الثَّمَنَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ فَتَسْلِيمُهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَلَهُ الشُّفْعَةُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا شُفْعَةَ لَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بَعْدَ مَا وَجَبَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ وَرَضِيَ بِمُجَاوَرَةِ هَذَا الْمُشْتَرِي، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ ذَلِكَ بَعْدَ الرِّضَا بِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا أَسْقَطَ حَقَّهُ بِشَرْطٍ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ بَنَى تَسْلِيمَهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَالْخِطَابُ السَّابِقُ كَالْمَعَادِ فِيمَا بَنِي عَلَيْهِ مِنْ الْجَوَابِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَلَّمْت إنْ كَانَ الثَّمَنُ أَلْفًا، وَإِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى هَذَا التَّسْلِيمِ لِغَلَاءِ الثَّمَنِ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيلِ الْأَلْفِ، وَلَا يَزُولُ هَذَا الْمَعْنَى إذَا كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ، بَلْ يَزْدَادُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ الْأَلْفِ، فَقَدْ انْعَدَمَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ لِأَجْلِهِ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ، فَيَكُونُ عَلَى حَقِّهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ شِرَاءُ، وَقَدْ يَرْغَبُ الْمَرْءُ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ عِنْدَ قِلَّةِ الثَّمَنِ، وَلَا يَرْغَبُ فِيهِ عِنْدَ كَثْرَةِ الثَّمَنِ وَلَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ قَبْلَ الشِّرَاءِ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ حَقِّهِ بِالشِّرَاءِ، وَالْإِسْقَاطِ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُودِ يَكُونُ لَغْوًا كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الثَّمَنِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَلَوْ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ شَيْءٌ مِمَّا يُكَالُ، أَوْ يُوزَنُ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فَإِذَا الثَّمَنُ مِنْ صِنْفٍ آخَرَ أَقَلَّ مِمَّا يُسَمَّى لَهُ، أَوْ أَكْثَرَ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ جِنْسٌ دُونَ جِنْسٍ وَكَانَ هَذَا التَّقْيِيدُ مُفِيدًا فِي حَقِّهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَلَّمَتْ إنْ كَانَ الثَّمَنُ كُرًّا مِنْ شَعِيرٍ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الثَّمَنَ كُرٌّ مِنْ حِنْطَةٍ، فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ لَوْ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ عَبْدٌ، أَوْ ثَوْبٌ، أَوْ دَابَّةٌ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، فَهُوَ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ الشَّفِيعُ يَأْخُذُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ الْمُشْتَرِي وَفِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ يَأْخُذُ بِقِيمَتِهِ دَرَاهِمَ، وَقَدْ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ جِنْسٍ مِنْ الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ الدَّرَاهِمِ فَكَانَ هَذَا التَّقْيِيدُ مُفِيدًا فِي حَقِّهِ وَلَوْ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِينَارٍ قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ فَعِنْدنَا هُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إنْ كَانَ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنْ الْأَلْفِ وَإِلَّا فَتَسْلِيمُهُ صَحِيحٌ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ هُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ؛ وَلِهَذَا حَلَّ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَلَّمْت إنْ كَانَ الثَّمَنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الثَّمَنَ دَنَانِيرُ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ كَمَا فِي الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ جِنْسَانِ صُورَةً، وَلَكِنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمَالِيَّةُ وَالثَّمَنِيَّةُ وَمُبَادَلَةُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ يَتَيَسَّرُ فِي الْعَادَةِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ رِضَاهُ بِالصُّورَةِ، وَإِنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَعْنَى وَهُوَ مِقْدَارُ الْمَالِيَّةِ، فَيَكُونُ تَسْلِيمُهُ صَحِيحًا إذَا كَانَتْ مَالِيَّةُ الثَّمَنِ أَقَلَّ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَرْغَبُ فِي شِرَاءِ الشَّيْءِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَا يَرْغَبُ فِي شِرَائِهِ أَيْضًا بِمِائَةِ دِينَارٍ قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمَا لَا يَكُونُ مُقَيَّدًا مِنْ التَّقْيِيدِ لَا يُعْتَبَرُ وَلَوْ قِيلَ لَهُ اشْتَرَاهَا بِعَبْدٍ، أَوْ ثِيَابٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ، فَإِذَا الثَّمَنُ دَرَاهِمُ، أَوْ دَنَانِيرُ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ يَأْخُذُهَا بِالْقِيمَةِ، فَقَدْ يَصِيرُ مَغْبُونًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَقْوِيمَ الشَّيْءِ بِالظَّنِّ يَكُونُ قَائِمًا أَقْدَمَ عَلَى التَّسْلِيمِ لِهَذَا وَيَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَرَاهِمَ وَلَوْ قِيلَ لَهُ إنَّهُ اشْتَرَاهَا بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فَإِذَا قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَهُ الشَّفَةُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِنَّمَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهِ فَكَانَ هَذَا فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ، فَإِذَا كَانَ لِثَمَنٍ أَقَلَّ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ لَمْ يَكُنْ هُوَ رَاضِيًا بِسُقُوطِ حَقِّهِ.
وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ رِجَالٍ، إلَّا مَوْضِعَ بِئْرٍ، أَوْ طَرِيقٍ فِيهَا فَبَاعَ الشَّرِيكُ فِي الْجَمِيعِ نَصِيبَهُ مِنْ جَمِيعِ الدَّارِ، فَالشَّرِيكُ الَّذِي لَهُ فِي جَمِيعِ الدَّارِ نَصِيبٌ أَحَقُّ مِنْ الْآخَرِ الَّذِي لَهُ فِي بَعْضِ الدَّارِ نَصِيبٌ؛ لِأَنَّ شَرِكَتَهُ أَعَمُّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ يَكُونُ أَقْوَى سَبَبًا، فَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْبَائِعِ وَبَيْنَهُ لَا حَقَّ لِلثَّالِثِ فِيهِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْبِئْرِ، أَوْ الطَّرِيقُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَقُّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَذَلِكَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا صَارَ أَحَدُهُمْ أَحَقَّ بِالتَّبْعِيضِ كَانَ أَحَقَّ بِالْجَمِيعِ وَإِنْ اخْتَلَفَا الْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي، وَالشَّفِيعُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَالدَّارُ مَقْبُوضَةٌ، أَوْ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ وَيَثْبُتُ حُكْمُ التَّحَالُفِ بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي بِالنَّصِّ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْبَائِعِ ظَهَرَ مِقْدَارُ الثَّمَنِ فِي حَقِّهِ بِخَبَرِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَظْهَرْ فِي إلْزَامِ الْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ فِي جَانِبِ الشَّفِيعِ إلْزَامٌ، بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ فَيَأْخُذُهُ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ إنْ شَاءَ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَاسْتَوْفَيْت الثَّمَنَ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتهَا بِأَلْفَيْنِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْتهَا إيَّاهُ وَاسْتَوْفَيْت الثَّمَنَ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتهَا بِأَلْفَيْنِ وَنَقَدْته الثَّمَنَ لَمْ يَأْخُذْهَا الشَّفِيعُ، إلَّا بِأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ يَنْتَهِي بِوُصُولِ الثَّمَنِ إلَيْهِ، فَإِذَا بَدَأَ فَأَقَرَّ بِجَمِيعِ قَبْضِ الثَّمَنِ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ مِقْدَارَهُ، فَقَدْ انْتَهَى حُكْمُ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِ وَصَارَ هُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَلَا قَوْلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيَانِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَبَقِيَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشَّفِيعِ، وَالْمُشْتَرِي، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي فَأَمَّا إذَا بَدَأَ بِبَيَانِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ قَبْلَ أَنْ يُقِرَّ بِقَبْضِهِ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الثَّمَنَ ذَلِكَ الْقَدْرُ بِخَبَرِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الثَّمَنُ وَثَبَتَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الْأَخْذِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ، فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ الْوَصِيُّ اسْتَوْفَيْت جَمِيعَ مَا لِلْمَيِّتِ عَلَى غَرِيمَهُ فُلَانٍ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْغَرِيمُ، بَلْ كَانَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَقَدْ أَوْفَيْتُك جَمِيعَ ذَلِكَ، فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لِلْأَلْفَيْنِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْغَرِيمِ وَلَوْ قَالَ: اسْتَوْفَيْت مِنْ الْغَرِيمِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ جَمِيعُ مَالِ الْمَيِّتِ عَلَيْهِ، فَقَالَ فُلَانٌ: كَانَ عَلَيَّ أَلْفَا دِرْهَمٍ، وَقَدْ أَوْفَيْتُك الْكُلَّ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ أُخْرَى، وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا وَفَرَّعَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَمَالِي عَلَى هَذَا، فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَقَالَ: بِعْتهَا إيَّاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَاسْتَوْفَيْت الثَّمَنَ وَأَخَذَهَا الشَّفِيعُ مِنْ يَدِهِ بِأَلْفٍ، فَالْمُشْتَرِي عَلَى حُجَّتِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَائِعِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَلْفَيْنِ إنْ أَثْبَتَ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفَا دِرْهَمٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ انْفَسَخَ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي فَيَرْجِعُ بِمَا أَوْفَاهُ مِنْ الثَّمَنِ وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْتهَا بِأَلْفَيْنِ وَلَمْ أَنْقُدْ، إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَأْخُذْهَا الْمُشْتَرِي، وَلَا الشَّفِيعُ، إلَّا بِأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي إثْبَاتِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ قَوْلُ الْبَائِعِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ كَمَالُ الثَّمَنِ وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَحَطَّ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي تِسْعَمِائَةٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَأْخُذُهَا، إلَّا بِالْأَلْفِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ الزِّيَادَةَ، وَالْحَطَّ فِي بَعْضِ الثَّمَنِ يَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ الْمُبْتَدَأَةِ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَنَا الْحَطُّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، فَالْمَحْطُوطُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا، وَإِنَّمَا ثَمَنُ الدَّارِ مَا بَقِيَ فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الشَّفِيعُ أَخَذَهَا بِأَلْفٍ، ثُمَّ حَطَّ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي تِسْعَمِائَةٍ، فَإِنَّهُ يَنْحَطُّ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَنْ الشَّفِيعِ أَيْضًا حَتَّى يَرْجِعَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ فَوْقَ حَقِّهِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ حَطَّ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي مِائَةً، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَحْطُوطَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الثَّمَنَ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ وَلَوْ وَهَبَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ كُلَّهُ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِهِ، أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَحُطَّ الْمُشْتَرِي عَنْ الشَّفِيعِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ هِبَةَ جَمِيعِ الثَّمَنِ لَا تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، فَإِنَّ الْتِحَاقَ الْحَطِّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِيَدْفَعَ الْعَيْنَ وَيَعْتَبِرَ صِفَةَ الْعَقْدِ فِيهِ؛ لِيَصِيرَ عَدْلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ رَابِحًا، أَوْ خَاسِرًا، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي هِبَةِ جَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَصِيرُ مَغْبُونًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ يُوضِحُهُ إنْ حَطَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ لَوْ الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ الْعَقْدُ هِبَةً، وَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِي الْهِبَةِ، أَوْ يَصِيرُ بَيْعًا بِغَيْرِ ثَمَنٍ، فَيَكُونُ فَاسِدًا، وَلَا شُفْعَةَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقَ الْجَمِيعِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ بِخِلَافِ حَطِّ الْبَعْضِ، فَإِنْ زَادَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ فِي الثَّمَنِ زِيَادَةً بَعْدَ الْعَقْدِ أَخَذَ الشَّفِيعُ الدَّارَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّ أَخْذَهَا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْحَقِّ الثَّابِتِ لَهُ، فَلَا يَمْلِكُ غَيْرُهُ أَيْضًا يُوضِحُهُ أَنَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يُلْزِمُ نَفْسَهُ شَيْئًا لِلْبَائِعِ وَيَلْزَمُ الشَّفِيعَ مِثْلُ ذَلِكَ وَلَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ الشَّفِيعِ فَيَعْمَلُ الْتِزَامُهُ فِي حَقِّهِ، وَلَا يَعْمَلُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ بَيْعًا مَعَ الْبَائِعِ بِأَكْثَرِ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ صَحَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَكَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ، وَالْحَطِّ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ فِي الْتِزَامِهِ الزِّيَادَةَ فِي حُكْمِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ إبْطَالُ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ وَلَوْ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَانَ لِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ سَبَبٌ تَامٌّ لِثُبُوتِ حَقِّ الْآخِذِ لَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ بِالشِّرَاءِ الثَّانِي يَأْخُذُهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَلَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ الْأَوَّلِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الشَّفِيعِ بِتَصَرُّفِهِ وَإِذَا أَخَذَهَا بِالشِّرَاءِ الْأَوَّلِ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلَ وَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا أَوْفَاهُ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِي قَدْ انْفَسَخَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ أَخَذَهَا بِحَقٍّ مُقَدَّمٍ عَلَى الْبَيْعِ الثَّانِي وَلَمْ يُشْتَرَطْ حَضْرَةُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ إذَا أَرَادَ أَخْذَهَا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَهَبَهَا مِنْ إنْسَانٍ، ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ، فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ خَصْمٌ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي حَقَّهُ فِي الْعَيْنِ الَّذِي يَزْعُمُ ذُو الْيَدِ أَنَّهُ مَلَكَهُ، فَيَكُونُ هُوَ خَصْمًا لَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا إذَا ادَّعَى مِلْكَ الْعَيْنِ لِنَفْسِهِ وَهُمَا يَقُولَانِ الشَّفِيعُ لَا يَدَّعِي حَقًّا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلَا فِي مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي حَقَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فِي مِلْكِهِ فَمَا لَمْ يَعُدْ مِلْكُهُ لَا يَتَبَيَّنُ مَحَلُّ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا يَعُودُ مِلْكُهُ إذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ الثَّانِي وَفَسْخُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ، إلَّا بِحَضْرَتِهِ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَأْذُونِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ تَصَرُّفًا آخَرَ بِأَنْ رَهَنَهَا، أَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ الْأُولَى، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى الشَّفِيعِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إنَّمَا الثَّمَنُ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَلَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الدَّارَ حَتَّى يَنْقُدَ الثَّمَنَ كَمَا لَا يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي الدَّارَ مِنْ الْبَائِعِ حَتَّى يَنْقُدَهُ ثَمَنَهَا، ثُمَّ قَدْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ، وَالْهِبَةُ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَتَرْجِعُ الْمَرْأَةُ عَلَى الزَّوْجِ بِقِيمَةِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مِنْ الصَّدَاقِ قَدْ اُسْتُحِقَّ فَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ شِقْصًا مِنْ دَارٍ فَقَاسَمَ شَرِيكَهُ بِحُكْمٍ، أَوْ بِغَيْرِ حُكْمٍ، ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَصَابَ الْمُشْتَرِي بِالْقِسْمَةِ، أَوْ يَتْرُكُهُ، وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَبْضِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْقَبْضِ الْحِيَازَةُ وَتَمَامُ الْحِيَازَةِ تَكُونُ بِالْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ قَبْلَ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ قِسْمَتَهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ نَقَضَ الْقِسْمَةَ احْتَاجَ إلَى إعَادَتِهَا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مُطَالَبٌ بِالْقِسْمَةِ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِنَقْضِ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهِ فِي الْحَالِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: هَذَا إذَا قُسِّمَ بِأَمْرِ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا بِالتَّرَاضِي فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ تِلْكَ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ بِالتَّرَاضِي مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، فَهِيَ كَتَصَرُّفٍ آخَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَهُ، وَقَدْ يُفِيدُهُ هَذَا النَّقْضُ فَرُبَّمَا يَقَعُ نَصِيبُهُ فِي الْقِسْمَةِ الثَّانِيَة فِيمَا يُجَاوِزُ مِلْكَهُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي قَسَّمَ فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، وَلَكِنَّهُ تَعَيَّنَ الْمَبِيعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَهُوَ مَا سَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ.
وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ بِثَمَنٍ مُسَمًّى، فَهِيَ لَازِمَةٌ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهَا، إلَّا بِرِضَا الْمُشْتَرِي، أَوْ يَحْدُثُ فِي الدَّارِ عَيْبٌ؛ لِأَنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلشَّفِيعِ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَيُؤَكَّدُ، فَيَكُونُ حَالُهُ مَعَ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ حَالِ الْمُشْتَرِي مَعَ الْبَائِعِ وَبَعْدَ الْبَيْعِ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهَا، إلَّا بِالْإِقَالَةِ بِرِضَاءِ الْبَائِعِ، أَوْ بِعَيْبٍ يَجِدُهُ فِي الدَّارِ فَكَذَلِكَ حَالُ الشَّفِيعِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ سَأَلَ الْبَائِعَ أَنْ يُقِيلَهُ فَأَقَالَهُ جَازَتْ الْإِقَالَةُ وَهِيَ لِلْبَائِعِ، وَقَدْ بَرِئَ مِنْهَا الشَّفِيعُ، وَالْمُشْتَرِي أَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ الْبَيْعَ انْفَسَخَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَائِعِ حِينَ قَضَى الْقَاضِي بِهَا لِلشَّفِيعِ عَلَى الْبَائِعِ وَأَمَّا الشَّفِيعُ فَلِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِهَا بِذَلِكَ الْبَيْعِ وَإِقَالَةُ الْمُشْتَرِي مَعَ الْبَائِعِ كَانَتْ تَصِحُّ قَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ فَكَذَلِكَ إقَالَةُ الشَّفِيعِ مَعَ الْبَائِعِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الشَّفِيعَ لَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ بِالْعَقْدِ الَّذِي بَاشَرَهُ الْمُشْتَرِي صَارَ الْمُشْتَرِي فِي مَعْنَى الْوَكِيلِ لَهُ وَإِقَالَةُ الْمُوَكِّلِ مَعَ الْبَائِعِ صَحِيحَةٌ فَكَذَلِكَ إقَالَةُ الشَّفِيعِ مَعَ الْبَائِعِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ فِي يَدَيْ الْمُشْتَرِي فَقَضَى بِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ رَدَّهَا الشَّفِيعُ عَلَى الْبَائِعِ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَالشَّفِيعُ، وَالْمُشْتَرِي بَرِيئَانِ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَمَّا عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّفِيعَ كَالْمُوَكِّلِ وَإِقَالَةُ الْمُوَكِّلِ مَعَ الْبَائِعِ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ إقَالَةُ الشَّفِيعِ مَعَ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ أَخْذُهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي وَأَمَّا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ بَعْضُ الْإِشْكَالِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الشَّفِيعِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ مُبْتَدَإٍ فِيمَا بَيْنَهُمَا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ عُهْدَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إقَالَةُ الشَّفِيعِ مَعَ الْبَائِعِ فِي حَقِّ بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي حَتَّى قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا هَذِهِ الْإِقَالَةُ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ فَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الْإِقَالَةُ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ فَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي بَيْعِ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ اسْتَشْهَدَ فِي الْكِتَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ إقَالَةِ الشَّفِيعِ مَعَ الْبَائِعِ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْإِقَالَةِ يَتَبَعَّضُ حَقُّ الْمُشْتَرِي وَيَصِيرُ كَأَنَّ الشَّفِيعَ أَخَذَهَا مِنْ يَدِ الْبَائِعِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ يَثْبُتُ سَابِقًا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُ، فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِحَقِّهِ فَمِلْكُهُ لَا يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي، بَلْ هُوَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُشْتَرِي فِي الْإِقَالَةِ مَعَ الْبَائِعِ وَمِلْكُ الْإِقَالَةِ بِمِلْكِ الْمَبِيعِ لَا بِالْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَارِثَ يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ؛ لِأَنَّهُ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِهِ، فَإِذَا قَامَ الشَّفِيعُ مَقَامَ الْمُشْتَرِي فِي الْمِلْكِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي مَلَكَ الْإِقَالَةَ مَعَ الْبَائِعِ غَيْرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يُخْرِجُهَا مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ الْبَائِعَ الثَّمَنَ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَقَالَهُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا انْفَسَخَ عَقْدُهُ يَكُونُ حَالُهُ فِي الْحَبْسِ كَحَالِ الْبَائِعِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَقَدْ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْفَسْخِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ الثَّمَنَ.
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا لِرَجُلٍ غَائِبٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ نَائِبٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ فِيهَا، ثُمَّ الْعَاقِدُ لِغَيْرِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَائِعُ وَكِيلًا لِغَائِبٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَائِعُ وَصِيًّا لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ إذَا كَانُوا كِبَارًا كُلَّهُمْ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وَلَمْ يُوصِ بِشَيْءٍ تُبَاعُ فِيهِ الدَّارُ حَتَّى يَنْقُدَ ذَلِكَ لَمْ يُجِزْ بَيْعُ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْوَرَثَةِ وَهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ النَّظَرِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ صَغِيرٌ جَازَ بَيْعُ الْوَصِيِّ فِي جَمِيعِ الدَّارِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ مِنْ ثَمَنِ الدَّارِ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ (وَفِي الْقِيَاسِ) لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، إلَّا فِي نَصِيبِ الصَّغِيرِ خَاصَّةً، أَوْ بِقَدْرِ الدَّيْنِ، وَالْوَصِيَّةُ اعْتِبَارٌ لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ (وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ) أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ: الْوِلَايَةُ بِالْوِصَايَةِ لَا تَتَجَزَّأُ، فَإِذَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ الدَّارِ ثَبَتَ فِي كُلِّهَا وَفِي بَيْعِ الْكُلِّ مَنْفَعَةٌ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ، فَالْجُمُلُ يُشْتَرَى بِمَا لَا يُشْتَرَى بِهِ الْأَشْقَاصُ وَإِذَا بَلَغَ الشَّفِيعُ شِرَاءَ نِصْفِ الدَّارِ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ اشْتَرَى جَمِيعَهَا كَانَ لَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ النِّصْفَ وَكَانَ حَقُّهُ فِي أَخْذِ الْكُلِّ، وَالْكُلُّ غَيْرُ النِّصْفِ، فَلَا يَكُونُ إسْقَاطُ النِّصْفِ إسْقَاطًا لِلْكُلِّ وَلَوْ أُخْبِرَ بَيْع الْكُلّ فَسَلَّمَ، ثُمَّ عِلْم أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَى النِّصْف، فَلَا شُفْعَة لَهُ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَة تَسْلِيم الْكُلّ تَسْلِيم النِّصْف الَّذِي هُوَ حَقّه يُوضِح الْفَرْق أَنَّ الْأَشْقَاص لَا يُرْغَب فِيهَا كَمَا يُرْغَب فِي الْجُمَل، وَإِنَّمَا سَلَّمَ حِين أُخْبِرَ بِشِرَاءِ النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْغَبْ فِيهِ مَعَ عَيْبِ الشَّرِكَةِ، فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعِيبًا فَأَمَّا إذَا سَلَّمَ وَلَمْ يَرْغَبْ فِي الْأَخْذِ بِدُونِ عَيْبِ الشَّرِكَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ رَاغِبًا فِيهِ مَعَ عَيْبِ الشَّرِكَةِ وَذَكَرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَلَى ضِدِّ هَذَا، فَقَالَ: إذَا أُخْبِرَ بِشِرَاءِ النِّصْفِ فَسَلَّمَ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ اشْتَرَى الْجَمِيعَ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ وَإِذَا أُخْبِرَ بِشِرَاءِ الْجَمِيعِ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ اشْتَرَى النِّصْفَ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ ثَمَنِ النِّصْفِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ ثَمَنِ الْجَمِيعِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ حَاجَةٌ إلَى النِّصْفِ لِيُتِمَّ بِهِ مَرَافِقَ مِلْكِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْجَمِيعِ.
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا فَعَلِمَ الشَّفِيعُ وَقَالَ قَدْ سَلَّمْتهَا أَوْ سَلَّمْت نِصْفَ الشُّفْعَةِ كَانَ مُسَلِّمًا لِجَمِيعِهَا أَمَّا إذَا سَلَّمَ الْكُلَّ فَلِأَنَّهُ أَسْقَطَ الْحَقَّ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَأَمَّا إذَا سَلَّمَ النِّصْفَ فَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتًا وَاسْتِيفَاءً، فَلَا يَتَجَزَّأُ إسْقَاطًا أَيْضًا وَمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَذِكْرُ بَعْضِهِ كَذِكْرِ كُلِّهِ كَمَا لَوْ طَلَّقَ نِصْفَ امْرَأَتِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ تَسْلِيمَ النِّصْفِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي أَخْذِ النِّصْفِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ إسْقَاطُهُ فِيمَا لَهُ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِنْهُ إظْهَارٌ لِرَغْبَةٍ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الدَّارِ وَهُوَ النِّصْفُ، وَإِنَّمَا يُسْقِطُ شُفْعَتَهُ بِأَعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ لَا بِإِظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِيهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِيمَا إذَا كَانَ طَلَبَ أَوَّلًا، ثُمَّ سَلَّمَ النِّصْفَ أَمَّا إذَا قَالَ كَمَا سَمِعَ سَلَّمْت نِصْفَ الشُّفْعَةِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ كَمَا لَوْ سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ.
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا فَغَرِقَ بِنَاؤُهَا، أَوْ احْتَرَقَ وَبَقِيَتْ الْأَرْضُ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا، إلَّا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلَوْ أَحْرَقَ الْبِنَاءَ بِيَدِهِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ إذَا قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَا يَأْخُذُ، إلَّا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا فِي الْوَجْهَيْنِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْبُيُوعِ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ الثَّمَنَ بِمُقَابِلَةِ الْأَصْلِ دُونَ الْأَوْصَافِ حَتَّى إنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ فِي يَدِ الْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسْقِطُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَكَذَلِكَ فَوَاتُ الْوَصْفِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْبَيْعِ مُرَابَحَةً عَلَى جَمِيعِ الثَّمَنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ الْبِنَاءُ وَصْفٌ وَبَيْعٌ؛ وَلِهَذَا دَخَلَ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْبِنَاءِ بِالْأَرْضِ كَقِيَامِ الْوَصْفِ بِالْمَوْصُوفِ، فَإِذَا فَاتَ الْبِنَاءُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، فَقَدْ فَاتَهُ مَا هُوَ بَيْعٌ، فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِذَا فَوَّتَهُ الْمُشْتَرِي، فَقَدْ صَارَ مَقْصُودًا يَتَنَاوَلهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الثَّمَنِ بِمُقَابِلَتِهِ كَمَا لَوْ فَوَّتَ الْبَائِعُ طَرَفَ الْمَبِيعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الشَّفِيعِ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ احْتَرَقَ مِنْهَا جِذْعٌ، أَوْ بَابٌ، أَوْ، وَهِيَ مِنْهَا حَائِطٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً فَكَذَلِكَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ وَإِنْ هَدَمَ الْبِنَاءَ بِيَدِهِ، ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ يَوْمَ وَقَعَ الشِّرَاءُ فَيَأْخُذُ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَايَلَ الْأَرْضَ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَنْقُولٌ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ثُبُوتُ حَقِّهِ فِيهِ لِاتِّصَالِهِ بِالْأَرْضِ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْبِنَاءِ حَقٌّ وَلَوْ انْهَدَمَ الْبِنَاءُ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يُقَسِّمُ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ يَوْمَ وَقَعَ الْعَقْدُ وَقِيمَةِ النَّقْصِ؛ لِأَنَّ الِانْهِدَامَ لَمْ يَكُنْ بِصُنْعِ الْمُشْتَرِي، فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الِاحْتِبَاسُ عِنْدَهُ، وَالْمُحْتَبَسُ هُوَ النَّقْصُ؛ لِأَنَّهُ زَايَلَ الْبِنَاءَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي قَسَّمَ الْبِنَاءَ؛ فَلِهَذَا قَسَّمْنَا الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ يَوْمَ وَقَعَ الشِّرَاءُ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الدَّارُ تُسَاوِي أَلْفًا، وَالثَّمَنُ أَلْفٌ وَقِيمَةُ النَّقْصِ مِائَةٌ وَقِيمَةُ الْأَرْضِ خَمْسُمِائَةٍ وَقِيمَةُ التَّأْلِيفِ أَرْبَعُمِائَةٍ فَفِي الِانْهِدَامِ يَسْقُطُ عَنْهُ قِيمَةُ النَّقْصِ وَفِي الْهَدْمِ يَأْخُذُ بِحِصَّةِ الْأَرْضِ لَا غَيْرَ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ اسْتَهْلَكَ الْبِنَاءَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ فَأَخَذَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ، فَإِنْ سَلَامَةَ بَدْلِ الْبِنَاءِ لِلْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ سَلَامَةِ الْبِنَاءِ لَهُ أَنْ لَوْ هُدِمَ بِيَدِهِ وَلَمْ يُذْكَرْ مَا إذَا نَوَى الْقِيمَةَ عَلَى الَّذِي هَدَمَ الْبِنَاءَ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الدَّارَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ كَمَا لَوْ احْتَرَقَ الْبِنَاءُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ فَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا عَلَى الَّذِي هَدَمَ الْبِنَاءَ مِنْ الْقِيمَةِ رَجَعَ الشَّفِيعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّةِ الْبِنَاءِ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقًّا بِمِلْكِ الْأَرْضِ بِثُلُثِ الثَّمَنِ، وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَزْعُمُ أَنَّ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَالْقَوْلُ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَار الثَّمَنِ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي لِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي حَكَاهَا أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ هُنَاكَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ هُنَا؛ لِأَنَّهَا مُلْزِمَةٌ دُونَ بَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي حَكَاهَا مُحَمَّدٌ هُنَاكَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا جَعَلْنَا الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَدَرَ مِنْهُ إقْرَارَانِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُنَا فَبَقِيَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَفِي بَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ فَكَانَتْ أَوْلَى كَذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْأَرْضِ يَوْمَ وَقَعَ الشِّرَاءُ نُظِرَ إلَى قِيمَتِهِ الْيَوْمَ فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِمَنْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ الْقِيمَةَ فِي الْحَالِ؛ وَلِأَنَّ تَمْيِيزَ الصَّادِقِ مِنْ الْكَاذِبِ بِالرُّجُوعِ إلَى قِيمَتِهِ فِي الْحَالِ مُمْكِنٌ فَيُسْتَدَلُّ بِقِيمَتِهَا فِي الْحَالِ عَلَى قِيمَتِهَا فِيمَا مَضَى.
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا فَوَهَبَ بِنَاءَهَا لِرَجُلٍ، أَوْ بَاعَهَا مِنْهُ، أَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَهُدِمَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ عَلَى الْبِنَاءِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُ زَايَلَ الْأَرْضَ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَنْقُولٌ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِالشُّفْعَةِ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ هَدْمَ الْبِنَاءِ كَانَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ كَمَا لَوْ هُدِمَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُهْدَمْ فَلَهُ أَنْ يُبْطِلَ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي وَيَأْخُذَ الدَّارَ كُلَّهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْبِنَاءِ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِالْأَرْضِ ثَابِتٌ وَلِلشَّفِيعِ حَقُّ نَقْضِ تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ فِي الْأَصْلِ، وَالْهِبَةِ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ وَيَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فَكَذَلِكَ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْبِنَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ بِحَقٍّ تَقَدَّمَ ثُبُوتَ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي إبْطَالِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِيهِ وَإِذَا سَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ لِلْمُشْتَرِي، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالشِّرَاءِ، فَهُوَ تَسْلِيمٌ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَعِلْمُهُ بِحَقِّهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْإِسْقَاطِ بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ وَإِيقَاعِ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا سَاوَمَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ (لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ) غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِهَا؛ لِمَا فِيهَا مِنْ دَلِيلِ الرِّضَا مِنْ الشَّفِيعِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الشَّفِيعُ بِهِ.
وَإِذَا اتَّخَذَ الْمُشْتَرِي الدَّارَ مَسْجِدًا، ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْمَسْجِدَ وَيَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ (وَرَوَى الْحَسَنُ) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ يَتَحَرَّرُ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِ الْعَبْدِ وَحَقُّ الشَّفِيعِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْمَرْهُونِ، ثُمَّ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ لَا يَمْنَعُ حَقَّ الرَّاهِنِ فَكَذَلِكَ حَقُّ الشَّفِيعِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ جَعْلِ الدَّارِ مَسْجِدًا وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ لِلشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ حَقًّا مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ جَعْلِهِ مَسْجِدًا؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ دَارِهِ مَسْجِدًا، أَوْ جَعَلَ وَسْطَ دَارِهِ مَسْجِدًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَذَلِكَ مَا فِيهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ إذَا جَعَلَهُ مَسْجِدًا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَسْجِدِ الضِّرَارِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِالشَّفِيعِ مِنْ حَيْثُ إبْطَالُ حَقِّهِ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ، وَيَرْفَعُ الْمُشْتَرِي بِنَاءَهُ الْمُحْدَثَ.
وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا فَهَدَمَ بِنَاءَهَا، ثُمَّ بَنَى فَأَعْظَمَ الْمَنْفَعَةَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ، وَالْبِنَاءِ الَّذِي كَانَ فِيهَا يَوْمَ اشْتَرَى وَتَسْقُطُ حِصَّةُ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ الَّذِي هَدَمَ الْبِنَاءَ وَيَنْقُضُ الْمُشْتَرِي بِنَاءَهُ الْمُحْدَثَ عِنْدَنَا وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَنْقُضُ بِنَاءَ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا إنْ شَاءَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَنَى فِي مِلْكٍ صَحِيحٍ لَهُ، فَلَا يُنْقَضُ بِنَاؤُهُ لِحَقِّ الْغَيْرِ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ إذَا بَنَى فِي الْأَرْضِ الْمَوْهُوبَةِ وَتَأْثِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي أَصْلِ الْبِنَاءِ فَيَسْتَحِقُّ قَرَارَ الْبِنَاءِ إذْ لَيْسَ فِي إبْقَاءِ بِنَائِهِ إبْطَالُ حَقِّ الشَّفِيعِ، فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ مَبْنِيًّا بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ نَقَضْنَا بِنَاءَهُ تَضَرَّرَ الْمُشْتَرِي بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ وَلَوْ لَمْ يُنْقَضْ لَا يَتَضَرَّرُ الشَّفِيعُ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ، وَإِنْ لَزِمَ الشَّفِيعَ زِيَادَةُ ثَمَنِ قِيمَةٍ فَبِمُقَابِلَتِهِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مَا يَعْدِلُهُ، وَالضَّرَرُ بِبَدَلٍ أَهْوَنُ مِنْ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَكَانَ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْمُشْتَرِي أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَرَعَ الْأَرْضَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَقْلَعَ زَرْعَهُ لِهَذَا، وَالْبِنَاءُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَمَنْ صَبَغَ ثَوْبَ إنْسَانٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَ ثَوْبَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الصَّبَّاغَ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ فِي إبْقَائِهَا إبْطَالُ حَقِّ الشَّفِيعِ؛ فَلِذَلِكَ يُمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهَا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ بَنَى فِي بُقْعَةٍ غَيْرُهُ أَحَقُّ بِهَا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، فَيُنْتَقَضُ عَلَيْهِ بِنَاؤُهُ، كَالرَّاهِنِ إذَا بَنَى فِي الْمَرْهُونِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ حَقٌّ قَوِيٌّ مُتَأَكِّدٌ، وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي وَتَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِضْرَارِ بِالشَّفِيعِ يَكُونُ بَاطِلًا لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الشَّفِيعِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ لِتَصَرُّفِهِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَصَرُّفَهُ بِالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ يَنْقُضُ هَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ بِنَاؤُهُ وَفِي الْبِنَاءِ هُوَ مُضِرٌّ بِالشَّفِيعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَرْضَ هُوَ بِالْتِزَامِهَا، وَهُوَ مُبْطِلٌ لِلْحَقِّ الثَّابِتِ لَهُ، يَعْنِي: حَقَّ الْأَخْذِ بِأَصْلِ الثَّمَنِ، فَلَا يَنْفُذَ ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا لَا يَنْفُذُ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا بَنَى؛ لِأَنَّهُ بَنَى هُنَاكَ بِتَسْلِيطِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، ثُمَّ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ ضَعِيفٌ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْبِنَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ تَصَرُّفٍ آخَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ حَقِّ الشَّفِيعِ، وَكَذَلِكَ حَقُّ الْوَاهِبِ ضَعِيفٌ لَا يَبْقَى بَعْدَ تَصَرُّفِ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِخِلَافِ حَقِّ الشَّفِيعِ، وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّرْجِيحِ لِدَفْعِ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِالْأَهْوَنِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي أَصْلِ الْحَقِّ، وَلَا مُسَاوَاةَ فَحَقُّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ الْبِنَاءُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الشَّفِيعِ رُبَّمَا لَا يَكُونُ مُوَافِقًا لَهُ فَيَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةِ ذَلِكَ لِرَفْعِ الْبِنَاءِ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُوَافِقُهُ وَفِي الزَّرْعِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ فِي الْقِيَاسِ بِقَلْعِ زَرْعِهِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَقْلَعُ؛ لِأَنَّ لِإِدْرَاكِهِ نِهَايَةً مَعْلُومَةً، وَلَيْسَ فِي الِانْتِظَارِ كَثِيرُ ضَرَرٍ عَلَى الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ الْغِرَاسِ، وَالْبِنَاءِ وَأَصْلُهُ فِي الْمُسْتَعِيرِ يُقْلَعُ بِنَاؤُهُ وَغَرْسُهُ لِحَقِّ الْمُعِيرِ، وَلَا يُقْلَعُ زَرْعُهُ اسْتِحْسَانًا.
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا فَغَرِقَ نِصْفُهَا فَصَارَ مِثْلَ الْفُرَاتِ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ، وَلَا يُسْتَطَاعُ رَدُّ ذَلِكَ عَنْهَا فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِي الْكُلِّ، وَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِ الْبَعْضِ فَيَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَالشَّافِعِيُّ فِي كِتَابَةِ يَدَّعِي الْمُنَاقَضَةَ عَلَيْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ وَيَقُولُ: إنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ إذَا احْتَرَقَ الْبِنَاءُ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الشَّفِيعِ وَإِذَا غَرِقَ بَعْضُ الْأَرْضِ سَقَطَ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ فَكَأَنَّهُمْ اعْتَبِرُوا فِعْلَ الْمَاءِ دُونَ النَّارِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِقِلَّةِ الْفِقْهِ، وَالتَّأَمُّلِ، فَإِنَّ الْبِنَاءَ وَصْفٌ وَتَبَعٌ، وَلَيْسَ بِمُقَابَلَةِ الْوَصْفِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا فَاتَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، فَأَمَّا بَعْضُ الْأَرْضِ لَيْسَ بِتَبَعٍ لِلْأَرْضِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إسْقَاطِ حِصَّةِ مَا غَرِقَ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الشَّفِيعِ، أَوْ تَأَخُّرِ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ، وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي ذَهَبَ مِنْهَا الثُّلُثُ وَقَالَ الشَّفِيعُ ذَهَبَ النِّصْفُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَهَذَا وَمَسْأَلَةُ قِيمَةِ الْبِنَاءِ سَوَاءٌ فِي التَّخْرِيجِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَحَقَّ رَجُلٌ بَعْضَهَا وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ وَطَلَبَهَا الْجَارُ بِالشُّفْعَةِ أَخَذَ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي حَقَّ التَّمَلُّكِ عَلَيْهِ فِي الْبَاقِي بِثَمَنٍ يُنْكِرُهُ الْمُشْتَرِي، وَلَا شُفْعَةَ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ تَعْتَمِدُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْبَائِعِ وَعِنْدَ فَسَادِ الْبَيْعِ حَقُّ الْبَائِعِ لَمْ يَنْقَطِعْ؛ وَلِأَنَّ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْأَخْذِ لِلشَّفِيعِ تَقْرِيرٌ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ مَعْصِيَةٌ، وَالتَّقْرِيرُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ، فَإِنْ سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهَا بِهِ وَسَمَّاهُ لَهُ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ بِالشُّفْعَةِ سُمِّيَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ابْتِدَاءً جَازَ بَيْعُهُ وَكَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الدَّارِ فَكَذَلِكَ إذَا سَلَّمَهَا لِلشَّفِيعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَرِثَ دَارًا فَسَلَّمَهَا لِلشَّفِيعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ ذَلِكَ بَيْعًا مِنْهُ وَلَوْ اشْتَرَى بَيْعًا مَنْقُولًا فَطَلَبَ الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ فَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ بَيْعًا مُبْتَدَأً فَهَذَا مِثْلُهُ وَإِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لِوَارِثِهِ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظِيرُ الْكَلَامِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ، فَإِنَّ عِنْدَهُ كَمَا تُوَرَّثُ الْأَمْلَاكُ فَكَذَلِكَ تُوَرَّثُ الْحُقُوقُ اللَّازِمَةُ مَا يُعْتَاضُ عَنْهَا بِالْمَالِ وَمَا لَا يُعْتَاضُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ بِطَرِيقِ أَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ، وَإِنَّ حَاجَةَ الْوَارِثِ كَحَاجَةِ الْمُوَرِّثِ وَنَحْنُ نَقُولُ مُجَرَّدُ الرَّأْيِ، وَالْمَشِيئَةِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِيَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهِ، وَالثَّابِتُ لَهُ بِالشُّفْعَةِ مُجَرَّدُ الْمَشِيئَةِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ، أَوْ يَتْرُكَ، ثُمَّ السَّبَبُ الَّذِي بِهِ كَانَ يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ تَزُولُ بِمَوْتِهِ، وَهُوَ مِلْكُهُ وَقِيَامُ السَّبَبِ إلَى وَقْتِ الْأَخْذِ شَرْطٌ لِثُبُوتِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَزَالَهُ بِاخْتِيَارِهِ بِأَنْ بَاعَ مِلْكَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْبَعْضَ الْمَشْفُوعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فَكَذَلِكَ إذَا زَالَ بِمَوْتِهِ، وَالثَّابِتُ لِلْوَارِثِ جَوَازًا، أَوْ شَرِكَةً حَادِثَةٌ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ بِسَبَبٍ يَنْبَنِي عَلَى صِفَةِ الْمِلْكِيَّةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِجَارِ السُّكْنَى وَصِفَةُ الْمِلْكِيَّةُ تَتَجَدَّدُ لِلْوَارِثِ بِانْتِقَالِ مِلْكِ الْمُوَرِّثِ إلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الشُّفْعَةَ بِهَذَا السَّبَبِ وَلَوْ كَانَ بَيْعُ الدَّارِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ لَهُ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَارِثِ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ الْجِوَارُ عِنْدَ بَيْعِ الدَّارِ كَانَ لِلْوَارِثِ وَالْمُعْتَبَرُ قِيَامُ السَّبَبِ عِنْدَ الْبَيْعِ لَا قَبْلَهُ وَإِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي، وَالشَّفِيعُ حَيٌّ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ بَاقٍ وَبِمَوْتِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَمْ يُبَعْ فِي دَيْنِهِ وَوَصِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّهِ، فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ مَنْ ثَبَتَ حَقُّهُ مِنْ جِهَتِهِ أَيْضًا، وَهُوَ الْغَرِيمُ، وَالْمُوصَى لَهُ، فَإِنْ بَاعَهَا الْقَاضِي، أَوْ الْوَصِيُّ فِي دَيْنِ الْمَيِّتِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ وَيَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ كَمَا لَوْ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي فِي حَيَاتِهِ، وَلَا يُقَالُ بَيْعُ الْقَاضِي حُكْمٌ مِنْهُ فَكَيْفَ يَنْقُضُهُ الشَّفِيعُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا بَاعَهَا إمَّا لِجَهْلِهِ بِحَقِّ الشَّفِيعِ، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَطْلُبُ الشُّفْعَةَ، فَإِذَا طَلَبَهَا كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِنْهُ قَضَاءً بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ، فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلشَّفِيعِ حَقُّ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا يَبِيعُهُ الْقَاضِي فِي دَيْنِ الْمُشْتَرِي وَوَصِيَّتِهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى فِيهِ بِوَصِيَّةٍ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ بِهَا فِي حَيَاتِهِ بِالْهِبَةِ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَكَذَلِكَ إذَا تَبَرَّعَ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْوَصِيَّةِ.
وَإِذَا عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ فَلَمْ يَطْلُبْ مَكَانَهُ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ وَفِي هَذَا اللَّفْظِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ يَتَوَقَّتُ بِمَجْلِسِ عِلْمِ الشَّفِيعِ بِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ مَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ يُبْطِلُ شُفْعَتَهُ وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ مَشَايِخِنَا، إلَّا أَنَّ هِشَامًا ذَكَرَ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّهُ إذَا سَكَتَ هُنَيْهَةً، ثُمَّ طَلَبَ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ مَا لَمْ يَتَطَاوَلْ سُكُوتُهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ: كَمَا إنْ سَمِعَ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَوْ قَالَ خَلَّصَنِي اللَّهُ مِنْ فُلَانٍ، ثُمَّ طَلَبَ الشُّفْعَةَ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: بِكَمْ بَاعَهَا، أَوْ مَتَى بَاعَهَا، أَوْ مَتَى اشْتَرَاهَا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْكَلَامِ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ، وَهُوَ عَلَى حَقِّهِ إذَا طَلَبَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إنْ طَالَتْ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَهُ الشُّفْعَةُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: لَهُ مُهْلَةُ يَوْمٍ مِنْ حِينِ سَمِعَ وَقَالَ شَرِيكٌ: هُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ مَا لَمْ يُبْطِلْهَا صَرِيحًا، أَوْ دَلَالَةً بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْحُقُوقِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى كَانَ يَقُولُ: يَحْتَاجُ الشَّفِيعُ إلَى النَّظَرِ، وَالتَّأَمُّلِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِجِوَارِ هَذَا الْجَارِ، فَلَا يَطْلُبُ الشُّفْعَةَ، أَوْ يَتَضَرَّرَ بِهِ وَبَطَلَتْ الشُّفْعَةُ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ، إلَّا بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ مُدَّةً فَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ؛ فَلِهَذَا قَدَّرَهَا سُفْيَانُ بِيَوْمٍ وَاسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَثَبَهَا» وَفِي رِوَايَةٍ «الشُّفْعَةُ كَنَشْطَةِ الْعِقَالِ إنْ أَخَذَ بِهَا ثَبَتَتْ وَإِلَّا ذَهَبَتْ»؛ وَلِأَنَّهُ إذَا سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ، فَذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِمُجَاوَرَةِ الْجَارِ الْحَادِثِ وَدَلِيلُ الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا وَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ هَذَا مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَا تَضَرَّرَ بِهِ الْمُشْتَرِي؛ فَإِنَّهُ يَسْكُتُ حَتَّى يَتَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِيهِ، ثُمَّ يُبْطِلُ تَصَرُّفَهُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى، إلَّا أَنَّ الْكَرْخِيَّ جَعَلَ لَهُ الْمَجْلِسَ فِي ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ إلَى الرَّأْيِ، وَالتَّأَمُّلِ، فَهُوَ كَالْمُخَيَّرَةِ لَهَا الْخِيَارُ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا؛ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ لَهُ حَقَّ التَّمَلُّكِ بِبَدَلٍ وَلَوْ أَوْجَبَ الْبَائِعُ لَهُ ذَلِكَ بِإِيجَابِ الْبَيْعِ كَانَ لَهُ خِيَارُ الْقَبُولِ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَفْظَةُ الطَّلَبِ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْكُتُبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِأَيِّ لَفْظٍ طَلَبَ، فَهُوَ صَحِيحٌ مِنْهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَذْكُرُ فِي طَلَبِهِ الْبَيْعَ، وَالسَّبَبَ الَّذِي يَطْلُبُ بِهِ الشُّفْعَةَ مِنْ جِوَارٍ، أَوْ شَرِكَةٍ.
فَإِنْ طَلَبهَا فَأَبَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ وَخَاصَمَهُ وَأَشْهَدَ الشَّفِيعُ شُهُودًا عَلَى طَلَبِهِ الشُّفْعَةَ كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ بِطَلَبِهِ رَغْبَتَهُ فِي الْأَخْذِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ، وَهُوَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَالْجَوَابُ وَاضِحٌ، وَكَذَلِكَ.
إنْ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُشْهِدَهُمْ عَلَى طَلَبِهِ ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى مَنْ فِي يَدِهِ الدَّارُ، أَوْ إلَى مَوْضِعِ الدَّارِ فَيُشْهِدُ عَلَى الطَّلَبِ أَيْضًا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ حِينَ سَمِعَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ، فَالطَّلَبُ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ، وَالْإِشْهَادُ لِمَخَافَةِ الْجُحُودِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ حَتَّى إذَا حَلَّفَهُ الْمُشْتَرِي أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ طَلَبَهَا كَمَا سَمِعَ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى مَوْضِعِ الشُّهُودِ فَيُشْهِدُهُمْ عَلَى الطَّلَبِ وَيُسَمَّى هَذَا طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى مَنْ فِي يَدِهِ الدَّارُ فَيَشْهَدُ عَلَى الطَّلَبِ عِنْدَهُ أَيْضًا وَيُسَمَّى هَذَا طَلَبَ التَّقْرِيرِ، وَهُوَ عَلَى حَقِّهِ بَعْدَ هَذَا، وَإِنْ طَالَتْ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي، فَهُوَ أَبْلُغُ فِي الْعُذْرِ، فَإِنْ شَغَلَهُ شَيْءٌ، أَوْ عَرَضَ لَهُ سَفَرٌ بَعْدَ إشْهَادِهِ عَلَى طَلَبِ التَّقْرِيرِ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ بِالطَّلَبِ، فَلَا يَسْقُطُ بَعْدَ ذَلِكَ، إلَّا بِإِسْقَاطِهِ صَرِيحًا، أَوْ دَلَالَةً، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ ذَلِكَ شَهْرًا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْقُط حَقُّهُ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ مَخَافَةَ أَنْ يَنْقُضَ الشَّفِيعُ تَصَرُّفَهُ، وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ، وَإِنَّمَا قُدِّرَ ذَلِكَ بِالشَّهْرِ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حُكْمِ الْأَجَلِ وَمَا دُونَهُ عَاجِلٌ بِدَلِيلِ مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ لِتَقْصِيرِ حَقِّهِ عَاجِلًا فَقَضَاؤُهُ فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ بِرٌّ فِي يَمِينِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْقَاضِي تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ حَتَّى إنْ كَانَ الْقَاضِي يَجْلِسُ فِي كُلِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِذَا مَضَى مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِهِ وَلَمْ يُخَاصِمْ الشَّفِيعَ فِيهِ اخْتِيَارًا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَإِنْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ عَلَى مَالٍ، فَالتَّسْلِيمُ جَائِزٌ وَيَرُدَّ الْمَالَ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مُخْتَارًا وَرَضِيَ بِجِوَارِهِ، وَلَكِنَّهُ طَمِعَ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ وَهُوَ الْمَالُ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ، إلَّا بِمُقَابِلَةِ مِلْكٍ لَهُ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِمُلْكٍ لَهُ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ بِمُقَابِلَةِ إسْقَاطِهِ الْمَالَ وَتَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ، فَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ وَهُوَ الْمَالُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ شُفْعَتَهُ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ فَيَصِيرُ كَلَامُهُ عِبَارَةً عَنْ الْإِسْقَاطِ مَجَازًا كَبَيْعِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ مِنْ نَفْسِهَا وَفِي الْكِتَابِ لَا، بَلْ لَا قِيمَةَ لِلشُّفْعَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهَا مَالٌ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْكَفَالَةِ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ بِالنَّفْسِ عَلَى مَالِ لَا يَجِبُ الْمَالُ وَفِي بَرَاءَةِ الْكَفِيلِ هُنَاكَ رِوَايَتَانِ وَإِنَّمَا اسْتَشْهَدَ بِالْكَفَالَةِ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ عَنْ الْحَقِّ الَّذِي لَيْسَ بِمَلْكٍ مُتَقَوِّمٍ (وَهَذَا بِخِلَافِ) الِاعْتِيَاضِ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ فِي زَوْجَتِهِ بِالْخُلْعِ، وَعَنْ الْقِصَاصِ بِالصُّلْحِ، وَعَنْ إسْقَاطِ الرِّقِّ بِالْعِتْقِ (فَذَلِكَ كُلُّهُ مِلْكٌ) مُتَقَرِّرٌ لَهُ فِي الْمَحَلِّ شَرْعًا وَكَمَا يَجُوز أَنْ يَلْتَزِمَ الْعِوَضَ لِيُثْبِتَ الْمِلْكَ لَهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْعِوَضَ لِيُبْطِلَ مِلْكَهُ، فَأَمَّا الشَّفِيعُ لَيْسَ يَتَمَلَّكُ عَلَى الْمُشْتَرِي شَيْئًا قَبْلَ الْأَخْذِ فَتَسَلُّمِهِ الشُّفْعَةَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ مِنْهُ لِلْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ مِلْكٍ ثَابِتٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِمُقَابِلَتِهِ عِوَضًا عَلَيْهِ، ثُمَّ هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَالٍ سُمِّيَ، وَالثَّانِي أَنْ يُصَالِحَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ فَهَذَا صَحِيحٌ وَيَكُونُ مُسْقِطًا لِحَقِّهِ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بَعْضَ حَقِّهِ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الْبَدَلِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَالثَّالِثُ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى بَيْتٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الدَّارِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَهَذَا الصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الْبَيْتِ مِنْ الثَّمَنِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَ الرَّغْبَةَ فِي أَخْذِ مِقْدَارِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الدَّارِ فَكَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ فِي جَمِيعِ الدَّارِ.
وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالدَّارِ لِشُفْعَتِهِ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَقَبْضِ الدَّارِ، فَالْبَيْعُ لَازِمٌ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُهَا بِبَدَلٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ مَا لَوْ اشْتَرَى بِنَفْسِهِ وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي لَهُ بِشُفْعَةٍ قَبْلَ أَنْ يُحْضِرَ الثَّمَنَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَأَمَّا مُحَمَّدٌ لَا يَقْضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى يُحْضِرَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْأَخْذِ إذَا أَدَّى الثَّمَنَ، فَلَا يَقْضِي الْقَاضِي لَهُ بِالْمِلْكِ قَبْلَ ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا لَمْ يَجِبْ الثَّمَنُ عَاجِلًا لَا يُطَالَبُ بِإِحْضَارِهِ وَوُجُوبُ الثَّمَنِ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِالدَّارِ، فَالْقَاضِي يَقْضِي لَهُ بِحَقِّهِ قَبْلَ إحْضَارِ الثَّمَنِ وَيَجْعَلُ الْمُشْتَرِيَ أَحَقَّ بِإِمْسَاكِهَا إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ فَيَدْفَعُ الدَّارَ إلَيْهِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي.
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا، وَالشَّفِيعُ غَائِبٌ فَعَلِمَ بِالشِّرَاءِ فَلَهُ مِنْ الْأَجَلِ بَعْدَ الْعِلْمِ عَلَى قَدْرِ الْمَسِيرِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ كَمَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ وَيَشْهَدَ عَلَى الطَّلَبِ، وَالْغَيْبَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِشْهَادِ عَلَى الطَّلَبِ كَمَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّهِ، ثُمَّ بَعْدَ الْإِشْهَادِ حَالُهُ كَحَالِ الْحَاضِرِ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى مَنْ فِي يَدِهِ الدَّارُ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ؛ لِيَطْلُبَ عِنْدَهُ فَهُنَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَجَّهَ أَوْ يَبْعَثَ نَائِبًا عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، وَلَكِنْ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ يَحْتَاجُ إلَى مُهْلَةٍ هُنَا؛ فَلِهَذَا جَعَلَ لَهُ الْأَخْذَ بِقَدْرِ الْمُشْتَرَى وَكَمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِنَفْسِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِنَائِبِهِ وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَتَوَجَّهَ بِنَفْسِهِ لِعُذْرٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَطْلُبَ، فَإِذَا مَضَى ذَلِكَ الْأَجَلُ قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَ، أَوْ يَبْعَثَ مَنْ يَطْلُبُ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ، فَإِنْ قَدِمَ فَطَلَبَ فَتَغَيَّبَ الْمُشْتَرِي عَنْهُ، أَوْ خَرَجَ مِنْ الْبَلَدِ فَأَشْهَدَ عَلَى طَلَبِ الشُّفْعَةِ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّةُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ يَتْبَعَ الْمُشْتَرِي فَرُبَّمَا لَا يَظْفَرُ بِهِ، أَوْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فِيهِ، فَإِذَا ظَهَرَ الْمُشْتَرِي بِبَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ الدَّارُ فَلَيْسَ عَلَى الشَّفِيعِ أَنْ يَطْلُبَهُ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الدَّارُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إتْبَاعِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ، إلَّا فِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الدَّارُ، فَإِذَا حَضَرَ هَذَا الْبَلَدَ، فَقَدْ أَتَى بِمَا كَانَ يَحِقُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْمُشْتَرِي قَصَدَ أَنْ يُلْحِقَهُ زِيَادَةَ ضَرَرٍ حِينَ هَرَبَ مِنْهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ قَصْدَهُ وَيَكُونُ الشَّفِيعُ عَلَى حَقِّهِ إذَا رَجَعَ الْمُشْتَرِي وَإِذَا اشْتَرَى مِنْ امْرَأَةٍ فَأَرَادَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، إلَّا مَنْ لَهُمْ الشُّفْعَةُ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تَجُوزُ عَلَيْهَا إنْ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَطْلُبُوا الشُّفْعَةَ، وَإِنْ سَلَّمُوا الشُّفْعَةَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الْبَيْعِ عَلَيْهَا إثْبَاتُ حَقِّهِمْ مَا لَمْ يُسَلِّمُوا الشُّفْعَةَ وَكَانُوا خَصْمًا فِي ذَلِكَ، وَالْخَصْمُ فِي الْحَادِثَةِ لَا يَكُونُ شَاهِدًا فِيهَا.
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا، وَالْقَاضِي شَفِيعُهَا، أَوْ ابْنُهُ، أَوْ أَبُوهُ أَوْ زَوْجَتُهُ، فَإِنَّ قَضَاءَهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ فَوْقَ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فَكَذَلِكَ قَضَاؤُهُ وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَسَأَلَهُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَزِيدَهُ فِي الثَّمَنِ كَذَا فَفَعَلَ ذَلِكَ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ رَدٌّ لَا يَكُونُ لَهُ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَمَا سُمِّيَ فِيهَا مِنْ زِيَادَةٍ، أَوْ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ الثَّمَنِ، فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشُّرُوطِ، وَهُوَ تَسْمِيَةُ الثَّمَنِ، فَالْفَاسِدُ مِنْ الشَّرْطِ فِي الثَّمَنِ لَا يُبْطِلُهُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْإِقَالَةُ فَسْخٌ إذَا كَانَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، أَوْ بِجِنْسٍ آخَرَ سِوَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ بَيْعٌ مُبْتَدَأٌ إذَا أَمْكَنَ وَإِذَا تَعَذَّرَ الْإِمْكَانُ كَانَ فَسْخًا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَلَا إمْكَانَ هَهُنَا بِجَعْلِ الْإِقَالَةِ بَيْعًا مُبْتَدَأً مَعَ تَسْمِيَتِهَا زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ لَمْ يَقْبِضْ الدَّارَ بَعْدُ وَمِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ أَنْ بَيْعَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ مِنْ الْبَائِعِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ الْعَقَارُ، وَالْمَنْقُولُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْآخَرِ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ، وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْإِقَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ إذَا أَمْكَنَ، وَهُنَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ بَيْعًا مُبْتَدَأً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ الزِّيَادَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَاَلَّذِي يَقُولُ فِي الْكِتَابِ إذَا كَانَ قَدْ قَبَضَ قَبْلَ الْمُنَاقَضَةِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ الْآخِرِ لَا يُعْتَبَرُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَبَ إلَيْهِ الْمُشْتَرِي أَنْ يُسَلِّمَهُ لِلْبَائِعِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ شَيْئًا مُسَمًّى؛ لِأَنَّهُ إقَالَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إقَالَةَ الشَّفِيعِ كَمَا تَجُوزُ مَعَ الْمُشْتَرِي تَجُوزُ مَعَ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.