فصل: بَابُ الشُّفْعَةِ فِي الْمَرِيضِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الشُّفْعَةِ فِي الْمَرِيضِ:

(قَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ مَرِيضٌ بَاعَ دَارًا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا، ثُمَّ مَاتَ وَابْنُهُ شَفِيعُ الدَّارِ، فَلَا شُفْعَةَ لِلِابْنِ فِيهَا)؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهَا مِنْ أَبِيهِ بِهَذَا الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّفِيعَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمُشْتَرِي شَرْعًا فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
يُوَضِّحُهُ: إمَّا أَنْ يَأْخُذَهَا بِأَلْفَيْنِ كَمَا أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَصِيَّةً مِنْ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ خُصُوصًا إذَا أَخَذَهَا مِنْ يَدِ الْبَائِعِ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، أَوْ يَأْخُذَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ ثَمَنٍ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لَيْسَ ذَلِكَ بِثَابِتٍ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْوَجْهَانِ قُلْنَا لَا شُفْعَةَ لَهُ أَصْلًا.
وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا: أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَتِهَا إنْ شَاءَ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرْنَا هُنَا، فَإِنَّهُ نَصَّ فِي الْجَامِعِ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الْمُشْتَرِيَ لِلدَّارِ مِنْ أَبِيهِ وَأَجْنَبِيٌّ شَفِيعُهَا، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِهِمَا لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمَرِيضِ مِنْ وَارِثِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَصَرُّفِهِ إبْطَالُ حَقِّ الْوَرَثَةِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ، وَالْوَارِثُ وَالْأَجْنَبِيُّ فِي مِثْلِ هَذَا التَّصَرُّفِ سَوَاءٌ كَمَا لَوْ أَعَانَهُ بِبَدَنِهِ.
يُوَضِّحُهُ: أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ كَمَا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ، ثُمَّ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ مِنْ الْمَرِيضِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فِي جَمِيعِ مَالِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ وَصِيَّةً بِشَيْءٍ، فَكَذَلِكَ مَعَ الْوَارِثِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَبَاعَ بَعْضَ مَالِهِ مِنْ آخَرَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ يَجُوزُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ الْوَصِيَّةَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يُجْعَلْ بَيْعُهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَصِيَّةً مِنْهُ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْوَارِثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: آثَرَ بَعْضَ وَرَثَتِهِ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْ ذَلِكَ لِحَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْطَى أَحَدُ وَرَثَتِهِ هَذِهِ الدَّارَ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا لِنَفْسِهِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، إلَّا بِرِضَا سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ إيثَارَ الْبَعْضِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ رُدَّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ فَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ إيثَارَهُ بِالْعَيْنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِي الْأَعْيَانِ أَغْرَاضًا، فَقَدْ يَفْتَخِرُ الْإِنْسَانُ بِخَطِّهِ إيَّاهُ فَوْقَ مَا يَفْتَخِرُ بِكَثْرَةِ مَالِهِ، وَإِنَّمَا نَفَى الشَّرْعُ وَصِيَّةَ الْمَرِيضِ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ دَفْعًا لِلْغَضَاضَةِ عَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَتَحَقَّقُ هُنَا؛ فَلِهَذَا يَمْتَنِعُ بِبَيْعِهِ مِنْهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَبِأَكْثَرَ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ التَّصَرُّفِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْعَيْنِ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْوَرَثَةِ عَنْ ثُلُثَيْ مَالِهِ، وَلَيْسَ فِي الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ إبْطَالُ حَقِّ الْوَرَثَةِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِالدَّيْنِ، أَوْ بِالْعَيْنِ وَإِقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ مَعَ الْوَارِثِ وَيُجْعَلُ وَصِيَّةً مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ بَيْعِهِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَحَقُّهُمْ فِي دُيُونِهِمْ لَا فِي عَيْنِ مَالِ الْمَرِيضِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْوَارِثِ أَنْ يَسْتَخْلِصَ الْعَيْنَ لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَالٍ آخَرَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ كَانَ صَحِيحًا بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ عَيْنًا فِي صِحَّتِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنْهُ فِي مَرَضِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَبِمِثْلِهِ لَوْ بَاعَهُ مِنْ دَارٍ بِهِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنْهُ فِي مَرَضِهِ فِي حَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَا، إذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَمَّا صَحَّ الْبَيْعُ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ كَانَ بَاعَهَا مِنْ ابْنِهِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَلَا إشْكَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ، وَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ وَعِنْدَهُمَا لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إنْ شَاءَ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ كَانَ لِلِابْنِ أَنْ يُزِيلَ الْمُحَابَاةَ وَيَأْخُذَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ إنْ شَاءَ فَكَذَلِكَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِذَلِكَ وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ هُنَا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا بَيْعُ الْمَرِيضِ مِنْ وَارِثِهِ إنَّمَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ فِي تَصَرُّفِهِ وَفِي الْبَيْعِ بِالْمُحَابَاةِ وَصِيَّةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ مَعَ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ فَكَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، وَلَا شُفْعَةَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَبِأَنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَةِ الْمُفْسِدِ، فَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الشُّفْعَةَ لِلشَّفِيعِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ أَجَلٍ فَاسِدٍ، أَوْ خِيَارٍ فَاسِدٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمُشْتَرِي شَرْعًا فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ الْمَرِيضِ كَانَ مِنْهُ بِهَذَا الثَّمَنِ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنَّ نَفْسَ الْبَيْعِ وَصِيَّةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِأَنْ تُبَاعُ دَارُهُ مِنْ فُلَانٍ بِمِثْلِ قِيمَتِهَا يَجِبُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ إذَا طَلَبَ الْمُوصَى لَهُ، وَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْبَيْعِ يُزَاحِمُ سَائِرَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ نَفْسَ الْبَيْعِ وَصِيَّةً، وَقَدْ نَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ قُلْنَا لَا يَجُوزُ مِنْهُ الْبَيْعُ أَصْلًا.
وَإِذَا اشْتَرَى الْمَرِيضُ دَارًا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَهُ سِوَى ذَلِكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ مَاتَ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَابَاهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فَيَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ وَلَوْ كَانَ بَاعَ دَارًا بِقِيمَتِهَا، أَوْ أَكْثَرَ وَوَارِثُهُ شَفِيعُهَا، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ مِنْ الْوَارِثِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ بَيْعُهُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ لَا يَكُونُ مُثْبِتًا حَقَّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِلْوَارِثِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِلْوَارِثِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهَا مِنْهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ جَازَ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَالْوَارِثُ شَفِيعُهَا؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي تَمَلُّكِهَا بِالسَّبَبِ الَّذِي بَاشَرَهُ الْمُشْتَرِي إذَا أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ، وَإِنْ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ وَقِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَشَفِيعُهَا أَجْنَبِيٌّ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنْ قِيلَ كَيْف يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِأَلْفَيْنِ، وَالْوَصِيَّةُ كَانَتْ مِنْهُ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ، وَمَنْ أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لَا يَجُوزُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ مَنْ أَوْصَى لَهُ بِهِ قُلْنَا هُوَ كَذَلِكَ فِي وَصِيَّةٍ مَقْصُودَةٍ، فَالْوَصِيَّةُ هُنَا لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَبْقَى بَعْدَ مَا بَطَلَ الْبَيْعُ وَفِي حَقِّ الْبَيْعِ الشَّفِيعُ صَارَ مُقَدَّمًا عَلَى الْمُشْتَرِي شَرْعًا فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ مِنْ مُتَضَمَّنَاتِ الْبَيْعِ، وَلَمَّا أُوجِبَ الْبَيْعُ لَهُ بِمَا سُمِّيَ مِنْ الثَّمَنِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَى بِهِ الْمُشْتَرِي فَكَأَنَّهُ أَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ بِالْمُحَابَاةِ لِلْمُشْتَرِي إنْ سَلَّمَ الشَّفِيعُ لَهُ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَإِنْ كَانَ لِلدَّارِ شَفِيعَانِ أَحَدُهُمَا وَارِثٌ، فَلَا شُفْعَةَ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَفِيعٌ سِوَاهُ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا بِالشُّفْعَةِ فِي هَذَا الْبَيْعِ، فَإِذَا كَانَ مَعَهُ شَفِيعٌ آخَرُ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهَا، وَإِذَا انْعَدَمَتْ مُزَاحَمَتُهُ كَانَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَلَّمَ أَحَدُ الشَّفِيعِينَ شُفْعَتَهُ، وَإِنْ بَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهَا قِيلَ لِلْمُشْتَرِي إنْ شِئْتَ فَخُذْهَا بِثُلُثَيْ الْأَلْفَيْنِ، وَإِنْ شِئْت فَدَعْ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْمُحَابَاةِ، إلَّا فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ، وَالْمُشْتَرِي يَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَةِ الْمَانِعِ بِأَنْ يَلْتَزِمَ إلَى تَمَامِ ثُلُثَيْ الْأَلْفَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهَا، فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ لِأَجَلِهِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ، وَقَدْ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَإِنْ شَاءَ الْتَزَمَ ذَلِكَ فَيُسَلِّمُ لَهُ الْوَصِيَّةَ بِقَدْرِ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ كَانَ اشْتَرَاهَا فِي الِابْتِدَاءِ بِثُلُثَيْ الْأَلْفَيْنِ وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ كَانَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ أَمَّا عِنْدَ إمْضَاءِ الْبَيْعِ، فَلَا إشْكَالَ وَأَمَّا عِنْدَ الرَّدِّ فَلِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ صَحِيحًا مُوجِبًا لِلشُّفْعَةِ حَتَّى إذَا ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ، فَالْبَيْعُ سَالِمٌ لِلْمُشْتَرِي وَبِاعْتِبَارِ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِلشَّفِيعِ، ثُمَّ الرَّدُّ مِنْ الْمُشْتَرِي يَعْمَلُ فِي إبْطَالِ حَقِّهِ لَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الشَّفِيعِ كَمَا لَوْ تَفَاسَخَا الْبَيْعَ، وَلَكِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِثُلُثَيْ الْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّهَا مَا كَانَتْ تُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي إلَّا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ الشَّفِيعُ.
وَإِنْ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ إلَى أَجَلٍ وَقِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَالْأَجَلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ بِالْقَدْرِ اسْتَغْرَقَتْ ثُلُثَ الْمَالِ، فَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةُ بِالْأَجَلِ فِي شَيْءٍ، وَلَكِنْ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ أَوْ يُؤَدِّيَ الْأَلْفَيْنِ حَالَّةً؛ لِيَصِلَ إلَى الْوَرَثَةِ كَمَالُ حَقِّهِمْ وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُشْتَرِي فِي حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَالْأَجَلُ فِي الثَّمَنِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ، وَإِنْ بَاعَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهَا أَلْفَانِ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي: إنْ شِئْتَ فَعَجِّلْ أَلْفَيْنِ، وَإِنْ شِئْت فَدَعْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ شَاءَ عَجَّلَ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا وَيَكُونُ الْبَاقِي عَلَيْهِ إلَى أَجَلٍ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ تَأْجِيلَ الْمَرِيضِ صَحِيحٌ مُطْلَقًا فِيمَا لَهُ أَنْ لَا يَتَمَلَّكَهُ أَصْلًا كَمَا فِي الصَّدَاقِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: جَمِيعُ الْمُسَمَّى مَمْلُوكٌ بِإِزَاءِ مَالٍ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ، فَلَا يَصِحُّ تَأْجِيلُهُ فِيهِ، إلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ بِمَنْزِلَةِ الْإِسْقَاطِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَيْلُولَةَ تَقَعُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَبَيْنَ الْمَالِ فِي الْحَالِ بِسَبَبِ الْأَجَلِ؛ وَلِهَذَا لَوْ رَجَعَ شُهُودُ التَّأْجِيلِ ضَمِنُوا كَمَا تَضْمَنُ شُهُودُ الْإِبْرَاءِ فَعَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ تَنْبَنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْكَلَامَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا وَأَمَّا الشَّفِيعُ، فَالْأَجَلُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ عَجَّلَ الْمَالَ كُلَّهُ وَأَخَذَ الدَّارَ كُلَّهَا، وَإِنْ شَاءَ كَفَّ حَتَّى يَحِلَّ الْمَالُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الصَّحِيحِ بِبَيْعِ دَارِهِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ أَنَّ الْأَجَلَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، فَهُوَ مِثْلُهُ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ وَإِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ دَارًا، أَوْ حَابَى فِيهَا، ثُمَّ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ، وَالشَّفِيعُ وَارِثُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالْبَيْعِ حَتَّى الْآنَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ إذَا تَعَقَّبَهُ بُرْءٌ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَالِ الصِّحَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِالْبَيْعِ، وَقَدْ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ حَتَّى بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلشُّفْعَةِ لَهُ الْبَيْعُ، وَقَدْ سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ مَا عَلِمَ بِالسَّبَبِ فَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْأَخْذِ عِنْدَ ذَلِكَ، كَالْجَارِ إذَا سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ لِمَكَانِ الشَّرِيكِ، ثُمَّ سَلَّمَ الشَّرِيكُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بَابُ تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ:

(قَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا سَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ بَعْدَ وُقُوعِ الْبَيْعِ، وَالْمُشْتَرِي حَاضِرٌ، أَوْ غَائِبٌ فَتَسْلِيمُهُ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ الْحَقَّ الْوَاجِبَ لَهُ، وَالْإِسْقَاطُ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ، وَأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَتَعَدَّى تَصَرُّفُهُ إلَى مَحَلٍّ هُوَ حَقُّ غَيْرِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ سَاوَمَ الشَّفِيعُ الْمُشْتَرِيَ بِالدَّارِ؛ لِأَنَّهُ سَاوَمَهُ بِهَا؛ لِيَشْتَرِيَهَا مِنْهُ ابْتِدَاءً، وَذَلِكَ الرِّضَا بِتَقَرُّرِ مِلْكِهِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلَهُ أَنْ يُوَلِّيَهَا إيَّاهُ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، فَالْتِمَاسُهُ دَلِيلُ إسْقَاطِ شُفْعَتِهِ وَدَلِيلُ الْإِسْقَاطِ كَصَرِيحِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ أَنْفَقْتُ عَلَيْهَا كَذَا فِي بِنَائِهَا وَإِنِّي أُوَلِّيكهَا بِذَلِكَ وَبِالثَّمَنِ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَهُوَ تَسْلِيمٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ نَعَمْ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِطَابِ كَالْمُعَادِ فِيهِ وَمَعْنَاهُ وَلِّنِي بِذَلِكَ وَإِذَا وَكَّلَ وَكِيلًا بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ فَسَلَّمَ الْوَكِيلُ الشُّفْعَةَ، أَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ مُوَكِّلَهُ قَدْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فَنَقُولُ: أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْر مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: أَوَّلًا لَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَفِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: إقْرَارُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالتَّسْلِيمِ صَحِيحٌ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ فِي إقْرَارِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالتَّسْلِيمِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ يَجُوزُ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ذَكَرَ قَوْلَهُ هَذَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَلَا يُحْفَظُ جَوَابُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ الْوَكِيلُ الشُّفْعَةَ وَقِيلَ ذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ كَمَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالتَّسْلِيمِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ إذَا أَقَرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ إقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ إقْرَارُهُ صَحِيحٌ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَفِي مَجْلِسِ الْقَاضِي كَإِقْرَارِ الْمُوَكِّل، فَالْوَكِيلُ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَكِيلُ الْخُصُومَةِ، فَإِذَا أَقَرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِالتَّسْلِيمِ كَانَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَأَمَّا إذَا سَلَّمَ بِنَفْسِهِ، فَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ مَلَكَ طَلَبَ الشُّفْعَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا يَصِحُّ تَسْلِيمُهُ، إلَّا أَنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْخُصُومَةِ وَمَجْلِسُ الْخُصُومَةِ مَجْلِسُ الْقَاضِي فَيَصِحُّ تَسْلِيمُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْوَكِيلُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فَيَصِحُّ مِنْهُ التَّسْلِيمُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَغَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّسْلِيمُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ضِدُّ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ أُمِرَ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ لَا بِإِسْقَاطِهِ الْحَقَّ وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَبِ وَالْوَصِيِّ إذَا سَلَّمَا شُفْعَةَ الصَّبِيِّ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَلَيْسَ لِلصَّبِيِّ أَنْ يُطَالِبَ بِحَقِّهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، وَالْإِسْقَاطُ ضِدُّ الِاسْتِيفَاءِ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُمَا الْوِلَايَةُ فِي الْإِسْقَاطِ، كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ، وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ الْوَاجِبِ لَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمَا مُقَيَّدٌ بِالنَّظَرِ، وَلَيْسَ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الصَّبِيِّ مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ يَثْبُتُ شَرْعًا لِدَفْعِ الضُّرِّ فِيهَا بِالْإِسْقَاطِ كَأَنَّهُمَا يُلْزِمَانِهِ الضَّرَرَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ قَالَا: تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ تَرْكُ الشِّرَاءِ.
وَالْأَبُ، وَالْوَصِيُّ كَمَا يَجُوزُ مِنْهُمَا الشِّرَاءُ عَلَى الصَّبِيِّ يَجُوزُ تَرْكُ الشِّرَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَ صَاحِبُ الدَّارِ الْبَيْعَ فِيهَا مِنْ الصَّغِيرِ فَرَدَّهُ الْأَبُ، وَالْوَصِيُّ صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمَا.
وَبَيَانُ الْوَصْفِ: أَنَّ الشَّفِيعَ بِالْأَخْذِ يَتَمَلَّكُ الْعَيْنَ بِالثَّمَنِ، وَهَذَا هُوَ الشِّرَاءُ.
وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ فِي تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ يَبْقَى أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ عَلَى مِلْكِ الصَّبِيِّ، وَهُوَ الثَّمَنُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ إسْقَاطُ حَقِّهِ، فَهُوَ إسْقَاطٌ بِعِوَضٍ يُعَدُّ لَهُ، فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ ضَرَرًا كَبَيْعِ مَالِهِ بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ وَإِسْقَاطِ الْقَوَدِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ، ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ بِعَيْنِهِ جَازَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا سَلَّمَهَا إلَيْهِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَهَا، ثُمَّ بَاعَهَا مِنْهُ تَتَوَجَّهُ الْعُهْدَةُ فِيهَا عَلَى الصَّغِيرِ وَفِي التَّسْلِيمِ لَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْعُهْدَةُ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا سُكُوتُ مَنْ يَمْلِكُ التَّسْلِيمَ عَنْ الطَّلَبِ بِمَنْزِلَةِ التَّسْلِيمِ، فَإِذَا سَكَتَ الْأَبُ، وَالْوَصِيُّ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، فَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِحَقِّ الصَّبِيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِهَا وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الصَّبِيِّ.
وَلَوْ اشْتَرَى الْأَبُ لِلصَّبِيِّ دَارًا، وَهُوَ شَفِيعُهَا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى شِرَاءِ الْأَبِ مَالَ الصَّبِيِّ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مَكَانَ الْأَبِ وَصِيٌّ لَمْ يَمْلِكْ أَخْذَهَا لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ مِنْهُ، وَالْوَصِيُّ لَا يَشْتَرِي مَالَ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَلَوْ اشْتَرَى الْأَبُ لِنَفْسِهِ دَارًا، وَالصَّبِيُّ شَفِيعُهَا فَلَيْسَ لِلصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَخْذِ فَسُكُوتُهُ يَكُونُ مُبْطِلًا شُفْعَةَ الصَّبِيِّ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْأَبُ دَارًا، وَالصَّبِيُّ شَفِيعُهَا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ، وَالسُّكُوتُ عَنْ الطَّلَبِ مِمَّنْ يَمْلِكُ الْأَخْذَ يَكُونُ مُبْطِلًا لِلشُّفْعَةِ، فَأَمَّا مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ لَا يَكُونُ مُبْطِلًا وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَى الدَّارَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَالصَّبِيُّ شَفِيعُهَا فَسَلَّمَ الْأَبُ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَصِحُّ التَّسْلِيمُ هُنَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ النَّظَرِ لِلصَّبِيِّ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّسْلِيمُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ لِكَثْرَةِ الثَّمَنِ وَسُكُوتُهُ عَنْ الطَّلَبِ وَتَسْلِيمُهُ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ مَالِكًا لِلْأَخْذِ فَيَبْقَى الصَّبِيُّ عَلَى حَقِّهِ إذَا بَلَغَ.
وَتَسْلِيمُ أَحَدِ الْمُتَعَاوِضَيْنِ شُفْعَةَ صَاحِبِهِ فِي دَارٍ لَهُ خَاصَّةٍ مِنْ مِيرَاثٍ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ شِرَاءٌ، وَالْمُتَعَاوَضَانِ فِي ذَلِكَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ، فَيَصِحُّ تَسْلِيمُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمَا وَكَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا فَكَمَا يُجْعَلُ أَخْذُ أَحَدِهِمَا فِي الْحُكْمِ كَأَحَدِهِمَا فَكَذَلِكَ التَّسْلِيمُ.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الشَّفِيعَ بِدَارُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فِيهَا رِبْحٌ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ غَيْرُهَا فَسَلَّمَ الْمُضَارِبُ الشُّفْعَةَ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ، وَإِنْ سَلَّمَ رَبُّ الْمَالِ كَانَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ لِلْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِدَانَةً عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَالْمُضَارِبُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فَيَبْقَى حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ بِحُكْمِ الْجِوَارِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ شَرِيكٌ فِي دَارِ الْمُضَارَبَةِ إذَا كَانَ فِيهَا رِبْحٌ وَإِذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِيهَا الشُّفْعَةُ وَتَسْلِيمُ أَحَدِهِمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ حَقِّ شَرِيكِهِ وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ دَارًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعُهَا، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ فِي بَيْعِهَا عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَحِقَهُ فِي ذَلِكَ عُهْدَةٌ رَجَعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَلَا شُفْعَةَ لِمَنْ وَقَعَ الْبَيْعُ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا رَبُّ الْمَالِ، وَهِيَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَفِي يَدِ الْمُضَارِبِ دَارٌ أُخْرَى مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَهُوَ شَفِيعُهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا شُفْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا أَخَذَهَا لِرَبِّ الْمَالِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ حَقُّ رَبِّ الْمَالِ وَرَبُّ الْمَالِ بَائِعٌ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَأْخُذُ غَيْرُهُ لَهُ بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ دَارًا مِنْ غَيْرِ الْمُضَارَبَةِ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ بِدَارٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَتَكُونُ لَهُ خَاصَّةً دُونَ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ فِي بَيْعِ دَارِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُضَارَبَةِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لَا لِرَبِّ الْمَالِ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَبِاعْتِبَارِ دَارِ الْمُضَارَبَةِ رَبُّ الْمَالِ جَارٌ لِلدَّارِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ، وَالْأَخْذُ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَلَوْ اشْتَرَاهَا كَانَتْ لَهُ خَاصَّةً دُونَ الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ بَاعَ رَبُّ الْمَالِ دَارًا لَهُ خَاصَّةً، وَالْمُضَارِبُ شَفِيعُهَا بِدَارٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ جَارٌ بِاعْتِبَارِ شَرِكَتِهِ فِي الرِّبْحِ، وَهُوَ فِي الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ غَيْرُ عَامِلٍ لِرَبِّ الْمَالِ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ لَمْ يَأْخُذْهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا أَخَذَهَا لِلْمُضَارَبَةِ فَفِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ حَقُّ رَبِّ الْمَالِ هُوَ الْأَصْلُ وَرَبُّ الْمَالِ هُوَ الْبَائِعُ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَأْخُذُ الْغَيْرُ لَهُ.
وَإِذَا بَاعَ الْمُفَاوِضُ دَارًا لَهُ خَاصَّةً مِنْ مِيرَاثٍ وَشَرِيكُهُ شَفِيعُهَا بِدَارٍ لَهُ خَاصَّةٍ مِنْ مِيرَاثٍ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا كَانَتْ بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَاهَا وَإِذَا كَانَ بَائِعُهَا شَرِيكَهُ لَوْ ثَبَتَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا شُفْعَةٌ كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُمَا فِيمَا يَأْخُذَانِ بِالشُّفْعَةِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ.
وَإِذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَسَلَّمَهَا، فَهُوَ جَائِزٌ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ هَذَا بَدَلُ الشِّرَاءِ، وَهُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، ثُمَّ هُوَ إسْقَاطُ حَقٍّ بِعِوَضٍ يُعَدُّ لَهُ، فَإِنَّ الثَّمَنَ يَبْقَى كَسْبًا لَهُ، وَإِنْ سَلَّمَهَا مَوْلَاهُ جَازَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَخَذَهَا تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى، وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالنَّائِبِ عَنْهُ فَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ مِنْ الْمَوْلَى كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ تَسْلِيمُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي الْأَخْذِ عَامِلٌ لِغُرَمَائِهِ لِلْمَوْلَى، وَالْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَعْدَ الْأَخْذِ لَوْ بَاعَهَا الْمَوْلَى جَازَ بَيْعُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَكَذَلِكَ تَسْلِيمُهُ.
وَتَسْلِيمُ الْمُكَاتَبِ شُفْعَتَهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ كَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ.
وَتَسْلِيمُ الْمُرْتَدِّ شُفْعَتَهُ جَائِزٌ أَيْضًا، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ إذَا مَاتَ، أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ، أَوْ لَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ، فَهُوَ بَاطِلٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تُورَثُ، فَلَا يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ: لَا يَتَوَقَّفُ فِيهِ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا التَّوَقُّفِ إنْ أَسْلَمَ فَتَسْلِيمُهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ مَاتَ، فَالشُّفْعَةُ لَا تُورَثُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ اشْتَرَى الْمُرْتَدُّ دَارًا فَطَلَبَهَا الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ فَسَلَّمَهَا إلَيْهِ فَهَذَا يَتَوَقَّفُ مِنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ.
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ وَسَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ رَأَى صَاحِبُ الدَّارِ الْعَبْدَ فَلَمْ يَرْضَهُ وَرَدَّهُ وَأَخَذَ دَارِهِ، وَقَدْ كَانَ دَفَعَهَا، أَوْ لَمْ يَدْفَعْهَا، فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّادُّ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، وَلَا رِضَاءٍ، وَالشُّفْعَةُ تَجِبُ بِالْعُقُودِ لَا بِالْفُسُوخِ وَمَا كَانَ وَجَبَ لَهُ بِالْعَقْدِ، فَقَدْ أَسْقَطَهُ.
وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا لَمْ يَرَهَا، ثُمَّ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ خِيَارُ رُؤْيَتِهِ فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ أَخْذُهُ إيَّاهَا بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِإِسْقَاطِ خِيَارِهِ، وَالتَّصْرِيحُ بِإِسْقَاطِ خِيَارِ الشَّرْطِ صَحِيحٌ مِنْ الْمُشْتَرِي وَبِإِسْقَاطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ بَاطِلٌ قَبْلَ أَنْ يَرَاهَا فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ دَارًا بِالشُّفْعَةِ بِيعَتْ بِجَنْبِهَا.
وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ دَارَيْنِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ تُسَاوِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَبِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِ إحْدَاهُمَا، فَلَا شُفْعَةَ لِلضَّارِبِ فِيهَا، فَالشُّفْعَةُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَشْغُولَةٌ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ، وَلَا رِبْحَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَلَا يَأْخُذُهَا الْمُضَارِبُ بِالشُّفْعَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدُّورَ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً؛ لِمَا فِيهَا مِنْ التَّفَاوُتِ فِي الْمَنْفَعَةِ فَتُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَكَانَ الدَّارَيْنِ عَبْدَانِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُ الْمُضَارِبِ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ كَانَ فِي أَحَدَيْهِمَا رِبْحٌ كَانَ لَهُ الشُّفْعَةُ مَعَ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِيهَا بِحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ.
وَإِذَا سَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ نِصْفَ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ وَاسْتَوْفَى الْبَعْضَ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ عِنْدَ تَرَاضِيهِمَا اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَإِنْ اشْتَرَطَ بَيْتًا بِعَيْنِهِ لِنَفْسِهِ فَهَذَا بَاطِلٌ لِجَهَالَةِ حِصَّةِ الْبَيْتِ مِنْ الثَّمَنِ وَيَأْخُذُ الدَّارَ كُلَّهَا، أَوْ يَدَعُ؛ لِأَنَّهُ بِمَا صَنَعَ غَيْرُ مُسَلِّمٍ شُفْعَتَهُ، بَلْ هُوَ مُظْهِرٌ رَغْبَتَهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهَا، فَيَكُونُ عَلَى شُفْعَتِهِ فِيهَا.
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ وَاخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ، وَالْمَكَانِ، فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ قَوْلٌ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ فَاخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَكَانِ، وَالزَّمَانِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافًا بَيْنَهُمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ.
وَإِذَا سَلَّمَ الشُّفْعَةَ فِي مَنْزِلٍ، وَهُوَ شَرِيكٌ فِي الطَّرِيقِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْمَنْزِلِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ وَاسْتَوْفَى الْبَعْضَ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِتَرَاضِيهِمَا وَلِلْجَارِ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ الْآخَرَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْجَارِ كَانَ ثَابِتًا فِي جَمِيعِ الْمَنْزِلِ، إلَّا أَنَّ الشَّرِيكَ فِي الطَّرِيقِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ فَفِيمَا أَسْقَطَ الشَّرِيكُ حَقَّهُ زَالَ الْمَانِعُ فَلِلْجَارِ أَنْ يَأْخُذَهُ كَمَا لَوْ سَلَّمَ فِي جَمِيعِ الْمَنْزِلِ.
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا فَسَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ يُلْجِئُهُ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ شُفْعَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِفَسَادِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ابْتِدَاءً وَبِاعْتِبَارِهِ تَجِبُ الشُّفْعَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ مِنْ الْأَصْلِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، أَوْ الشَّرْطِ لَمْ يَتَجَدَّدْ بِهِ حَقُّ الشَّفِيعِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فَإِذَا أَقَرَّ بِفَسَادِ الْبَيْعِ مِنْ الْأَصْلِ أَوْلَى وَإِذَا سَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ فِي هِبَةٍ بِعِوَضٍ بَعْدَ التَّقَابُضِ، ثُمَّ أَقَرَّ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي أَنَّهَا كَانَتْ بَيْعًا بِذَلِكَ الْعِوَضِ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَعْدَ التَّقَابُضِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الشُّفْعَةِ فَكَانَ التَّسْلِيمُ صَحِيحًا مِنْ الشَّفِيعِ سَوَاءٌ أَقَرَّ فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ كَانَ هِبَةً بِعِوَضٍ، أَوْ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ أَنَّهُ كَانَ بَيْعًا، وَإِنْ سَلَّمَهَا فِي هِبَةٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ، ثُمَّ تَصَادَقَا أَنَّهَا كَانَتْ بِشَرْطِ عِوَضٍ أَوْ كَانَتْ بَيْعًا فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِسُقُوطِ حَقِّهِ وَلَكِنَّهُ تَرَكَ الطَّلَبَ، أَوْ سَلَّمَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لَمْ تَجِبْ لَهُ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً لَهُ، فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ فِي الشُّفْعَةِ.
وَإِذَا وَهَبَ الرَّجُلُ دَارًا عَلَى عِوَضٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبَضَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، ثُمَّ سَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ، فَهُوَ بَاطِلٌ حَتَّى إذَا قَبَضَ الْعِوَضَ الْآخَرُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ قَبْلَ الْوُجُوبِ، فَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ إنَّمَا تَصِيرُ، كَالْبَيْعِ بَعْدَ التَّقَابُضِ.
وَتَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ قَبْلَ تَقَرُّرِ سَبَبِ الْوُجُوبِ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ سَلَّمَهَا قَبْلَ الْبَيْعِ.
وَإِذَا وَهَبَ الرَّجُلُ لِرَجُلَيْنِ دَارًا عَلَى عِوَضٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضُوا، فَذَلِكَ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، جَائِزٌ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ كَهُوَ فِي الْهِبَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْخِلَافَ فِي الْهِبَةِ مِنْ رَجُلَيْنِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ (فَكَذَلِكَ فِي) الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ.
وَلَوْ وَهَبَ رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ دَارًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَا مِنْهُ الْأَلْفَ مَقْسُومَةً بَيْنَهُمَا وَسَلَّمَا إلَيْهِ الدَّارَ جَازَ ذَلِكَ وَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ لِانْعِدَامِ الشُّيُوعِ فِي الدَّارِ، فَالْمِلْكُ فِيهَا وَاحِدٌ وَانْعِدَامُ الشُّيُوعِ فِي الْأَلْفِ حِينَ قَبَضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ مَقْسُومًا، وَلَوْ كَانَتْ الْأَلْفُ غَيْرَ مَقْسُومَةٍ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّعْوِيضِ كَمَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ، وَالْأَلْفُ مُحْتَمِلٌ لِلْقِسْمَةِ.
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَشَفِيعُهُمَا وَاحِدٌ فَأَرَادَ أَخْذَ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَرْضَيْنِ، أَوْ قَرْيَةً وَأَرْضَهَا، أَوْ قَرْيَتَيْنِ وَأَرْضَيْهِمَا، وَهُوَ شَفِيعُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَرْضٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ بِأَرْضَيْنِ، أَوْ بِدَارٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ بِدُورٍ، فَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ كُلَّهُ، أَوْ يَدَعَ وَقَالَ زُفَرُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، وَالدُّورُ الْمُتَلَازِقَةُ وَغَيْرُ الْمُتَلَازِقَةِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ أَوْ مِصْرَيْنِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَزُفَرُ يَقُولُ: يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ فِي أَخْذِ إحْدَاهُمَا ضَرَرٌ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا تَنْفَصِلُ عَنْ الْأُخْرَى، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَفْقَةً عَلَى حِدَةٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُشْتَرِي مَلَكَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَفِي أَخْذِ إحْدَاهُمَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ وَكَمَا لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي فِي حَقِّ الْبَائِعِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ بِقَبُولِ الْعَقْدِ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الشَّفِيعُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَقْدُ فِي صَفْقَتَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَشْتَرِي دَارَيْنِ وَرَغْبَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ فِي إحْدَاهُمَا، فَإِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ تِلْكَ دُونَ الْأُخْرَى تَضَرَّرَ الْمُشْتَرِي بِاخْتِيَارِ الشَّفِيعِ، وَالشَّفِيعُ لَا يَمْلِكُ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُشْتَرِي فِيمَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا كَانَ شَفِيعًا لِإِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمَا جَمِيعًا، أَوْ يَدَعَ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ لَهُ فِي إحْدَاهُمَا وَلَوْ أَخَذَهَا وَحْدَهَا تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَثْبُتُ حَقُّهُ فِي الْأُخْرَى حُكْمًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا يَأْخُذُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الشُّفْعَةِ لَهُ فِي إحْدَاهُمَا بِدُونِ السَّبَبِ، وَفِي الْأُخْرَى؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: يَأْخُذُ الَّذِي هُوَ شَفِيعُهَا خَاصَّةً، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا وَدَارًا صَفْقَةً وَاحِدَةً كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ دُونَ الْعَبْدِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ هُنَا لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِ الشَّفِيعِ، بَلْ هُوَ بِمَعْنًى حُكْمِيٍّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إحْدَاهُمَا لِانْعِدَامِ السَّبَبِ فِي إحْدَاهُمَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ شَفِيعًا لَهُمَا جَمِيعًا.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.