فصل: باب بيع المأذون وشرائه وإقراره في مرض المولى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.باب بيع المأذون وشرائه وإقراره في مرض المولى:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ): وَإِذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ ثُمَّ مَرِضَ الْمَوْلَى فَبَاعَ الْعَبْدُ بَعْضَ مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ تِجَارَتِهِ، وَاشْتَرَى شَيْئًا فَحَابَى فِي ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَ الْعَبْدِ، وَمَا فِي يَدِهِ فَجَمِيعُ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ أَوْ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ صَارَ مَالِكًا لِلْمُحَابَاةِ مُطْلَقًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى لَوْ بَاشَرَهُ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا مِنْهُ وَالْمَوْلَى حِينَ اسْتَدَامَ الْإِذْنَ بَعْدَ مَرَضِهِ جَعَلَ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ بِإِذْنِهِ كَتَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى بِنَفْسِهِ وَحَابَى يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ الْمُحَابَاةُ الْيَسِيرَةُ وَالْفَاحِشَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَكَذَلِكَ إذَا بَاشَرَهُ الْعَبْدُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مُحَابَاتُهُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ كَذَلِكَ فَأَمَّا مُحَابَاتُهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَبَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَ يُخْرِجُ مِنْ ثُلُثِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ هَذِهِ الْمُحَابَاةَ فِي الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ حَتَّى لَوْ بَاشَرَهُ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى كَانَ بَاطِلًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَا يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَبِجَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ كَانَ قَوْلُهُمْ فِي إمْضَاءِ مُحَابَاةِ الْعَبْدِ بَعْدَ الدَّيْنِ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ عَلَى الْعَبْدِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ.
وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَبِمَا فِي يَدِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُ لَمْ يَجُزْ مُحَابَاةُ الْعَبْدِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَتَهُ كَمُبَاشَرَةِ الْمَوْلَى وَقِيلَ: لِلْمُشْتَرِي إنْ شِئْت فَانْقُضْ الْبَيْعَ، وَإِنْ شِئْت فَأَدِّ الْمُحَابَاةَ كُلَّهَا؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَرْضَ هُوَ بِالْتِزَامِهَا فَيَتَخَيَّرُ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ، وَكَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَبِجَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ فَمُحَابَاةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ عَلَى غُرَمَائِهِ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِذْنَ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِلُحُوقِ الدَّيْنِ إيَّاهُ.
وَالْمُحَابَاةُ، وَإِنْ جَازَتْ عَلَى الْغُرَمَاءِ فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى، وَلَوْ كَانَ الَّذِي حَابَاهُ الْعَبْدُ بَعْضَ وَرَثَةِ الْمَوْلَى كَانَتْ الْمُحَابَاةُ بَاطِلَةً فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْعَبْدِ كَمُبَاشَرَةِ الْمَوْلَى، وَالْمَرِيضُ لَا يَمْلِكُ الْمُحَابَاةَ فِي شَيْءٍ مَعَ وَارِثِهِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا دَفَعَ إلَى هَذَا الْعَبْدِ جَارِيَةً يَبِيعُهَا لَهُ فِي مَرَضِ الْمَوْلَى فَبَاعَهَا مِنْ وَارِثِ الْمَوْلَى وَحَابَاهُ فِيهَا جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُحَابَاةَ لَيْسَتْ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى، وَلَا شَيْءَ عَلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى، وَهَذَا التَّصَرُّفُ مِنْ الْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ نُفُوذُهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى بَلْ هُوَ ثَابِتٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ بِوَكَالَتِهِ، وَكَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدُ فِي مَرَضِ مَوْلَاهُ شَيْئًا، وَلَمْ يُحَابِ فِيهِ، وَلَا دَيْنَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ اشْتَرَى، وَلَمْ يُحَابِ فِيهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِقَبْضِ مَا اشْتَرَى أَوْ بِقَبْضِ ثَمَنِ مَا بَاعَ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي بَاشَرَ هَذَا التَّصَرُّفَ، وَأَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ كَبِيرٌ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ كَثِيرٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ، وَمَا فِي يَدِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْقَبْضِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ فِي الْمَعْنَى إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ.
فَإِنَّهُ يَقُولُ: وُجُوبُهُ عَلَيَّ بِالْقَبْضِ مِثْلَ مَا كَانَ لِي عَلَيْهِ ثُمَّ صَارَ قِصَاصًا وَدَيْنُ الْعَبْدِ يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالدَّيْنِ فِي مَرَضِهِ، فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ، وَأَمَّا دَيْنُ الْمَوْلَى فِي صِحَّتِهِ فَيَمْنَعُ إقْرَارَ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بِالدَّيْنِ فِي مَرَضِهِ، فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ، وَيُقَالُ لِلْمُشْتَرِي: إنْ شِئْت فَأَدِّ الثَّمَنَ مَرَّةً أُخْرَى، وَإِنْ شِئْت فَانْقُضْ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِمَا.
وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فِي وُصُولِ الثَّمَنِ إلَيْهِ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إقَالَةِ الْعَقْدِ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي بَايَعَهُ بَعْضُ وَرَثَةِ الْمَوْلَى لَمْ يَجُزْ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِالْقَبْضِ مِنْهُ كَانَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ لَهُ بِالدَّيْنِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَوْلَى بِالْقَبْضِ مِنْهُ فِي مَرَضِهِ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي عَامَلَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب إقرار العبد في مرضه:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ): وَإِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ فَأَقَرَّ بِوَدِيعَةٍ أَوْ بِدَيْنٍ أَوْ بِشِرَاءِ شَيْءٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ التِّجَارَاتِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فِي الصِّحَّةِ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ، وَالْمَرَضُ لَا يُنَافِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ بُدِئَ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ انْفِكَاكُ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ فَوْقَ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ، وَفِي حَقِّ الْحُرِّ دَيْنُ الصِّحَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَإِنْ قِيلَ: فِي حَقِّ الْحُرِّ الْحُكْمُ يَتَغَيَّرُ بِمَرَضِهِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ بِمَالِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَإِنَّ الدَّيْنَ الَّذِي فِي صِحَّتِهِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِكَسْبِهِ، وَمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ قَبْلَ مَرَضِهِ، وَالْحَقُّ فِي كَسْبِهِ، وَمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بَعْدَ الدَّيْنِ لِمَوْلَاهُ، وَهُوَ الْمُسَلَّطُ لَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الصِّحَّةِ، وَبَيْنَ مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الْمَرَضِ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ بِالْإِذْنِ فَرْعُ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ، وَالْفَرْعُ يَلْتَحِقُ بِالْأَصْلِ فِي حُكْمِهِ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ عِلَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ مَا مَرِضَ ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ كَانَ حَقُّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ مُقَدَّمًا فِي مَالِهِ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَا يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ أَوْلَى.
وَلَوْ كَانَ الَّذِي لَحِقَهُ مِنْ الدَّيْنِ بِبَيِّنَةٍ شَارَكُوا أَصْحَابَ دَيْنِ الصِّحَّةِ؛ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَفِيمَا يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ بَيِّنَةٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ هُوَ كَالْحُرِّ.
وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي الْحُرِّ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ فِي مَرَضِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثَمَنَ مَبِيعٍ وَجَبَ لَهُ فِي مَرَضِهِ عَلَى رَجُلٍ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى قَبْضِهِ، وَلَكِنْ يُقْسَمُ مَا كَانَ عَلَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرِيمِ الْآخَرِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ لَهُ بِالدَّيْنِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ قَضَاهُ ذَلِكَ الدَّيْنَ بِمَالِهِ فِي ذِمَّتِهِ فَكَأَنَّهُ قَضَاهُ ذَلِكَ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ، وَالْمَرِيضُ الْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ تَخْصِيصَ أَحَدِ الْغَرِيمَيْنِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ، فَلِهَذَا كَانَ مَا عَلَى الْغَرِيمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ نِصْفَيْنِ.
وَإِذَا مَرِضَ الْمَأْذُونُ، وَعَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ فَقَضَى بَعْضَ غُرَمَائِهِ دُونَ بَعْضٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَضَى بَعْضَهُمْ فِي صِحَّتِهِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ لِلْآخَرِينَ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَعَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْكُلِّ بِكَسْبِهِ فَإِذَا قَضَاهُ فِي مَرَضِهِ أَوْلَى؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي إيثَارِهِ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ إسْقَاطَ حَقِّ الْبَاقِينَ عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ كَسْبِهِ.
وَلَوْ اشْتَرَى فِي مَرَضِهِ شَيْئًا بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ، وَقَبَضَهُ ثُمَّ نَقَدَ ثَمَنَهُ، وَهَلَكَ الشَّيْءُ فِي- يَدِهِ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ لِغُرَمَائِهِ عَلَى الْبَائِعِ سَبِيلٌ فِيمَا قَبَضَ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْلَى، وَهَذَا التَّصَرُّفُ مِنْ الْحُرِّ صَحِيحٌ مُطْلَقًا فَمِنْ الْعَبْدِ كَذَلِكَ.
(أَرَأَيْت) لَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِعَيْنِهَا أَكَانَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّ مِثْلَهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِيمَا إذَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ فِي مَرَضِهِ فَهُوَ أَوْلَى فِيمَا إذَا فَعَلَهُ فِي صِحَّتِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا أَجْرَ أَجِيرٍ أَوْ مَهْرَ امْرَأَةٍ فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ كَانَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يُشَارِكُوا الْمَرْأَةَ وَالْأَجِيرَ فِيمَا قَبَضَ، وَهَذَا فَرْقٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْحُرِّ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ظَاهِرًا أَمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلًا لِمَالٍ أَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَلَا يُسَلَّمُ لِلْقَابِضِ مَا قَبَضَ؛ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى إيثَارِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ مِثْلَ مَا أَخْرَجَ مِنْ مِلْكِهِ فِيمَا قَبَضَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ.
قَالَ: وَإِذَا حَابَى الْعَبْدُ فِي مَرَضِهِ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ فَالْمُحَابَاةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ لِمَوْلَاهُ، وَالْمَوْلَى رَاضٍ بِتَصَرُّفِهِ، وَهُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى هَذِهِ الْمُحَابَاةِ بِخِلَافِ الْحُرِّ فَإِنَّ مَالَهُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الرِّضَا بِمُحَابَاتِهِ، وَكَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَوَفَّى مَالَهُ فِي الدَّيْنِ، وَلَمْ يَفِ مَالُهُ بِالدَّيْنِ لَمْ تَجُزْ الْمُحَابَاةُ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الرِّضَا بِتَصَرُّفِهِ وَمُحَابَاتِهِ، فَهُوَ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ الْمَرِيضِ، وَإِذَا مَرِضَ الْمَأْذُونُ فَوَجَبَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَأَقَرَّ بِاسْتِيفَائِهَا لَهُ لَزِمَتْهُ، وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمَأْذُونِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ الدَّيْنِ ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ مَاتَ فَإِقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِي تَرِكَتِهِ حَقٌّ سِوَى مَوْلَاهُ، وَالْمَوْلَى هُوَ الْمُسَلِّطُ لَهُ عَلَى هَذَا الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّهِ وَتَرْكُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ قَضَاهُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ.
وَإِنْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا قَضَاهُ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لَهُ، وَدَيْنُهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ، وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ بِالدَّيْنِ، وَلَكِنَّهُ لَحِقَهُ دَيْنٌ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ بَطَلَ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْمُعَايَنَةِ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ حِينَ أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ إذْ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ فَلِهَذَا يَبْطُلُ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَمِنْ كِتَابِ الْمَأْذُونِ الصَّغِيرِ.
(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ): وَلَوْ أَنَّ عَبْدَيْنِ تَاجِرَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِرَجُلٍ اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مِنْ مَوْلَاهُ فَإِنْ عُلِمَ أَيُّهُمَا أَوَّلُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَشِرَاءُ الْأَوَّلِ لِصَاحِبِهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَالِكٌ لِبَيْعِهِ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ جَازَ بَيْعُهُ فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ مِنْ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لِغَيْرِهِ ثُمَّ قَدْ صَارَ هَذَا الْمُشْتَرَى مِلْكًا لِمَوْلَى الْمُشْتَرِي، وَصَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَشِرَاؤُهُ الثَّانِيَ مِنْ مَوْلَاهُ بَاطِلٌ؛ لِكَوْنِهِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ يَشْتَرِي عَبْدَ مَوْلَاهُ مِنْ مَوْلَاهُ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَهَذَا الشِّرَاءُ مِنْ الْمَأْذُونِ لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمُ أَيُّ الْبَيْعَيْنِ أَوَّلُ؛ فَالْبَيْعُ مَرْدُودٌ كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَصَلَا مَعًا؛ وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَالْبَيْعُ فِي الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ أَبَدًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ شِرَاءُ الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ غُرَمَاؤُهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ مَوْلَاهُ إيَّاهُ مِنْ عَبْدٍ مَأْذُونٍ كَبَيْعِهِ مِنْ حُرٍّ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِدُونِ إجَازَةِ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ حَقُّهُمْ، وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ أَمَةً فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ فَادَّعَى الْوَلَدَ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَوْلَاهُ صَحَّتْ دَعْوَاهُ، وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى تَصَرُّفٌ مِنْهُ، وَهُوَ فِي التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الدَّعْوَى وَثُبُوتِ النَّسَبِ كَوْنُ الْأَمَةِ حَلَالًا لَهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَتِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ لَوْ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَتِهِ، وَهِيَ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً لِمَوْلَاهُ مِنْ غَيْرِ تِجَارَةِ الْعَبْدِ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ بِالدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَدَعْوَاهُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ، وَهُوَ فِي سَائِرِ أَمْوَالِ الْمَوْلَى كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ مَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمَوْلَى فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَهَا، وَلَمْ تَلِدْ ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَلَا مَهْرَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يُعْتَقَ أَمَّا فِي جَارِيَةِ الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي جِمَاعِهَا فَفِعْلُهُ بِهَا يَكُونُ زِنًا، وَالزِّنَا لَا يُوجِبُ الْمَهْرَ وَبِالِاسْتِحْقَاقِ يَتَقَرَّرُ مَعْنَى الزِّنَا.
، وَأَمَّا فِي الْجَارِيَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ كَسْبِهِ فَإِقْرَارُهُ بِوَطْئِهَا صَحِيحٌ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِزِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ إذَا ادَّعَاهُ فَإِذَا اُسْتُحِقَّتْ أَخَذَهُ بِالْعُقْرِ فِي الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَ وَطْأَهَا بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ هُوَ تِجَارَةٌ فَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّكَاحِ.
وَإِذَا أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فِي التِّجَارَةِ فَتَصَرَّفَ، وَلَحِقَهُ دَيْنٌ فَهُوَ مَرْهُونٌ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ يَمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْ اكْتِسَابِ سَبَبٍ يُثْبِتُ الدَّيْنَ بِهِ عَلَيْهِ فِي مُزَاحَمَةِ الْمُرْتَهِنِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ مَالَهُ بِيعَ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، وَقَدْ سَقَطَ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ دَيْنِهِ شَيْءٌ فَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ حَتَّى يُعْتَقَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مَرْهُونًا، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ تَاجِرًا، وَلَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ إنَّ مَوْلَى الْعَبْدِ وَهَبَ الْعَبْدَ، وَقَبَضَهُ جَازَتْ الْهِبَةُ، وَالدَّيْنُ لَازِمٌ عَلَيْهِ لِمَوْلَى الْعَبْدِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ وَهَبَ الْعَبْدَ دُونَ الْمَالِ، وَالْمَالُ كَسْبُ الْعَبْدِ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ فَهُوَ نَظِيرُ مَالٍ هُوَ عَيْنٌ فِي يَدِهِ فَلَا تَتَنَاوَلُهُ الْهِبَةُ، وَلَكِنَّهُ سَالِمٌ لِمَوْلَاهُ بَعْدَ إخْرَاجِهِ الْعَبْدَ مِنْ مِلْكِهِ بِالْهِبَةِ.
وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ دَيْنُ خَمْسِمِائَةٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَكَفَلَ لِرَجُلٍ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ ثُمَّ اسْتَدَانَ أَلْفًا أُخْرَى ثُمَّ كَفَلَ بِأَلْفٍ أُخْرَى ثُمَّ بِيعَ الْعَبْدُ بِأَلْفٍ فَيَقُولُ أَمَّا الْكَفَالَةُ الْأُولَى فَيَبْطُلُ نِصْفُهَا، وَيَضْرِبُ صَاحِبُهَا بِنِصْفِهَا فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْفَارِغَ عَنْ مَالِيَّتِهِ عِنْدَ الْكَفَالَةِ الْأُولَى كَانَ بِقَدْرِ خَمْسِمِائَةٍ، وَكَفَالَتُهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى إنَّمَا تَصِحُّ فِيمَا هُوَ فَارِغٌ عَنْ مَالِيَّتِهِ عَنْ حَقِّ غَرِيمِهِ وَقْتَ الْكَفَالَةِ فَيَثْبُتُ مِنْ دَيْنِ الْمَكْفُولِ لَهُ الْأَوَّلِ مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَالْكَفَالَةُ الثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ كَفَلَ بِهَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ مَالِيَّتِهِ فَارِغًا فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ الثَّانِي بِجَمِيعِ دَيْنِهِ، وَهُوَ أَلْفٌ وَصَاحِبُ الْكَفَالَةِ الْأُولَى بِخَمْسِمِائَةٍ فَيَصِيرُ ثَمَنُ الْعَبْدِ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا غَيْرَ أَنَّك تَجْعَلُ كُلَّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا بِقَدْرِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ، وَمِثْلُهُ لِصَاحِبِ الْكَفَالَةِ الْأُولَى، وَمِقْدَارُ خَمْسِمِائَةٍ لِغَرِيمِ الْعَبْدِ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ الْأَوْجُهِ وَقِيَاسُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.كتاب الديات:

(قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامِ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ) اعْلَمْ بِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِنَايَاتِ بَعْدَ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} وَقَالَ النَّبِيُّ: عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَلَا إنَّ أَعْتَى النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِ أَبِيهِ وَرَجُلٌ قَتَلَ قَبْل أَنْ يَدْخُل الْجَاهِلِيَّةَ وَرَجُلٌ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ» وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ بِعَرَفَاتٍ «أَلَا إنَّ دِمَاءَكُمْ وَنُفُوسَكُمْ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا فِي مَقَامِي هَذَا» وَلَمَّا قَتَلَ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يُرْحَمُ فَدُفِنَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ ثُمَّ دُفِنَ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَقَالَ: أَمَا إنَّهَا تَقْبَلُ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَاكُمْ حُرْمَةَ الْقَتْلِ» وَفِي قَتْلِ النَّفْسِ إفْسَادُ الْعَالَمِ وَنَقْضُ الْبِنْيَةِ.
وَمِثْلُ هَذَا الْفَسَادِ مِنْ أَعْظَمِ الْجِنَايَاتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَانِيَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الزَّجْرِ بِالْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ مَا انْزَجَرَ إلَّا أَقَلَّ الْقَلِيلِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ إنَّمَا يَنْزَجِرُونَ مَخَافَةَ الْعَاجِلَةِ بِالْعُقُوبَةِ، وَذَلِكَ بِمَا يَكُونُ مُتْلِفًا لِلْجَانِي أَوْ مُجْحِفًا بِهِ فَشَرَعَ اللَّهُ الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ لِتُحَقِّقَ مَعْنَى الزَّجْرِ.
وَهَذَا الْكِتَابُ لِبَيَانِ ذَلِكَ وَقَدْ سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كِتَابَ الدِّيَاتِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بِالْقَتْلِ أَعَمُّ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي الْخَطَأِ، وَفِي شَبَهِ الْعَمْدِ، وَفِي الْعَمْدِ عِنْدَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ، وَكَذَلِكَ الدِّيَةُ تَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا، وَالْقِصَاصُ لَا يَتَنَوَّعُ فَلِهَذَا رَجَحَ جَانِبُ الدِّيَةِ فِي نِسْبَةِ الْكِتَابِ إلَيْهَا وَاشْتِقَاقُ الدِّيَةِ مِنْ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ مُودَى فِي مُقَابِلَةِ مُتْلَفٍ لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ النَّفْسُ، وَالْأَرْشُ الْوَاجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُؤَدًّى أَيْضًا.
وَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ فِي سَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ إلَّا أَنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ خَاصٌّ فِي بَدَلِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَطْرُدُونَ الِاشْتِقَاقَ فِي جَمِيعِ مَوَاضِعِهِ؛ لِقَصْدِ التَّخْصِيصِ بِالتَّعْرِيفِ، وَسُمِّيَ بَدَلُ النَّفْسِ عَقْلًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا اعْتَادُوا ذَلِكَ مِنْ الْإِبِلِ فَكَانُوا يَأْتُونَ بِالْإِبِلِ لَيْلًا إلَى فِنَاءِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَتُصْبِحُ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ، وَالْإِبِلُ مَعْقُولَةٌ بِفِنَائِهِمْ فَلِهَذَا سَمَّوْهُ عَقْلًا.
ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ فَقَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقَتْلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ عَمْدٌ وَخَطَأٌ وَشِبْهُ الْعَمْدِ، وَالْمُرَادُ بِهِ بَيَانُ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَقُولُ: الْقَتْلُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: عَمْدٌ وَشِبْهُ عَمْدٍ، وَخَطَأٌ وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ وَمَا لَيْسَ بِعَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ وَلَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ أَمَّا الْعَمْدُ فَهُوَ مَا تَعَمَّدْتَ ضَرْبَهُ بِسِلَاحٍ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ هُوَ الْقَتْلُ، وَقَصْدُ إزْهَاقِ الْحَيَاةِ، وَهِيَ غَيْرُ مَحْسُوسَةٍ لِقَصْدِ أَخْذِهَا فَيَكُونُ الْقَصْدُ إلَى إزْهَاقِ الْحَيَاةِ بِالضَّرْبِ بِالسِّلَاحِ الَّذِي هُوَ جَارِحٌ عَامِلٌ فِي الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا ثُمَّ الْمُتَعَلِّقُ بِهَذَا الْفِعْلِ أَحْكَامٌ مِنْهَا: الْمَأْثَمُ وَذَلِكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} الْآيَةَ.
وَمِنْهَا الْقِصَاصُ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَتَبَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا فَهُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ النَّسْخِ فِيهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا فَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، وَفِيهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَيَاةٌ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ عَدُوِّهِ فَإِذَا تَفَكَّرَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ أَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ انْزَجَرَ عَنْ قَتْلِهِ فَكَانَ حَيَاةً لَهُمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَيَاةٌ بِطَرِيقِ دَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ فَإِنَّ الْقَاتِلَ بِغَيْرِ حَقٍّ يَصِيرُ حَرْبًا عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ فَهُوَ يَقْصِدُ إفْنَاءَهُمْ؛ لِإِزَالَةِ الْخَوْفِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالشَّرْعُ مَكَّنَهُمْ مِنْ قَتْلِهِ قِصَاصًا لِدَفْعِ شَرِّهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِحْيَاءُ الْحَيِّ فِي دَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْهُ، وَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْعَمْدُ قَوَدٌ» أَيْ مُوجِبُهُ الْقَوَدُ فَإِنَّ نَفْسَ الْعَمْدِ لَا يَكُونُ قَوَدًا، وَقَالَ: صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» أَيْ حُكْمُ اللَّهِ، وَالْقِصَاصُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسَاوَاةِ، وَفِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ هُوَ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} وَاتِّبَاعُ أَثَرِ الشَّيْءِ فِي الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، فَجُعِلَ عِبَارَةً عَنْ الْمُسَاوَاةِ لِذَلِكَ.
وَمِنْ حُكْمِهِ: حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ»، وَفِي رِوَايَةٍ «لَا شَيْءَ لِلْقَاتِلِ» أَيْ مِنْ الْمِيرَاثِ.
وَمِنْ حُكْمِهِ: وُجُوبُ الْمَالِ بِهِ عِنْدَ التَّرَاضِي أَوْ عِنْدَ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} أَيْ فَمَنْ أُعْطِيَ لَهُ مِنْ دَمِ أَخِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ بِمَعْنَى الْفَضْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ}، وَالْمُرَادُ بِهِ إذَا رَغِبَ الْقَاتِلُ فِي أَدَاءِ الدِّيَةِ فَالْمَوْلَى مَنْدُوبٌ إلَى مُسَاعَدَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى الْقَاتِلِ أَدَاؤُهُ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ إذَا سَاعَدَهُ الْوَلِيُّ، وَهَذِهِ الدِّيَةُ تَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ إذَا كَانَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَالتَّرَاضِي فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَلِأَنَّ فِي الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ مَعْنَى الزَّجْرِ، وَمَعْنَى الزَّجْرِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ مُجْحِفًا بِهِ، وَهُوَ الْكَثِيرُ مِنْ مَالِهِ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ بِهَذَا الْفَصْلِ عِنْدَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِهِ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ بِالْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ إلَّا أَنْ يُصَالِحَ الْوَلِيُّ الْقَاتِلَ عَلَى الدِّيَةِ وَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: مُوجِبُ الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِ الْمَوْلَى، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: مُوجِبُهُ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَخْتَارَ أَخْذَ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبُ الْقَتْلِ، وَأَنَّ الْوَلِيَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا وَلَمَّا أُتِيَ بِالْقَاتِلِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْوَلِيِّ أَتَعْفُو فَقَالَ: «لَا فَقَالَ أَتَأْخُذُ الدِّيَةَ فَقَالَ: لَا فَقَالَ الْقَتْلَ فَقَالَ نَعَمْ» فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْوَلِيَّ يَسْتَبِدُّ بِأَخْذِ الدِّيَةِ كَمَا يَسْتَبِدُّ بِالْعَفْوِ، وَالْقَتْلِ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا إتْلَافُ حَيَوَانٍ مُتَقَوِّمٍ فَيَكُونُ مُوجِبًا ضَمَانَ الْقِيمَةِ كَإِتْلَافِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَقِيمَةُ النَّفْسِ الدِّيَةُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَإِتْلَافُ الْمُقَوَّمِ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ، وَقِيمَةُ النَّفْسِ الدِّيَةُ بِدَلِيلِ حَالَةِ الْخَطَأِ فَإِنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِالْإِتْلَافِ لَا بِصِفَةِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ مُسْقِطٌ، وَالْمُتْلِفُ فِي حَالَةِ الْعَمْدِ مَا هُوَ الْمُتْلِفُ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ بِمَعْنَى الِانْتِقَامِ وَشِفَاءِ الصَّدْرِ لِلْوَلِيِّ، وَدَفْعِ الْغَيْظِ عَنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ، وَالْإِتْلَافُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بِمُقَابَلَةِ الْإِتْلَافِ وَهُوَ لَيْسَ بِمِثْلٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْجَمَاعَةَ يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْعَشَرَةِ وَالْوَاحِدِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ بِمَعْنَى زِيَادَةِ النَّظَرِ لِلْوَلِيِّ، وَذَلِكَ فِي أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّهُ فِي الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ بَلْ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا فِيهِ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ وَيَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءُ أَوْ نَاقِصَةٌ بِأُصْبُعٍ فَإِنَّ الْقِصَاصَ وَاجِبٌ، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي لِهَذَا الْمَعْنَى؛ وَلِأَنَّ النَّفْسَ مُحْتَرَمَةٌ بِحُرْمَتَيْنِ، وَفِي إتْلَافِهَا هَتْكُ الْحُرْمَتَيْنِ جَمِيعًا حُرْمَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحُرْمَةِ حَقِّ صَاحِبِ النَّفْسِ وَجَزَاءُ حُرْمَةِ اللَّهِ الْعُقُوبَةُ زَجْرًا وَجَزَاءُ هَتْكِ حُرْمَةِ الْعَبْدِ الْغَرَامَةُ جَبْرًا.
وَلَكِنْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا هَاهُنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ حَقًّا لِلْعَبْدِ حَتَّى يَعْمَلَ فِيهِ إسْقَاطُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ وَيَسْقُطُ بِإِذْنِهِ، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ بِمُقَابَلَةِ مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَأَثْبَتْنَا الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، وَقُلْنَا: إنْ شَاءَ مَالَ إلَى جَانِبِ هَتْكِ حُرْمَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَوْفَى الْعُقُوبَةَ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ حُرْمَةِ حَقِّ الْعِبَادِ فَاسْتَوْفَى الدِّيَةَ.
وَلَا خِلَافَ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّمِ إذَا عَفَا أَنَّ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَالَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَالُ وَاجِبًا لَهُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ لَمَا وَجَبَ بِالْعَفْوِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ مُسْقِطٌ، وَلَوْ وَجَبَ بِالْعَفْوِ لَوَجَبَ عَلَى الْعَافِي، وَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا كَضَمَانِ الْإِعْتَاقِ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتِقِ إذَا كَانَ مُوسِرًا، وَلَمَّا وَجَبَ الْمَالُ لِلْآخَرِ عَلَى الْقَتْلِ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِ الْقَتْلِ، وَلَمَّا ظَهَرَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَفْوِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْفُ فَكَذَلِكَ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْعَافِي إذَا عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ فَقُلْنَا: يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الدِّيَةِ بَعْدَمَا اسْتَحَقَّتْ نَفْسُهُ قِصَاصًا مُلْقٍ نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ، فَيَكُونُ مَمْنُوعًا شَرْعًا كَالْمُضْطَرِّ إذَا وَجَدَ طَعَامًا يَشْتَرِيهِ، وَمَعَهُ ثَمَنُهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ شِرَاؤُهُ شَرْعًا لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَا هَاهُنَا.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْعَمْدُ قَوَدٌ» فَقَدْ أَدْخَلَ الْأَلِفَ، وَاللَّامَ فِي الْعَمْدِ، وَذَلِكَ لِلْمَعْهُودِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِلْجِنْسِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا مَعْهُودٌ فَكَانَ لِلْجِنْسِ، وَفِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ جِنْسَ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ فَمَنْ جَعَلَ الْمَالَ وَاجِبًا بِالْعَمْدِ مَعَ الْقَوَدِ فَقَدْ زَادَ عَلَى النَّصِّ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ الْعَمْدُ قَوَدٌ، وَلَا مَالَ لَهُ فِيهِ وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: فِي دَمٍ عَمْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ عَفَا أَحَدُهُمَا انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فَتَخْصِيصُهُمَا غَيْرَ الْعَافِي بِوُجُوبِ الْمَالِ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَافِيَ لَا شَيْءَ لَهُ فَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ «فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ» فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ فَإِنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا فَادَوْا»، وَالْمُفَادَاةُ عَلَى مِيزَانِ الْمُفَاعَلَةِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْقَتْلِ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِالتَّرَاضِي، وَذَلِكَ أَخْذُ الدِّيَةِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ، وَتَأْوِيلُ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ: وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ مِنْ جِهَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ رِضَا الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَدَاءِ الْمَالِ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسُهُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ لِإِبْقَاءِ مَنْفَعَةِ الْمَالِ سَفَهٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ بَعْدَمَا تَلِفَتْ نَفْسُهُ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «خُذْ سَلَمَك أَوْ رَأْسَ مَالِك»، وَهُوَ فِي أَخْذِ رَأْسِ الْمَالِ يَحْتَاجُ إلَى رِضَا الْمُسَلِّمِ إلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ لَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ لَا يُجْبَرَ الْوَلِيُّ عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ شَاءَ أَوْ أَبَى لَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُجْبِرَ غَيْرَهُ عَلَى أَدَاءِ الدِّيَةِ بِدَلِيلِ قِصَّةِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ بَعْدَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَفِّ عَنْ الْقَتْلِ فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ أَمَّا أَنْتُمْ يَا مَعَاشِرَ خُزَاعَةَ فَقَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَأَنَا وَاَللَّهِ عَاقِلَتُهُ فَوَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ فَمَنْ قُتِلَ لَهُ بَعْدَ الْيَوْمِ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ» فَقَدْ أَجْبَرَ الْوَلِيَّ عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ انْتَسَخَ، وَأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ بَعْدَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عَرَضَ الدِّيَةَ عَلَى الْوَلِيِّ، وَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَ رِضَا الْقَاتِلِ مَشْرُوطًا فِيهِ، وَلَكِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ التَّبَرُّعَ بِأَدَاءِ الدِّيَةِ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَا الْقَاتِلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ رَغْبَةَ الْمَوْلَى فِي أَخْذِ الدِّيَةِ ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِاسْتِرْضَاءِ الْقَاتِلِ كَمَنْ سَعَى بِالصُّلْحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَسْتَرْضِي أَحَدَهُمَا فَإِذَا تَمَّ لَهُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ اسْتَرْضَى الْآخَرَ.
وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ أَتْلَفَ شَيْئًا مَضْمُونًا فَيَتَقَدَّرُ ضَمَانُهُ بِالْمِثْلِ مَا أَمْكَنَ كَإِتْلَافِ الْمَالِ وَتَفْوِيتُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ يَكُونُ الْوَاجِبُ فِيهَا الْمِثْلُ إذَا أَمْكَنَ.
وَهَذَا لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}؛ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمِثْلِ ظُلْمٌ عَلَى الْمُتَعَدِّي، وَفِي النُّقْصَانِ يَحْسُنُ بِالْمُتَعَدَّى عَلَيْهِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَذَلِكَ بِالْمِثْلِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الدِّيَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ لِلْمُتْلِفِ، وَالْقِصَاصُ مِثْلٌ أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الدِّيَةَ لَيْسَتْ بِمِثْلٍ؛ فَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تُعْرَفُ صُورَةً أَوْ مَعْنًى، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَالِ، وَالْآدَمِيِّ صُورَةً، وَلَا مَعْنًى، وَالنَّفْسُ مَخْلُوقَةٌ لِأَمَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاشْتِغَالِ بِطَاعَتِهِ؛ لِيَكُونَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، وَالْمَالُ مَخْلُوقٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْآدَمِيِّ بِهِ لِيَكُونَ مُبْتَذَلًا فِي حَوَائِجِهِ.
فَأَمَّا الْقِصَاصُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ؛ فَلِأَنَّهُ قَتْلٌ بِإِزَاءِ قَتْلٍ وَإِزْهَاقُ حَيَاةٍ بِإِزْهَاقِ حَيَاةٍ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَالْمَقْصُودُ بِالْقَتْلِ لَيْسَ إلَّا الِانْتِقَامُ، وَالثَّانِي فِي مَعْنَى الِانْتِقَامِ كَالْأَوَّلِ، وَبِهَذَا سُمِّيَ قِصَاصًا ثُمَّ الْمِثْلُ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ، وَلَا يُجْعَلُ جُبْرَانُ الْحَيَاةِ بِالْمَالِ، وَإِنَّمَا جُبْرَانُ الْحَيَاةِ بِحَيَاةٍ مِثْلِهَا، وَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى أَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً فَعَلَيْنَا أَنْ نَعْقِدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقِصَاصِ عَقَلْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْقِلْهُ، ثُمَّ هُوَ مَعْقُولٌ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ حَيَاةٌ بِطَرِيقِ دَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ، وَلَكِنْ لِلْوَلِيِّ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَقْتُولِ كَمَا أَنَّ الْمَالَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ إنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَقْتُولِ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى إثْبَاتِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ بِالْقِصَاصِ، وَهُوَ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ، وَلَا حَقَّ لِلْعَبْدِ إلَّا فِي الْمِثْلِ، فَأَمَّا أَجْزِيَةُ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ فَتَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا حَاجَتُنَا إلَى أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلنَّفْسِ وَقَدْ أَثْبَتنَا ذَلِكَ فَقُلْنَا: لَا يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ الْمُتْلَفَةِ قَتْلًا إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ بِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْمِثْلِ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْمَالُ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ نِهَايَةٌ فِي الْعُقُوبَاتِ الْمُعَجَّلَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْخَاطِئُ مَعْذُورٌ فَتَعَذَّرَ إيجَابُ الْمِثْلِ عَلَيْهِ، وَنَفْسُ الْمَقْتُولِ مُحَرَّمَةٌ لَا يَسْقُطُ جُزْءٌ مِنْهَا بِعُذْرِ الْخَاطِئِ فَوَجَبَ صِيَانَتُهَا عَنْ الْهَدَرِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الْمَالَ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ عَنْ الْإِهْدَارِ لَا بِطَرِيقِ أَنَّهُ مِثْلٌ كَمَا أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّيْخِ الْفَانِي عِنْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ بِهِ عَنْ الصَّوْمِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِطْعَامَ مِثْلُ الصَّوْمِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ اسْتِيفَاءِ مِثْلِ حَقِّهِ لَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْمَالِ وَكَمَا ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْخَطَأِ قُلْنَا: فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ مَوَاضِعِ الْعَمْدِ بِتَحَقُّقِ هَذَا الْمَعْنَى نُوجِبُ هَذَا الْمَالَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ يَلْحَقُ بِهِ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَالْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا يَجِبُ الْمَالُ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْقِصَاصِ لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ.
وَإِذَا عَفَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ يَجِبُ لِلْآخَرِ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى فِي الْقَاتِلِ، وَهُوَ أَنَّهُ حَتَّى يَقُصَّ نَفْسَهُ بِعَفْوِ الشَّرِيكِ فَكَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَوَجَبَ الْمَالُ لِلْآخَرِ، وَلَا يَجِبُ لِلْعَافِي؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ عَلَى الْعَافِي بِإِسْقَاطِهِ مِنْ جِهَتِهِ لَا بِمَعْنًى فِي الْقَاتِلِ، ثُمَّ إقْدَامُ الْعَافِي عَلَى الْعَفْوِ يَكُونُ تَعْيِينًا مِنْهُ لِحَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ يُعْتَرَفُ فِيهِ بِالْإِسْقَاطِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَعْيِينِ حَقِّهِ فِيهِ، وَمَعَ تَعْيِينِ حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ لَا يَجِبُ لَهُ الْمَالُ.
وَإِذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إنَّمَا لَا نُوجِبُ الْمَالَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْخَاطِئِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنْ تَعَذَّرَ إيجَابُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فَلَوْ أَلْحَقْنَا هَذَا بِالْخَاطِئِ لِمَعْنَى التَّعَذُّرِ كَانَ قِيَاسًا، وَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءَ فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ هَاهُنَا عَاجِزٌ عَنْ اسْتِيفَاءِ مِثْلِ حَقِّهِ بِصِفَتِهِ لَا لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ بَلْ لِمَعْنًى فِي الْجَانِي فَإِنْ شَاءَ تَجَوَّزَ بِدُونِ حَقِّهِ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ كُرَّ حِنْطَةٍ، وَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ إلَّا كُرًّا رَدِيئًا فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَتَجَوَّزَ بِدُونِ حَقِّهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ بِالْقِيمَةِ؛ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ بِصِفَتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْقَاطِعِ ظُلْمًا؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الِاسْتِيفَاءِ هَاهُنَا لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ فِي سَرِقَةٍ أَوْ قِصَاصٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْأَرْشُ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ هُنَاكَ فِي مَعْنَى الْقَائِمِ حُكْمًا حِينَ قَضَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَكُونُ كَالسَّالِمِ لَهُ حُكْمًا فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ، وَمَا قَالَ أَنَّ فِي النَّفْسِ حُرْمَتَيْنِ فَنَقُولُ فِي نَفْسِ الْقَاتِلِ حُرْمَتَانِ كَمَا فِي نَفْسِ الْمَقْتُولِ فَإِذَا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ يَحْصُلُ بِهِ مُرَاعَاةُ الْحُرْمَتَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ الْقِصَاصُ لَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْحُرْمَتَيْنِ جَمِيعًا، وَإِذَا اعْتَبَرْنَاهُمَا لِإِيجَابِ الْقِصَاصِ لَا يَبْقَى حُرْمَةٌ أُخْرَى تُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ صَحِيحًا لَوَجَبَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا اسْتِيفَاءً كَمَنْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا فِي الْحَرَمِ يَجْمَعُ بَيْنَ وُجُوبِ الْكَفَالَةِ؛ لِحُرْمَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَوُجُوبِ الضَّمَانِ لِحَقِّ الْمَالِكِ.
وَفِيمَا قَرَّرْنَا جَوَابٌ عَمَّا قَالَ: إنَّ الْقِصَاصَ وَاجِبٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى هُوَ الْقِصَاصُ عُلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ، وَاَلَّذِي قَالَ: إنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الدِّيَةِ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ إلْقَاءَ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ إنَّمَا كَانَ بِالْقَبِيلِ السَّابِقِ فَأَمَّا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الدِّيَةِ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، وَيَمْتَنِعُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ بِهِ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ.
وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ: فَهُوَ مَا تَعَمَّدْت ضَرْبَهُ بِالْعَصَا أَوْ السَّوْطِ أَوْ الْحَجَرِ أَوْ الْيَدِ فَإِنَّ فِي هَذَا الْفِعْلَ مَعْنَيَيْنِ: الْعَمْدِ بِاعْتِبَارِ قَصْدِ الْفَاعِلِ إلَى الضَّرْبِ، وَمَعْنَى الْخَطَأِ بِاعْتِبَارِ انْعِدَامِ الْقَصْدِ مِنْهُ إلَى الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْآلَةَ الَّتِي اسْتَعْمَلَهَا آلَةُ الضَّرْبِ لِلتَّأْدِيبِ دُونَ الْقَتْلِ، وَالْعَاقِلُ إنَّمَا يَقْصِدُ كُلَّ فِعْلٍ بِآلَتِهِ فَاسْتِعْمَالُهُ آلَةَ التَّأْدِيبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ إلَى الْقَتْلِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ خَطَأٌ لِشِبْهِ الْعَمْدِ صُورَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كَانَ قَاصِدًا إلَى الضَّرْبِ، وَإِلَى ارْتِكَابِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ.
وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ لَا أَدْرِي مَا شِبْهُ الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا الْقَتْلُ نَوْعَانِ عَمْدٌ وَخَطَأٌ، وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ عَلَى مَا رَوَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلَ السَّوْطِ وَالْعَصَا وَفِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا»، وَالصَّحَابَةُ اتَّفَقُوا عَلَى شِبْهِ الْعَمْدِ حَيْثُ أَوْجَبُوا الدِّيَةَ فِيهِ مُغَلَّظَةً مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي صِفَةِ التَّغْلِيظِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شِبْهُ الْعَمْدِ الضَّرْبَةُ بِالْعَصَا وَالْعَزْقَةُ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ.
فَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِ شِبْهُ الْعَمْدِ فَنَقُولُ: إنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ؛ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ، وَالْخَطَأِ مِنْ حَيْثُ انْعِدَامُ الْقَصْدِ إلَى الْقَتْلِ، وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهِيَ تَعَمُّدُ الْمُسَاوَاةِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ قَتْلٍ مَقْصُودٍ وَقَتْلٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ، ثُمَّ هَذَا الْقَتْلُ لَمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَالْآخَرُ يَمْنَعُ تَرَجَّحَ الْمَانِعُ عَلَى الْمُوجِبِ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ فِي إبْقَاءِ النَّفْسِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، فَإِنَّ الْإِبْقَاءَ حَيَاةٌ حَقِيقَةً، وَفِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ حُكْمًا فَلِهَذَا لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقَوَدِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ، وَهِيَ مُغَلَّظَةٌ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الدِّيَةَ مُغَلَّظَةً فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَهَذَا التَّغْلِيظُ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ إذَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ مِنْهَا لَا فِي شَيْءٍ آخَرَ، وَهَذِهِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِمَنْزِلَةِ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمِّ يَقُولُ: لَا تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِحَالٍ؛ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي رِمْثَةَ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ مَعَ ابْنِهِ «أَمَّا أَنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك، وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ» أَيْ لَا يُؤْخَذُ بِجِنَايَتِك، وَلَا تُؤْخَذُ بِجِنَايَتِهِ.
وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ يَجِبُ عَلَى الْمُتْلِفِ دُونَ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ، وَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمُتْلِفِ فِي إتْلَافِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَتِهِ فِي إتْلَافِ الْأَمْوَالِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ عَقْلَ جِنَايَةِ كُلِّ بَطْنٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَيْهِمْ»، وَفِي حَدِيثِ حَمْدَانَ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَابِغَةَ قَالَ: كُنْت بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي فَضَرَبَتْ أَحَدُهُمَا بَطْنَ صَاحِبَتِهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ أَوْ بِمِسْطَحِ خَيْمَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَاخْتَصَمَ أَوْلِيَاؤُهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَوْلِيَاءِ الضَّارِبَةِ «دُوهُ فَقَالَ أَخُوهَا عِمْرَانُ بْنُ عُوَيْمِرٌ الْأَسْلَمِيُّ أَنَدِي مَنْ لَا صَاحَ، وَلَا اسْتَهَلَّ، وَلَا شَرِبَ، وَلَا أَكَلَ وَمِثْلُ دَمِهِ بَطَلَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ»، وَفِي رِوَايَةٍ «دَعْنِي، وَأَرَاجِيزَ الْعَرَبِ قُومُوا فَدُوهُ» الْحَدِيثَ.
فَفِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ ثُمَّ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ إنَّمَا يَقْصِدُهُ الْقَاتِلُ بِزِيَادَةِ قُوَّةٍ لَهُ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّنَاصُرِ الظَّاهِرِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا التَّنَاصُرِ أَسْبَابٌ مِنْهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ أَهْلِ الدِّيوَانِ بِاجْتِمَاعِهِمْ فِي الدِّيوَانِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ الْعَشَائِرِ، وَأَهْلِ الْمَحَالِّ، وَأَهْلِ الْحِرَفِ فَإِنَّمَا يَكُونُ تَمَكُّنُ الْفَاعِلِ مِنْ مُبَاشَرَتِهِمْ بِنُصْرَتِهِمْ فَيُوجِبُ الْمَالَ عَلَيْهِمْ؛ لِيَكُونَ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ غَلَبَةِ سُفَهَائِهِمْ؛ وَبَعْثًا لَهُمْ عَلَى الْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِهِمْ لِكَيْ لَا تَقَعَ مِثْلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ هَذَا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَكَذَلِكَ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ قَلَّمَا يُبْتَلَى بِهِ الْمَرْءُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَّا لِضَرْبِ اسْتِهَانَةٍ وَقِلَّةِ مُبَالَاةٍ تَكُونُ مِنْهُ، وَذَلِكَ بِنَصْرِهِ مَنْ يَنْصُرُهُ ثُمَّ الدِّيَةُ مَالٌ عَظِيمٌ، وَفِي إيجَابِ الْكُلِّ عَلَى الْقَاتِلِ إجْحَافٌ بِهِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ ذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ دَفْعًا لِضَرَرِ الْإِجْحَافِ عَنْ الْقَاتِلِ كَمَا أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَقَارِبِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ؛ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْحَاجَةِ.
وَلِهَذَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مُؤَجَّلًا عَلَى وَجْهٍ يَقِلُّ مَا يُؤَدِّيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي كُلِّ نَجْمٍ لِيَكُونَ الِاسْتِيفَاءُ فِي نِهَايَةٍ مِنْ التَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُبْتَلَى بِمِثْلِ ذَلِكَ فَهَذَا يُوَاسِي ذَلِكَ إذَا اُبْتُلِيَ بِهِ، وَذَلِكَ يُوَاسِي هَذَا فَيُدْفَعُ ضَرَرُ الْإِجْحَافِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَحْصُلُ مَعْنَى صِيَانَةِ دَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ، وَمَعْنَى الْإِعْسَارِ لِوَرَثَتِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّا لَا نَجْعَلُ وِزْرَ أَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا نُوجِبُ مَا نُوجِبُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ فِي الْمُوَاسَاةِ، وَبِهَذَا لَا نُوجِبُ ذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُتْلَفُ مَالًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَلَّ مَا يَعْظُمُ هُنَاكَ بَلْ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمُتْلَفِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْإِجْحَافِ بِالْمُتْلِفِ أَنْ لَوْ ضَمِنَ بِهِ، وَهَذَا لَا نُوجِبُ الْقَلِيلَ مِنْ الْأَرْشِ، وَهُوَ مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ.
وَمِنْ مُوجِبِ شِبْهِ الْعَمْدِ أَيْضًا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ أَصْلِ الْفِعْلِ، وَهُوَ مَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَمِنْ مُوجِبِهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ أَصْلِ الْفِعْلِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَبِهَذَا ثَبَتَ فِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ فَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ أَوْلَى، وَأَمَّا الْخَطَأُ فَهُوَ مَا أَصَبْت مِمَّا كُنْت تَعَمَّدْت غَيْرَهُ.
وَالْخَطَأُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ الرَّمْيَ إلَى صَيْدٍ أَوْ هَدَفٍ أَوْ كَافِرٍ فَيُصِيبُ مُسْلِمًا فَهَذَا خَطَأٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ انْعَدَمَ مِنْهُ الْقَصْدُ إلَى الْمَحَلِّ الَّذِي أَصَابَ وَالثَّانِي: أَنْ يَرْمِيَ شَخْصًا يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ أَوْ يَظُنُّهُ صَيْدًا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ فَهَذَا خَطَأٌ بِاعْتِبَارِ مَا فِي قَصْدِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ قَاصِدًا إلَى الْمَحَلِّ الَّذِي أَصَابَهُ وَحُكْمُ الْخَطَأِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَوْضُوعٌ عَنَّا رَحْمَةً مِنْ الشَّرْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وَقَالَ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} وَبَيَّنَّا الْمَعْنَى فِيهِ؛ لِصِيَانَةِ دَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ فَاسْتِحْقَاقُ صِيَانَةِ نَفْسِهِ لَا يَسْقُطُ بِعُذْرِ الْخَاطِئِ، وَمِنْ مُوجِبِهِ الْكَفَّارَةُ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِهَذَا النَّصِّ أَيْضًا، وَالْمَعْنَى فِيهِ مَعْقُولٌ فَإِنَّ الْقَتْلَ أَمْرٌ عَظِيمٌ قَلَّ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْمَرْءُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مَا لَمْ يَكُنْ بِهِ تَهَاوُنٌ فِي التَّحَرُّزِ، وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّحَرُّزِ لِكَيْ لَا يُبْتَلَى بِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ هُوَ مُلْتَزِمًا بِتَرْكِ التَّحَرُّزِ فَنُوجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ جَزَاءً عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ لَا يُبْتَلَى بِهِ الْمَرْءُ إلَّا بِنَوْعِ خِذْلَانٍ، وَهَذَا الْخِذْلَانُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ ذُنُوبٍ سَبَقَتْ مِنْهُ، وَالْحَسَنَةُ تُذْهِبُ السَّيِّئَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فَنُوجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ؛ لِتَكُونَ مَاحِيَةً لِلذُّنُوبِ السَّابِقَةِ، فَلَا يُبْتَلَى بِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ بَعْدَهَا، وَفِي سَيِّئَةِ الْعَمْدِ مَعْنَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ أَظْهَرُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَأْثَمِ بِالْقَصْدِ إلَى أَصْلِ الْفِعْلِ.
وَفِيهِ حَدِيثُ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ حَيْثُ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ النَّارَ بِالْقَتْلِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً يَعْتِقْ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ»، وَإِيجَابُ النَّارِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلٍ مُحَرَّمٍ، وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ فَعَرَفْنَا: أَنَّ الْمُرَادَ شِبْهُ الْعَمْدِ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَعْنَى فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْقَتْلِ أَنَّهُ نَقَّصَ مِنْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ أَحَدَهُمْ مِمَّنْ كَانَ يَحْضُرُ الْجُمَعَ، وَالْجَمَاعَاتِ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ نَفْسٍ مَقَامَ مَا أَتْلَفَ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إحْيَاءً فَعَلَيْهِ إقَامَةُ مَقَامِ النَّفْسِ الْمُتْلَفَةِ تَحْرِيرًا؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ، وَالرِّقُّ تَلَفٌ.
وَبِهَذَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْعَامِدِ، وَقُلْنَا نَحْنُ: إنَّمَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ سَلَّمَ لَهُ نَفْسَهُ شُكْرًا لِلَّهِ حِين أَسْقَطَ عَنْهُ الْقَوَدَ بِعُذْرِ الْخَطَأِ مَعَ تَحَقُّقِ إتْلَافِ النَّفْسِ مِنْهُ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ نَفْسٍ مَقَامَ نَفْسِهِ شُكْرًا لِلَّهِ، وَذَلِكَ فِي أَنَّ تَحَرُّرَ نَفْسٍ مِنْهُ؛ لِتَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ شُكْرًا لِلَّهِ حَيْثُ سَلَّمَ لَهُ نَفْسَهُ، وَبِهَذَا لَا نُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْعَامِدِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ وَنُوجِبُهَا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ سَلَّمَ لَهُ نَفْسَهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ.
وَتَرْجِيحُ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ يُبَيَّنُ فِي مَسْأَلَةِ كَفَّارَةِ الْعَمْدِ إذَا انْتَهَيْنَا إلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ إطْعَامٌ عِنْدَنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ إذَا عَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ قِيَاسَ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ يَجُوزُ فَإِنَّ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ فِي حَادِثَيْنِ يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا، وَمَوْضِعُ بَيَانِهِ أُصُولُ الْفِقْهِ.
فَأَمَّا مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الرَّازِيّ فَهُوَ النَّائِمُ إذَا انْقَلَبَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِعَمْدٍ، وَلَا خَطَأٍ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِلْقَصْدِ مِنْ النَّائِمِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ مِنْهُ تَرْكُ الْقَصْدِ أَوْ تَرْكُ التَّحَرُّزِ، وَلَكِنَّ الِانْقِلَابَ الْمُوجِبَ لِتَلَفِ مَا انْقَلَبَ عَلَيْهِ يَتَحَقَّقُ مِنْ النَّائِمِ فَيَجْرِي هَذَا مَجْرَى الْخَطَأِ حَتَّى تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَالْكَفَّارَةُ وَيَثْبُتُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ؛ لِيُوهِمَ أَنْ يَكُونَ مُتَهَاوِنًا، وَلَمْ يَكُنْ نَائِمًا قَصْدًا مِنْهُ إلَى اسْتِعْجَالِ الْمِيرَاثِ، وَأَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ الْقَصْدَ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ.
فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِعَمْدٍ، وَلَا خَطَأٍ، وَلَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ فَهُوَ حَافِرُ الْبِئْرِ وَوَاضِعُ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ فَلَيْسَ بِمُبَاشِرٍ لِلْقَتْلِ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْقَتْلِ بِإِيصَالِ فِعْلٍ مِنْ الْقَاتِلِ بِالْمَقْتُولِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِنَّمَا اتَّصَلَ فِعْلُهُ بِالْأَرْضِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلِ عَمْدٍ، وَلَا شِبْهِ عَمْدٍ، وَلَا خَطَأٍ، وَلَا مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ بَلْ هُوَ بِسَبَبٍ مُتَعَدٍّ فَنُوجِبُ الدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى صِيَانَةِ النَّفْسِ الْمُتْلَفَةِ عَنْ الْهَدَرِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ فِي بَابِهِ قَالَ: وَفِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، مَعْنَاهُ بِسَبَبِ إتْلَافِ النَّفْسِ فَإِنَّ حَرْفَ فِي لِلظَّرْفِ حَقِيقَةً، وَالنَّفْسُ لَا تَكُونُ ظَرْفًا لِلدِّيَةِ بَلْ قَتْلُهَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ كَمَا يُقَالُ فِي النِّكَاحِ حَلَّ، وَفِي الشِّرَاءِ مَلَكَ.
وَهَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} وَقَالَ: عَلَيْهِ السَّلَامُ «فِي النَّفْسِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، وَمَا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ فِيهِ كَالْمَرْفُوعِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا لَا ثَانِيَ لَهُ فِي الْبَدَنِ مِنْ أَعْضَاءٍ أَوْ مَعَانٍ مَقْصُودَةٍ فَإِتْلَافُهَا كَإِتْلَافِ النَّفْسِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ بِهَا كَمَالُ الدِّيَةِ، وَالْأَعْضَاءُ الَّتِي هِيَ أَفْرَادٌ ثَلَاثَةٌ الْأَنْفُ، وَاللِّسَانُ، وَالذَّكَرُ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: فِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ»، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ثُمَّ قَطْعُ الْأَنْفِ تَفْوِيتُ جَمَالٍ كَامِلٍ وَمَنْفَعَةٍ كَامِلَةٍ وَامْتِيَازُ الْآدَمِيِّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فَاتَ بِهِمَا فَتَفْوِيتُهُمَا فِي مَعْنَى تَفْوِيتِ النَّفْسِ فَكَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَطْعِ جَمِيعِ الْأَنْفِ بِحَيْثُ يُقْطَعُ الْمَارِنُ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْجَمَالِ بِهِ يَحْصُلُ، وَكَذَلِكَ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي الْأَنْفِ اجْتِمَاعُ الرَّوَائِحِ فِي قَصَبَةِ الْأَنْفِ؛ لِنَقْلِهِ مِنْهَا إلَى الدِّمَاغِ، وَذَلِكَ تَفْوِيتٌ بِقَطْعِ الْمَارِنِ وَالْمَارِنُ: مَا دُونَ قَصَبَةِ الْأَنْفِ، وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ فِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ قَدْ امْتَازَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ بِاللِّسَانِ وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى عِبَادِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وَذَلِكَ يَفُوتُ بِقَطْعِ اللِّسَانِ فَفِيهِ تَفْوِيتُ أَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ فِي الْآدَمِيِّ.
وَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ بَعْضِ اللِّسَانِ إذَا مَنَعَ الْكَلَامَ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَمْنَعُ بَعْضَ الْكَلَامِ دُونَ الْبَعْضِ فَالْجَوَابُ الظَّاهِرُ أَنَّ فِيهِ حُكُومَةَ عَدْلٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ تَفْوِيتُ الْمَقْصُودِ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَإِنَّمَا تَمَكَّنَ فِيهِ نُقْصَانٌ فَيَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّ الدِّيَةَ تُقَسَّمُ عَلَى الْحُرُوفِ فَحِصَّةُ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَحِّحَهُ مِنْ الْحُرُوفِ تَسْقُطُ عَنْهُ، وَحِصَّةُ مَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَحِّحَهُ مِنْ الْحُرُوفِ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ إلَّا الْحُرُوفُ الَّتِي تَكُونُ بِاللِّسَانِ فَأَمَّا الْهَاءُ، وَالْحَاءُ، وَالْعَيْنُ لَا عَمَلَ لِلِّسَانِ فِيهَا فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ.
وَفِي الْكِتَابِ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي اللِّسَانِ بِالدِّيَةِ، وَفِي الْأَنْفِ بِالدِّيَةِ قَالَ: وَفِي الذَّكَرِ دِيَةٌ»؛ لِأَنَّ فِي الذَّكَرِ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةِ مِنْ الْآدَمِيِّ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ النَّسْلِ، وَمَنْفَعَةُ اسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ، وَالرَّمْيِ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَشَفَةِ الدِّيَةُ كَامِلَةً؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْمَقْصُودِ يَحْصُلُ بِقَطْعِ الْحَشَفَةِ كَمَا يَحْصُلُ بِقَطْعِ جَمِيعِ الذَّكَرِ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ بِاعْتِبَارِهِ.
وَالْمَعَانِي الَّتِي هِيَ أَفْرَادٌ فِي الْبَدَنِ الْعَقْلُ، وَالسَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالذَّوْقُ، وَالشَّمُّ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ ضَرَبَ عَلَى رَأْسِهِ فَأَذْهَبَ عَقْلَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَمَنْفَعَةَ ذَكَرِهِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَقْلَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْآدَمِيُّ، وَبِهِ يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ، وَبِهِ يَمْتَازُ مِنْ الْبَهَائِمِ، فَالْمُفَوِّتُ لَهُ كَالْمُبْدِلِ لِنَفْسِهِ الْمُلْحِقِ لَهُ بِالْبَهَائِمِ، وَكَذَلِكَ مَنْفَعَةُ السَّمْعِ فَإِنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ بِهَا يَنْتَفِعُ الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْفَعَةُ الْبَصَرِ فَإِنَّهَا مَقْصُودَةٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لِلَّذِي لَا بَصَرَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يُدْفَنْ، وَكَذَلِكَ مَنْفَعَةُ الشَّمِّ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ فِي الْبَدَنِ وَمَنْفَعَةُ الذَّوْقِ كَذَلِكَ فَتَفْوِيتُهَا مِنْ وَجْهٍ اسْتِهْلَاكٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً فَيُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ كَامِلَةً إذَا مَنَعَ الْجِمَاعَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ النَّسْلِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَدِبَ فَإِنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ جَمَالٍ كَامِلٍ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ لِلْآدَمِيِّ فِي كَوْنِهِ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ، قِيلَ فِي مَعْنَى: قَوْله تَعَالَى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}: مُنْتَصِبُ الْقَامَةِ، وَذَلِكَ يَفُوتُ إذَا حَدِبَ، وَالْجَمَالُ لِلْآدَمِيِّ مَطْلُوبٌ كَالْمَنْفَعَةِ فَتَفْوِيتُ الْجَمَالِ الْكَامِلِ يُوجِبُ دِيَةً كَامِلَةً فَإِنْ عَادَ إلَى حَالِهِ، وَلَمْ يَنْقُصْهُ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا أَنَّ فِيهِ أَثَرَ الضَّرْبَةِ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّهُ نَفَى بَعْضَ الشَّيْئَيْنِ بِبَقَاءِ أَثَرِ الضَّرْبَةِ فَيَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ حُكْمَ عَدْلٍ.
وَمِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْإِفْضَاءُ فِي الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَإِنَّهُ يُوجِبَ كَمَالَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةٍ كَامِلَةٍ لَا ثَانِيَ لَهَا فِي الْبَدَنِ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ اسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ.
وَذَكَر الْمُبَرِّدُ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: فِي الصَّعْرِ الدِّيَةُ» وَفَسَّرَ الْمُبَرِّدُ ذَلِكَ بِتَعْوِيجِ الْوَجْهِ، وَفِيهِ تَفْوِيتُ جَمَالٍ كَامِلٍ.
وَأَمَّا مَا يَكُونُ زَوْجًا فِي الْبَدَنِ فَفِي قَطْعِهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ»، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الْأَعْضَاءُ الَّتِي هِيَ أَزْوَاجٌ فِي الْبَدَنِ الْعَيْنَانِ، وَالْأُذُنَانِ الشَّاخِصَتَانِ، وَالْحَاجِبَانِ، وَالشَّفَتَانِ، وَالْيَدَانِ وَثَدْيَا الْمَرْأَةِ، وَالْأُنْثَيَانِ، وَالرِّجْلَانِ أَمَّا فِي الْعَيْنَيْنِ إذَا فُقِئَا الدِّيَةُ كَامِلَةً بِتَفْوِيتِ الْجَمَالِ، وَالْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَأَمَّا فِي الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ فَالدِّيَةُ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّ فِي قَطْعِهِمَا تَفْوِيتَ الْجَمَالِ الْكَامِلِ، وَتَفْوِيتَ الْمَنْفَعَةِ أَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْوَاتَ تَجْتَمِعُ فِيهَا، وَتَنْفُذُ إلَى الدِّمَاغِ، وَبِهِمَا تُقَى الْأَذَى عَنْ الدِّمَاغِ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَاجِبَيْنِ إذَا حَلَقَهُمَا عَلَى وَجْهٍ أَفْسَدَ الْمَنْبَتَ أَوْ نَتَفَهُمَا فَأَفْسَدَ الْمَنْبَتَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ جَمَالٍ كَامِلٍ فَيَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي فُصُولِ الشَّعْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَفِي الشَّفَتَيْنِ مَعْنَى الْجَمَالِ الْكَامِلِ، وَالْمَنْفَعَةِ الْكَامِلَةِ فَبِقَطْعِهَا تَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً وَبِقَطْعِ إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَالْعُلْيَا، وَالسُّفْلَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: فِي السُّفْلَى ثُلُثَا دِيَةٍ، وَفِي الْعُلْيَا ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْعُلْيَا جَمَالًا فَقَطْ، وَفِي السُّفْلَى جَمَالًا وَمَنْفَعَةً، وَهِيَ اسْتِمْسَاكُ الرِّيقِ بِهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْيَدَيْنِ فَإِنَّ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ فِي الْآدَمِيِّ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ فَفِي قَطْعِهِمَا تَفْوِيتُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ، وَفِي قَطْعِ إحْدَاهُمَا تَنْقِيصُهُ، وَكَذَلِكَ فِي ثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ كَامِلَةٌ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ رَضَاعِ الْوَلَدِ، وَكَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَطْعِ ثَدْيَيْهَا تَجِبُ بِقَطْعِ حَلَمَتَيْهَا؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْمَنْفَعَةِ يَحْصُلُ بِقَطْعِ الْحَلَمَةِ كَمَا يَحْصُلُ بِقَطْعِ جَمِيعِ الثَّدْيِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَشَفَةِ مَعَ الذَّكَرِ، وَالْمَارِنِ مَعَ الْأَنْفِ، وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْإِمْنَاءِ، وَالنَّسْلِ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الرِّجْلَيْنِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْمَشْيِ، وَانْتِفَاعُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا تَمَكَّنَ الْمَرْءِ مِنْ الْمَشْيِ فَقَطْعُ الرِّجْلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِهْلَاكِهِ حُكْمًا.
وَأَمَّا مَا يَكُونُ أَرْبَاعًا فِي الْبَدَنِ فَهُوَ أَشْفَارُ الْعَيْنَيْنِ يَجِبُ فِي كُلِّ شَفْرٍ رُبُعُ الدِّيَةِ، وَيَسْتَوِي إنْ نَتَفَ الْأَهْدَابَ فَأَفْسَدَ الْمَنْبَتَ أَوْ قَطَعَ الْجُفُونَ كُلَّهَا بِالْأَشْفَارِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْجَمَالِ يَتِمُّ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَهْدَابَ، وَالْجُفُونَ تَقِي الْأَذَى عَنْ الْعَيْنَيْنِ وَتَفْوِيتُ ذَلِكَ بِنَقْصٍ مِنْ الْبَصَرِ، وَيَكُونُ آخِرُهُ الْعَمَى فَيَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الدِّيَةِ، وَهِيَ أَرْبَاعٌ فِي الْبَدَنِ فَتُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا رُبُعُ الدِّيَةِ.
فَأَمَّا مَا يَكُونُ أَعْشَارًا فِي الْبَدَنِ كَالْأَصَابِعِ يَعْنِي أَصَابِعَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ فَإِنَّ قَطْعَ أَصَابِعِ الْيَدِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ، وَالْبَطْشُ بِدُونِ الْأَصَابِعِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ هَكَذَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ»، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مَذْكُورٌ فِيمَا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَفِيهَا: «وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ»، وَهَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ يَقُولُ فِي الْخِنْصَرِ سِتٌّ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْبِنْصِرِ تِسْعٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْوُسْطَى عَشْرٌ، وَفِي السَّبَّابَةِ، وَالْإِبْهَامِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ثُمَّ لَمَّا بَلَغَهُ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ إلَى الْحَدِيثِ فَقَالَ: الْأَصَابِعُ كُلُّهَا سَوَاءٌ.
وَاَلَّذِي تَبَيَّنَّاهُ فِي أَصَابِعِ الْيَدِ كَذَلِكَ فِي أَصَابِعِ الرِّجْلِ؛ لِأَنَّ فِي قَطْعِهَا تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ، وَمَنْفَعَةُ الْمَشْيِ كَمَنْفَعَةِ الْبَطْشِ، وَالصَّغِيرُ، وَالْكَبِيرُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ فِي أَعْضَائِهِ عُرْضَةً لِهَذِهِ الْمَنَافِعِ مَا لَمْ يُصِبْهَا آفَةٌ فَفِي تَفْوِيتِهَا تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ كَمَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ.
وَأَمَّا مَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْبَدَنِ فَهِيَ الْأَسْنَانُ يَجِبُ فِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْأَنْيَابُ، وَالنَّوَاجِذُ، وَالضَّوَاحِكُ، وَالطَّوَاحِينُ وَمِنْ النَّاسِ مِنْ فَضَّلَ الطَّوَاحِينَ عَلَى الضَّوَاحِكِ لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ» مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ثُمَّ إنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ فَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةُ جَمَالٍ، وَالْجَمَالُ فِي الْآدَمِيِّ كَالْمَنْفَعَةِ حَتَّى قِيلَ: إذَا قَلَعَ جَمِيعَ أَسْنَانِهِ فَعَلَيْهِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا؛ لِأَنَّ الْأَسْنَانَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سِنًّا فَإِذًا الْوَاجِبُ فِي كُلٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ خَمْسُمِائَةٍ بَلَغَتْ الْجُمْلَةُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ جِنْسٌ يَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ أَكْثَرُ مِنْ مِقْدَارِ الدِّيَةِ سِوَى الْأَسْنَانِ فَإِنْ قَلَعَ جَمِيعَ أَسْنَانِ الْكَوْسَجِ فَعَلَيْهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا؛ لِأَنَّ أَسْنَانَهُ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، هَكَذَا حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِزَوْجِهَا: يَا كَوْسَجُ: فَقَالَ إنْ كُنْت كَوْسَجًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ تُعَدُّ أَسْنَانُهُ فَإِنْ كَانَتْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فَلَيْسَ بِكَوْسَجٍ، وَإِنْ كَانَتْ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ فَهُوَ كَوْسَجٌ.
قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: فِي الرَّأْسِ إذَا حُلِقَ وَلَمْ يَنْبُتْ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَبِهَذَا أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ إذَا حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِ إنْسَانٍ حَتَّى أَفْسَدَ الْمَنْبَتَ فَعَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ الرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَكَذَلِكَ فِي اللِّحْيَةِ إذَا حُلِقَتْ فَلَمْ تَنْبُتْ كَمَالُ الدِّيَةِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّهُ شَعْرٌ مُسْتَمَدٌّ مِنْ الْبَدَنِ بَعْدَ كَمَالِ الْخِلْقَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِحَلْقِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ كَشَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَلْقِ الشَّعْرِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ كَامِلَةٍ إنَّمَا فِيهِ فَقَطْ تَفْوِيتُ بَعْضِ الْجَمَالِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ نَوْعُ شَيْنٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لِغَيْرِ الْكَوْسَجِ بِقِلَّةِ شَعْرِهِ، وَوُجُوبِ كَمَالِ الدِّيَةِ يُعْتَبَرُ بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ كَامِلَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يُوجِبُ فِي الْحُرِّ كَمَالَ الدِّيَةِ يُوجِبُ فِي الْعَبْدِ كَمَالَ الْقِيمَةِ، وَبِالِاتِّفَاقِ لَوْ حَلَقَ لِحْيَةَ عَبْدِ إنْسَانٍ لَا يَلْزَمُهُ كَمَالُ الْقِيمَةِ، وَإِنْ أَفْسَدَ الْمَنْبَتَ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ النُّقْصَانُ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْحُرِّ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ كَالْمَرْفُوعِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَدْرَكُ بِالرَّأْيِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ جَمَالًا كَامِلًا فَيَلْزَمُهُ كَمَالُ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فِي اللِّحْيَةِ جَمَالًا كَامِلًا فِي أَوَانِهِ، وَكَذَلِكَ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ جَمَالٌ كَامِلٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ عَدِمَ ذَلِكَ خِلْقَةً تَكَلَّفَ لِسَتْرِهِ، وَإِخْفَائِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ جَمَالًا كَامِلًا، وَبَعْضَ الْمَنْفَعَةِ أَيْضًا فَمَا يَحْصُلُ لَهَا بِالْجَمَالِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ أَعْظَمُ وُجُوهِ الْمَنْفَعَةِ، وَكَذَلِكَ فِي اللِّحْيَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَائِكَةً تَسْبِيحُهُمْ سُبْحَانَ مَنْ زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللُّحَى وَالنِّسَاءَ بِالْقُرُونِ وَالذَّوَائِبِ» ثُمَّ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ كَمَا إذَا ضُرِبَ عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى انْقَطَعَ مَاؤُهُ فَكَذَلِكَ تَفْوِيتُ الْجَمَالِ الْكَامِلِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ لِلْعُقَلَاءِ فِي الْجَمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ فِي الْمَنْفَعَةِ بِخِلَافِ شَعْرِ الصَّدْرِ، وَالسَّاقِ فَلَيْسَ فِي حَلْقِهِ تَفْوِيتُ جَمَالٍ كَامِلٍ فَلِهَذَا لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي النُّقْصَانِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ.
فَأَمَّا فِي لِحْيَةِ الْعَبْدِ فَرِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ كَمَالُ الْقِيمَةِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَجِبُ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي قَطْعِ الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ قَالَ: الْقِيمَةُ فِي الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ فَمَا يَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ فِي الْحُرِّ يَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ كَمَالُ الْقِيمَةِ فِي الْعَبْدِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: الْجَمَالُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَنْفَعَةُ الِاسْتِخْدَامِ وَبِحَلْقِ لِحْيَتِهِ أَوْ قَطْعِ الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ مِنْهُ لَا يَفُوتُ هَذَا الْمَقْصُودُ؛ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِهِ كَمَالُ الْقِيمَةِ فَأَمَّا الْجَمَالُ فَمَقْصُودٌ فِي الْأَحْرَارِ وَبِتَفْوِيتِهِ يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَتَكَلَّمُوا فِي حَلْقِ لِحْيَةِ الْكَوْسَجِ، وَالْأَصَحُّ فِي ذَلِكَ مَا فَصَّلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَ الثَّابِتُ عَلَى ذَقَنِهِ شَعَرَاتٌ مَعْدُودَةُ فَلَيْسَ فِي حَلْقِ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ لَا يُزَيِّنُهُ، وَرُبَّمَا يَشِينُهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ عَلَى الذَّقَنِ، وَالْخَدِّ جَمِيعًا، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا بَعْضَ الْجَمَالِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِكَامِلٍ فَيَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ، وَفِي لِحْيَتِهِ مَعْنَى الْجَمَالِ الْكَامِلِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا فَسَدَ الْمَنْبَتُ فَإِنْ نَبَتَ حَتَّى اسْتَوَى كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِفِعْلِ الْجَانِي أَثَرٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الضَّرْبَةِ الَّتِي لَا يَبْقَى أَثَرُهَا فِي الْبَدَنِ، وَلَكِنَّهُ يُؤَدَّبُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَإِنْ نَبَتَتْ بَيْضَاءَ فَقَدْ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ يَزْدَادُ بِبَيَاضِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ بَيَاضَ الشَّعْرِ جَمَالٌ فِي أَوَانِهِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَيَشِينُهُ فَيَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ بِاعْتِبَارِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ إنْ انْخَسَفَتْ أَوْ ذَهَبَ بَصَرُهَا، وَهِيَ قَائِمَةٌ أَوْ ابْيَضَّتْ حَتَّى ذَهَبَ الْبَصَرُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ الْعَيْنِ تَفُوتُ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَقِيلَ: ذَهَابُ الْبَصَرِ بِمَنْزِلَةِ فَوَاتِ الْعَيْنِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَائِهَا بَعْدَمَا ذَهَبَ الْبَصَرُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ خَنَقَ إنْسَانًا حَتَّى مَاتَ عَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّفْسُ بَاقِيَةً عَلَى حَالِهَا، وَكَذَلِكَ الْيَدُ إذَا شُلَّتْ حَتَّى لَا يَنْتَفِعَ بِهَا فَفِيهَا أَرْشُهَا كَامِلًا إمَّا؛ لِأَنَّ الشَّلَلَ دَلِيلُ مَوْتِهَا أَوْ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ تَحَقَّقَ فَوَاتُهُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَهُوَ، وَمَا لَوْ قُطِعَتْ الْيَدُ سَوَاءٌ فِي إيجَابِ الْأَرْشِ.
قَالَ: وَفِي الْمُوضِحَةِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَالْكَلَامُ فِي مَعْرِفَةِ الشِّجَاجِ أَنْ يَقُولَ: الشِّجَاجُ الْحَارِصَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ وَمِنْهُ يُقَالُ: حَرَصَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ ثُمَّ الدَّامِعَةُ، وَهِيَ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا قَدْرُ الدَّمْعِ مِنْ الدَّمِ ثُمَّ الدَّامِيَةُ، وَهِيَ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا قَدْرُ الدَّمْعِ مِنْ الدَّمِ ثُمَّ الْبَاضِعَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُبْضِعُ بَعْضَ اللَّحْمِ ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَقْطَعُ أَكْثَرَ اللَّحْمِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُتَلَاحِمَةَ قَبْلَ الْبَاضِعَةِ، وَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي مَأْخَذِ الْكَلِمِ لَا فِي الْحُكْمِ فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُتَلَاحِمَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِك الْتَحَمَ الشَّيْئَانِ إذَا اتَّصَلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَالْمُتَلَاحِمَةُ مَا تُظْهِرُ اللَّحْمَ، وَلَا تَقْطَعُهُ، وَالْبَاضِعَةُ بَعْدَهَا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْمُتَلَاحِمَةُ: مَا تَعْمَلُ فِي قَطْعِ أَكْثَرِ اللَّحْمِ فَهِيَ بَعْدَ الْبَاضِعَةِ ثُمَّ السِّمْحَاقُ: وَهِيَ الَّتِي تَقْطَعُ اللَّحْمَ وَتُظْهِرُ الْجِلْدَةَ الرَّقِيقَةَ بَيْنَ اللَّحْمِ، وَالْعَظْمِ فَتِلْكَ الْجِلْدَةُ تُسَمَّى سِمْحَاقًا، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعَظْمُ الرَّقِيقُ سَمَاحِيقَ ثُمَّ الْمُوضِحَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ حَتَّى يَبْدُوَ ثُمَّ الْهَاشِمَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَكْسِرُ الْعَظْمَ ثُمَّ الْمُنَقِّلَةُ، وَهِيَ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا الْعَظْمُ أَوْ تَجْعَلُ الْعَظْمَ كَالنَّقْلَةِ، وَهِيَ كَالْحَصَى ثُمَّ الْآمَّةُ، وَهِيَ الَّتِي تُظْهِرُ الْجِلْدَ بَيْنَ الْعَظْمِ، وَالدِّمَاغِ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الْجِلْدَةُ أُمَّ الرَّأْسِ ثُمَّ الدَّامِغَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَجْرَحُ الدِّمَاغَ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الدَّامِغَةَ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَبْقَى بَعْدَهَا عَادَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ قَتْلًا لَا شَجَّةً، وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَارِصَةَ، وَالدَّامِيَةَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُمَا أَثَرٌ، وَبِدُونِ بَقَاءِ الْأَثَرِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ.
فَأَمَّا بَيَانُ الْأَحْكَامِ فَنَقُولُ: أَمَّا فِي الْمُوضِحَةِ: فَيَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَهَكَذَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَفِيمَا يَرْوِيهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْمُوضِحَةُ خَطَأً فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَفِيهَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا مُمْكِنٌ فَإِنَّ عَمَلَهَا فِي اللَّحْمِ دُونَ الْعَظْمِ، وَالْجِنَايَاتُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ تُوجِبُ الْقِصَاصَ إذَا أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا، فَأَمَّا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ مِنْ الشِّجَاجِ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ إذَا كَانَتْ خَطَأً، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ عَمْدًا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا مِنْ حَيْثُ الْمِقْدَارُ فَرُبَّمَا يَبْقَى مِنْ أَثَرِ فِعْلِ الثَّانِي فَوْقَ مَا يَبْقَى مِنْ أَثَرِ فِعْلِ الْأَوَّلِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ: فِيهَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ عَمَلَهَا فِي الْجِلْدِ أَعْظَمُ، وَالْمُسَاوَاةُ فِيهَا مُمْكِنَةٌ بِأَنْ يُسْبَرَ غَوْرَهَا بِالْمِسْبَارِ ثُمَّ يَتَّخِذُ حَدِيدَةً بِقَدْرِ ذَلِكَ فَيَقْطَعُ بِهَا مِقْدَارَ مَا قَطَعَ، وَإِيجَابُ حُكُومَةِ الْعَدْلِ فِي هَذِهِ الشِّجَاجِ مَرْوِيٌّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِنْ الشِّجَاجِ بِمَنْزِلَةِ الْخُدُوشِ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِي السِّمْحَاقِ بِأَرْبَعٍ مِنْ الْإِبِلِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِقْدَارَ حُكُومَةِ عَدْلٍ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي مَعْرِفَةِ حُكُومَةِ الْعَدْلِ فَقَالَ الطَّحَاوِيُّ السَّبِيلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَوَّمَ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا بِدُونِ هَذَا الْأَثَرِ وَيُقَوَّمَ مَعَ هَذَا الْأَثَرِ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ كَمْ هُوَ؟ فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ نِصْفِ الْعُشْرِ يَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ رُبُعِ الْعُشْرِ يَجِبُ رُبُعُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَرُبَّمَا يَكُونُ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ بِالشِّجَاجِ الَّتِي قَبْلَ الْمُوضِحَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ، فَيُؤَدِّي هَذَا الْقَوْلِ إلَى أَنْ يُوجِبَ فِي هَذِهِ الشِّجَاجِ مِنْ الدِّيَةِ فَوْقَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ فِي الْمُوضِحَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنْ يَنْظُرَ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ الشَّجَّةِ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ؟ لِأَنَّ وُجُوبَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَمَا لَا نَصَّ فِيهِ يُرَدُّ إلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فِيهِ.
فَأَمَّا فِي الْهَاشِمَةِ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ عُشْرُ وَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَتُسَمَّى الْمَأْمُومَةُ أَيْضًا، وَذَلِكَ فِيمَا كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ «فِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ»، وَالْجَائِفَةُ كَالْآمَّةِ يَجِبُ فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْجَائِفَةَ وَاصِلَةٌ إلَى أَحَدِ الْجَوْفَيْنِ، وَهُوَ جَوْفُ الْبَطْنِ فَتَكُونُ كَالْوَاصِلَةِ إلَى جَوْفِ الرَّأْسِ، وَهِيَ الدِّمَاغُ، وَإِنْ نَفَذَتْ الْجَائِفَةُ فَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْجَائِفَتَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ جَانِبِ الْبَطْنِ، وَالْأُخْرَى مِنْ جَانِبِ الظَّهْرِ فَيَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْ الْأَصَابِعِ ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعُ إذَا كَانَ فِيهَا ثَلَاثَةِ مَفَاصِل وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَفْصِلَانِ فَفِي كُلِّ مَفْصِلٍ نِصْفُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ؛ لِأَنَّ الْمَفَاصِلَ لِلْأُصْبُعِ كَالْأَصَابِعِ لِلْيَدِ فَكَمَا أَنَّ دِيَةَ الْيَدِ تَتَوَزَّعُ عَلَى الْأَصَابِعِ عَلَى التَّسَاوِي فَكَذَلِكَ دِيَةُ الْأُصْبُعِ تَتَوَزَّعُ عَلَى الْمَفَاصِلِ عَلَى التَّسَاوِي، فَالْأُصْبُعُ إذَا كَانَتْ ذَاتَ مَفْصِلَيْنِ كَالْإِبْهَامِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ مَفْصِلٍ نِصْفُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ، وَإِذَا كَانَتْ ذَاتَ ثَلَاثَةِ مَفَاصِلَ فَفِي كُلِّ مَفْصِلٍ ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا لَا يُفَضَّلُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ أَخْمَاسًا عِشْرُونَ جَذَعَةً وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ بِنْتُ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ بِنْتُ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ ابْنُ مَخَاضٍ.
وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي فُصُولٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْإِبِلِ مِائَةٌ عَلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ»، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ فِي الدِّيَةِ أَصْلٌ أَمْ بِاعْتِبَارِ قِيمَةِ الْإِبِلِ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا أَصْلٌ، وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَدْخُلَانِ عَلَى وَجْهِ قِيمَةِ الْإِبِلِ وَتَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ قِيمَةِ الْإِبِلِ وَيُحْكَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَوَّلًا وُجُوبُهُمَا عَلَى سَبِيلِ قِيمَةِ الْإِبِلِ، وَلَكِنَّهُمَا قِيمَةٌ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا بِالنَّصِّ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا، وَلَا يُنْقَصُ عَنْهَا ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: هُمَا أَصْلَانِ فِي الدِّيَةِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ قِيمَةُ كُلِّ بَعِيرٍ أُوقِيَّةٌ ثُمَّ غَلَبَ الْإِبِلُ فَصَارَتْ قِيمَةُ كُلِّ بَعِيرٍ أُوقِيَّةً وَنِصْفًا ثُمَّ غَلَبَتْ فَصَارَتْ قِيمَةُ كُلِّ بَعِيرٍ أُوقِيَّتَيْنِ فَمَا زَالَتْ تَعْلُو حَتَّى جَعَلَهَا عُمَرُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ»، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى فِي الدِّيَةِ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ قِيمَتُهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ» وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «دِيَةُ كُلِّ ذِي عَمْدٍ فِي عَمْدِهِ أَلْفُ دِينَارٍ» وَذَكَرَ الشَّعْبِيُّ عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَضَاؤُهُ ذَلِكَ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالدِّيَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ فِي الدِّيَةِ الْإِبِلَ، وَهِيَ دَيْنٌ، وَالدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ بَدَلٌ عَنْهَا كَانَ هَذَا دَيْنًا بِدَيْنٍ وَنَسِيئَةً بِنَسِيئَةٍ، وَذَلِكَ حَرَامٌ شَرْعًا يُوَضِّحُهُ: أَنَّ الْآدَمِيَّ حَيَوَانٌ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَالْأَصْلُ فِي الْقِيمَةِ الدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ إلَّا أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْإِبِلِ كَانَ بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَابَ الْإِبِلِ، وَكَانَتْ النُّقُودُ تَتَعَسَّرُ مِنْهُمْ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَوْفُونَ الدِّيَةَ عَلَى أَظْهَرِ الْوُجُوهِ؛ لِيَنْدَفِعَ بِهَا بَعْضُ الشَّرِّ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ فِي الْإِبِلِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي النُّقُودِ فَكَانَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ بِهَا مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفَاتِ.
ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ مِنْ الْإِبِلِ تَجِبُ أَخْمَاسًا كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالسِّنُّ الْخَامِسُ عِنْدَنَا ابْنُ مَخَاضٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ابْنُ لَبُونٍ فَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى فِي الدِّيَةِ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ» يَعْنِي مِنْ الْأَسْنَانِ الَّتِي تُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ، وَابْنُ مَخَاضٍ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الصَّدَقَةِ، وَلِابْنِ اللَّبُونِ مَدْخَلٌ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ».
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دِيَةُ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ عِشْرُونَ جَذَعَةً وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، عِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ»، وَاسْمُ الْإِبِلِ مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْهُ وَابْنُ الْمَخَاضِ أَدْنَى مِنْ ابْنِ اللَّبُونِ؛ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ ابْنَ اللَّبُونِ بِمَنْزِلَةِ بِنْتِ الْمَخَاضِ فِي الزَّكَاةِ فَإِيجَابُ ابْنِ اللَّبُونِ هَاهُنَا فِي مَعْنَى إيجَابِ أَرْبَعِينَ مِنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ فَالْمُرَادُ إعْطَاءُ الدِّيَةِ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ عَنْ عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ لِحَاجَتِهِمْ لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْأَسْنَانِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الصَّدَقَةِ ثُمَّ ابْنُ الْمَخَاضِ يَدْخُلُ فِي الصَّدَقَةِ عِنْدَنَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَدْخُلُ ابْنُ اللَّبُونِ؛ لِأَنَّ ابْنَ اللَّبُونِ عِنْدَنَا يُسْتَوْفَى بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ ابْنُ الْمَخَاضِ، وَأَمَّا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ تَجِبُ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ابْنَةَ مَخَاضٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ ابْنِ لَبُونٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدٌ: تَجِبُ أَثْلَاثًا ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ مَا بَيْنَ ثَنِيَّةٍ إلَى بَازِلٍ وَكُلُّهَا خَلِفَةٌ، وَالْخَلِفَةُ هِيَ الْحَامِلُ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَجِبُ أَثْلَاثًا ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ خَلِفَةً.
وَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَجِبُ أَثْلَاثًا مِنْ هَذِهِ الْأَسْنَانِ مِنْ كُلِّ سِنٍّ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ لِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي خُطْبَةِ عَامِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلَ السَّوْطِ، وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا»، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَقَضَاؤُهُ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ احْتَجَّا بِحَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى فِي الدِّيَةِ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا»، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَطَأَ؛ لِأَنَّهَا فِي الْخَطَأِ تَجِبُ أَخْمَاسًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَقَالَ: «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ»، وَالْمُرَادُ بِهِ أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْهُ وَمَا قُلْنَاهُ أَدْنَى، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ عِوَضًا عَنْ الْمَقْتُولِ، وَالْحَامِلُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَحَقَّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ فَكَذَلِكَ لَا تُسْتَحَقُّ فِي الدِّيَةِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ صِفَةَ الْحَمْلِ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَنِينَ مِنْ وَجْهٍ كَالْمُنْفَصِلِ فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى إيجَابِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ عَدَدًا، وَبِالِاتِّفَاقِ صِفَةُ التَّغْلِيظِ لَيْسَتْ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ بَلْ مِنْ حَيْثُ السِّنُّ ثُمَّ الدِّيَاتُ تُعْتَبَرُ بِالصَّدَقَاتِ.
وَالشَّرْعُ نَهَى عَنْ أَخْذِ الْحَوَامِلِ فِي الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّهَا كَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ فَكَذَلِكَ فِي الدِّيَاتِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ مِنْهُمْ لِلْقَاتِلِ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَاتِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ فَلَا يَكَادُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ فِي عِدَادِ الصِّبْيَانِ، وَقَدْ خَفِيَ الْحَدِيثُ عَلَى كِبَارِ الصَّحَابَةِ حَتَّى اخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ عَلَى أَقَاوِيلَ كَمَا بَيَّنَّا، وَلَمْ تَجْرِ الْمُحَاجَّةُ بَيْنَهُمْ بِالْحَدِيثِ فَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمَا اخْتَلَفُوا مَعَ هَذَا النَّصِّ، وَلَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَّفَقَ عَلَى قَبُولِهِ أَوْلَى بِالْأَخْذِ بِهِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْخَاصِّ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ صِفَةَ التَّغْلِيظِ فِي الدِّيَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ، وَبِهِ يَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّيَةِ الْإِبِلُ فَقَطْ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَا عَرَفْنَا صِفَةَ التَّغْلِيظِ إلَّا بِالنَّصِّ فَإِنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عَنْ الْمُتْلَفِ، وَلَا يَخْتَلِفُ التَّلَفُ بِالْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ صِفَةُ التَّغْلِيظِ بِمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ خَاصَّةً قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةً، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاةِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةً، وَالْحُلَّةُ: اسْمٌ لِثَوْبَيْنِ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: الدِّيَةُ مِنْ الدَّرَاهِمِ تَتَقَدَّرُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ مِمَّا تَكُونُ الْفِضَّةُ فِيهَا غَالِبَةً عَلَى الْغِشِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: مِنْ الدَّرَاهِمِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ «مَنْ سَبَّحَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِثْلَ دِيَتِهِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ فَكَأَنَّمَا حَرَّرَ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ» وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَ الدِّيَةَ مِنْ الدَّرَاهِمِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا» وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهَا مِنْ الدَّنَانِيرِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَكَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ دِينَارٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ السَّرِقَةِ فَإِنَّهُ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ بَعْدَمَا قَالَ: الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ رُبُعَ دِينَارٍ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ دِرْهَمٍ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ دُحَيْمٍ «أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى عَلَيْهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ خَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ»، وَقَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَقْدِيرِ الدِّيَةِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَقَدْ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِحَدِيثٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ خِلَافُ مَا قَضَى بِهِ عُمَرُ لَمَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ، وَلَمَا تَرَكُوا الْمُحَاجَّةَ بِهِ ثُمَّ الْمَقَادِيرُ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَمَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ مِنْ التَّقْدِيرِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَمُسَاعَدَةُ الصَّحَابَةِ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اتِّفَاقِ جَمَاعَتِهِمْ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْمِقْدَارِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ وَلِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الدَّنَانِيرِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَقَدْ كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ دِينَارٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدَلِيلِ النَّصِّ الْمَرْوِيِّ فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ حَيْثُ قَالَ: «لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ ضَجِرَ مِنْ أَصْحَابِهِ: لَيْتَ لِي بِكُلِّ عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ صَرْفَ الدَّنَانِيرِ بِالدَّرَاهِمِ، وَنِصَابُ الزَّكَاةِ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّ قِيمَةَ كُلِّ دِينَارٍ كَانَتْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَخَذَا بِظَاهِرِ حَدِيثِ عُمَرَ وَقَالَا: الدِّيَةُ مِنْ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَهَا مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، وَقَدَّرَ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُ بِمِقْدَارٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا كَانَ يُتَّفَقُ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ الْمِقْدَارِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: الدِّيَةُ مِنْ الْإِبِلِ، وَالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ وَقَدْ اُشْتُهِرَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا أَخَذَ عُمَرُ مِنْ الْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالْحُلَلِ فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَمْوَالَهُمْ فَكَانَ الْأَدَاءُ مِنْهَا أَيْسَرَ عَلَيْهِمْ، وَأَخْذُهَا بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ بَيَانِ التَّقْدِيرِ لِلدِّيَةِ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ فَلَمَّا صَارَتْ الدَّوَاوِينُ، وَالْإِعْطَاءَاتُ جُلَّ أَمْوَالِهِمْ الدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ، وَالْإِبِلُ فَقَضَى بِالدِّيَةِ مِنْهَا ثُمَّ لَا مَدْخَلَ لِلْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفَاتِ أَصْلًا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الدُّورِ، وَالْعَبِيدِ، وَالْجَوَارِي، وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَدْخُلَ الْإِبِلُ إلَّا أَنَّ الْآثَارَ اشْتَهَرَتْ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِذَلِكَ فِي الْإِبِلِ خَاصَّةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِهِمَا فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ صَالَحَ الْوَلِيُّ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ شَاةٍ أَوْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ أَوْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ حُلَّةٍ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَافَ فِي الدِّيَةِ أُصُولٌ مُقَدَّرَةٌ عِنْدَهُ كَمَا هِيَ عِنْدَهُمَا.
قَالَ وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي دِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي النَّفْسِ، وَمَا دُونَهَا وَبِهِ نَأْخُذُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ هَكَذَا إلَّا فِي أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، وَأَرْشِ السِّنِّ فَإِنَّهَا تَسْتَوِي فِي ذَلِكَ بِالرَّجُلِ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَقُولُ: إنَّهَا تُعَادِلُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا يَعْنِي إذَا كَانَ الْأَرْشُ بِقَدْرِ ثُلُثِ الدِّيَةِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ فَالرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ فِيهِ سَوَاءٌ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَحِينَئِذٍ حَالُهَا فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ، وَبَيَانُهُ فِيمَا حُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مَا تَقُولُ فِيمَنْ قَطَعَ أُصْبُعَ امْرَأَةٍ؟ قَالَ عَلَيْهِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ قُلْت فَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعَيْنِ مِنْهَا؟ قَالَ: عَلَيْهِ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ قُلْت فَإِنْ قَطَعَ ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ؟ قَالَ: عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ قُلْت فَإِنْ قَطَعَ أَرْبَعَةَ أَصَابِعَ مِنْهُ؟ قَالَ: عَلَيْهِ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ قُلْت سُبْحَانَ اللَّهِ لَمَّا كَثُرَ أَلَمُهَا وَاشْتَدَّ مُصَابُهَا قَلَّ أَرْشُهَا قَالَ: أَأَعْرَابِيٌّ أَنْتَ فَقُلْت لَا بَلْ جَاهِلٌ مُسْتَرْشِدٌ أَوْ عَاقِلٌ مُسْتَفْتٍ فَقَالَ: إنَّهُ السُّنَّةُ.
فَبِهَذَا أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ: السُّنَّةُ إذَا أُطْلِقَتْ فَالْمُرَادُ بِهَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرْوُونَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ «تُعَادِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ» وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ رَبِيعَةُ فَإِنَّهُ لَوْ وَجَبَ بِقَطْعِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْهَا ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ مَا سَقَطَ بِقَطْعِ الْأُصْبُعِ الرَّابِعِ عَشْرٌ مِنْ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْقَطْعِ فِي إيجَابِ الْأَرْشِ لَا فِي إسْقَاطِهِ فَهَذَا مَعْنًى يُحِيلُهُ الْعَقْلُ ثُمَّ بِالْإِجْمَاعِ بَدَلُ نِصْفِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ بَدَلِ نَفْسِ الرَّجُلِ، وَالْأَطْرَافُ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ تَابِعَةً إذَا أَخَذْنَا حُكْمَهَا مِنْ حُكْمِ النَّفْسِ إلَّا إذَا أَفْرَدْنَاهَا بِحُكْمٍ آخَرَ، وَقَوْلُ سَعِيدٍ: إنَّهُ السُّنَّةُ يَعْنِي سُنَّةَ زَيْدٍ، وَقَدْ أَفْتَى كِبَارُ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَوْا نَادِرٌ، وَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي يُحِيلُهُ عَقْلُ كُلِّ عَاقِلٍ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالشَّاذِّ النَّادِرِ.
وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَكَانَ يَقُولُ: فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي أَرْشِ السِّنِّ، وَالْمُوضِحَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَا «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ فَإِنَّهُ قَضَى بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ قِيمَتُهَا خَمْسُمِائَةٍ» وَيُسَوِّي بَيْنَ الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ، وَبَدَلُ الْجَنِينِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ أَرْشُ السِّنِّ، وَالْمُوضِحَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي الْجَنِينِ: إنَّمَا قَضَى بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَى صِفَةِ الذُّكُورَةِ، وَالْأُنُوثَةِ فِي الْجَنِينِ خُصُوصًا إذَا لَمْ يَتِمَّ خَلْقُهُ؛ وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ قَطْعِ السُّرِّ فَقَطْ، وَالذَّكَرُ، وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَهَاهُنَا الْوُجُوبُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ، وَحَالُ الْأُنْثَى فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الذَّكَرِ فَالذَّكَرُ أَهْلٌ لِمَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ، وَالْمَالِ جَمِيعًا، وَالْأُنْثَى أَهْلٌ لِمَالِكِيَّةِ الْمَالِ دُونَ النِّكَاحِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَفِي هَذَا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ سَوَاءٌ.
قَالَ: وَفِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ وَلِسَانِ الْأَخْرَسِ، وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ، وَالرِّجْلِ الْعَرْجَاءِ، وَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الْعَوَرِ، وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ وَذَكَرِ الْعِنِّينِ حُكْمُ عَدْلٍ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ إبْرَاهِيمَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ إيجَابَ كَمَالِ الْأَرْشِ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بِاعْتِبَارِ تَفْوِيتِ الْمَنْفَعَةِ الْكَامِلَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ كَانَتْ فَائِتَةً قَبْلَ جِنَايَتِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ إنْسَانٍ حَتَّى شُلَّتْ أَوْ عَلَى عَيْنِهِ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَرْشُ فَلَوْلَا تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ لِمَا حَلَّ بِهَا لَمَا لَزِمَهُ كَمَالُ الْأَرْشِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا بِالْقَطْعِ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْشًا كَامِلًا مَرَّةً أُخْرَى أَدَّى إلَى إيجَابِ أَرْشَيْنِ كَامِلَيْنِ عَنْ عُضْوٍ وَاحِدٍ وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَجِبُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْأَرْشُ كَامِلًا، وَنَقُولُ: فِي قَطْعِهَا تَفْوِيتُ الْجَمَالِ الْكَامِلِ، وَالْجَمَالُ مَطْلُوبٌ مِنْ الْآدَمِيِّ كَالْمَنْفَعَةِ بَلْ الْجَمَالُ يَرْغَبُ فِيهِ الْعُقَلَاءُ فَوْقَ رَغْبَتِهِمْ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: فِي الْأَعْضَاءِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْمَقْصُودُ الْمَنْفَعَةَ، وَالْجَمَالُ تَبَعٌ فَبِاعْتِبَارِهِ لَا تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ فِي الْأَرْشِ.
ثُمَّ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الْعَوْرَاءِ جَمَالٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْحَالِ فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَلَا، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَعْنَى الْحَالِ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ غَيْرَ كَامِلَةٍ بَعْدَ فَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ فَلِوُجُودِ بَعْضِ الْجَمَالِ فِيهَا أَوْجَبْنَا حُكْمَ عَدْلٍ فَلِانْعِدَامِ الْكَمَالِ فِيهَا لَا يُوجِبُ كَمَالَ الْأَرْشِ، وَفِي الضِّلْعِ حُكْمُ عَدْلٍ، وَفِي السَّاعِدِ إذَا كُسِرَ أَوْ كُسِرَ أَحَدُ الزَّنْدَيْنِ حُكْمُ عَدْلٍ، وَفِي السَّاقِ إذَا انْكَسَرَتْ حُكْمُ عَدْلٍ، وَفِي التَّرْقُوَةِ حُكْمُ عَدْلٍ عَلَى قَدْرِ الْجِرَاحَةِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِظَامِ إذَا كُسِرَتْ إلَّا فِي السِّنِّ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ»؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَنْبَنِي عَلَى الْمُسَاوَاةِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْكَسِرُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُرَادُ كَسْرُهُ، وَبِدُونِ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ، وَلَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا حُكْمَ عَدْلٍ فَأَمَّا فِي السِّنِّ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَضَى فِي الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ وَبَيَّنَ الْأَطِبَّاءُ كَلَامًا فِي السِّنِّ أَنَّهُ عَظْمٌ أَوْ طَرَفُ عَصَبٍ يَابِسٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ كَوْنَ السِّنِّ عَظْمًا؛ لِأَنَّهُ يَحْدُثُ وَيَنْمُو بَعْدَ تَمَامِ الْخِلْقَةِ وَيَلِينُ بِالْحِلِّ فَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعِظَامِ مَتَى ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَظْمٍ وَلَئِنْ قُلْنَا: إنَّهُ عَظْمٌ، وَفِي سَائِرِ الْعِظَامِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَبْرُدَ بِالْمِبْرَدِ بِقَدْرِ مَا كُسِرَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَلَعَ السِّنَّ فَإِنَّهُ لَا يُقْلَعُ مِنْهُ قِصَاصًا لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ فَرُبَّمَا تَفْسُدُ بِهِ لَهَاتُهُ وَلَكِنْ يَبْرُدُ بِالْمِبْرَدِ إلَى مَوْضِعِ أَصْلِ السِّنِّ فَأَمَّا إذَا كَانَ خَطَأً فَالْوَاجِبُ فِيهِ الْأَرْشُ كَمَا بَيَّنَّا، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعِظَامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِسَائِرِ الْعِظَامِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا يَكُونُ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا وَلِهَذَا قُلْنَا فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا ثُمَّ إنْ- ضَرَبَ عَلَى سِنِّهِ حَتَّى اسْوَدَّتْ أَوْ احْمَرَّتْ أَوْ اخْضَرَّتْ فَعَلَيْهِ أَرْشُ السِّنِّ كَامِلًا؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ، وَالْمَنْفَعَةَ يَفُوتُ بِذَلِكَ.
وَقَالَ: السَّوَادُ فِي السِّنِّ دَلِيلُ مَوْتِهَا فَإِذَا اصْفَرَّتْ فَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ فِيهَا حُكْمَ عَدْلٍ وَذَكَرَ هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ فِيهَا حُكْمَ عَدْلٍ، وَفِي الْحُرِّ لَا شَيْءَ، وَفِي الْمَمْلُوكِ حُكْمُ عَدْلٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهَا حُكْمُ عَدْلٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ فِي بَيَاضِ السِّنِّ فَبِالصُّفْرَةِ يَنْقُصُ مَعْنَى الْجَمَالِ فِيهَا، وَلِهَذَا يَجِبُ فِي الْمَمْلُوكِ حُكْمُ عَدْلٍ فَكَذَلِكَ فِي الْحُرِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: الصُّفْرَةُ مِنْ أَلْوَانِ السِّنِّ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ مَوْتِ السِّنِّ، وَالْمَطْلُوبُ بِالسِّنِّ فِي الْإِحْرَازِ الْمَنْفَعَةُ، وَهِيَ قَائِمَةٌ بَعْدَمَا اصْفَرَّتْ فَأَمَّا حَقُّ الْمَوْلَى فِي الْمَمْلُوكِ فَالْمَالِيَّةُ وَقَدْ تُنْتَقَصُ بِاصْفِرَارِ السِّنِّ وَعَلَى هَذَا لَوْ قُلِعَ سِنٌّ فَنَبَتَتْ صَفْرَاءَ أَوْ نَبَتَتْ كَمَا كَانَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَرْشِ بِاعْتِبَارِ فَسَادِ الْمَنْبَتِ، وَحِينَ نَبَتَتْ كَمَا كَانَتْ عَرَفْنَا أَنَّهُ مَا فَسَدَ الْمَنْبَتُ ثُمَّ وُجُوبُ الْأَرْشِ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْأَثَرِ، وَلَمْ يَبْقَ أَثَرٌ حِينَ نَبَتَتْ كَمَا كَانَتْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْجِرَاحَاتِ الَّتِي تَنْدَمِلُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ تَجِبُ حُكُومَةٌ بِقَدْرِ مَا لَحِقَهُ مِنْ الْأَلَمِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْجَانِي بِقَدْرِ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ الدَّوَاءِ وَأُجْرَةِ الْأَطِبَّاءِ حَتَّى انْدَمَلَتْ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: لَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِمُجَرَّدِ الْأَلَمِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ ضُرِبَ ضَرْبَةً تَأَلَّمَ بِهَا، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ شَيْءٌ لَا يَجِبُ شَيْءٌ أَرَأَيْت لَوْ شَتَمَهُ شَتِيمَةً أَكَانَ عَلَيْهِ أَرْشٌ بِاعْتِبَارِ إيلَامٍ حَلَّ فِيهِ.
قَالَ: وَفِي الْيَدِ إذَا قُطِعَتْ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ دِيَةُ الْيَدِ وَحُكْمُ عَدْلٍ فِيمَا بَيْنَ الْكَفِّ إلَى السَّاعِدِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمِرْفَقِ كَانَ فِي الذِّرَاعِ بَعْدَ دِيَةِ الْيَدِ حُكْمُ عَدْلٍ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجِبُ فِيهِ إلَّا أَرْشُ الْيَدِ إذَا قَطَعَهَا مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا قَطَعَهَا مِنْ الْمَنْكِبِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا أَرْشُ الْيَدِ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ»، وَالْيَدُ: اسْمٌ لِلْجَارِحَةِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْآبَاطِ وَقَدْ رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حَارِثَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى عَلَى قَاطِعِ الْيَدِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ خَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ».
وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَطَعَهَا مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ؛ وَلِأَنَّ السَّاعِدَ لَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَيَكُونُ تَبَعًا لِمَا لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ كَالْكَفِّ فَإِنَّ بِالْإِجْمَاعِ يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ بِقَطْعِ الْأَصَابِعِ ثُمَّ لَوْ قَطَعَ الْكَفَّ مَعَ الْأَصَابِعِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَتُجْعَلُ الْكَفُّ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ أَوْ الْمِرْفَقِ أَوْ الْمَنْكِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بَدَلٌ مُقَدَّرٌ سِوَى الْأَصَابِعِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الْمَارِنَ أَوْ الْحَشَفَةَ يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ وَلَوْ قَطَعَ جَمِيعَ الْأَنْفِ أَوْ جَمِيعَ الذَّكَرِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: مَا زَادَ عَلَى الْكَفِّ مِنْ السَّاعِدِ إمَّا أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ أَوْ الْكَفِّ، وَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصَابِعِ، وَالتَّابِعُ مَا يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْأَصْلِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَبَعًا لِلْكَفِّ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ فِي نَفْسِهِ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ، وَلَا تَبِعَ لِلتَّبَعِ فَإِذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهُ تَبَعًا، وَلَا يَجُوزُ إهْدَارُهُ عَرَفْنَا أَنَّهُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَيَجِبُ حُكْمُ عَدْلٍ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ الْمِفْصَلِ أَوَّلًا فَبَرَأَتْ ثُمَّ عَادَ فَقَطَعَ السَّاعِدَ، وَلَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثَيْنِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ إذَا ذُكِرَتْ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ فَالْمُرَادُ بِهِ مِنْ مَفْصِلِ الزَّنْدِ بِدَلِيلِ آيَةِ السَّرِقَةِ.
وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ الْقَطْعَ كَانَ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ شَاذٌّ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ فِي الْأَحْكَامِ فَإِذَا كُسِرَ الْأَنْفُ فَفِيهِ حُكْمُ عَدْلٍ؛ لِمَا أَنَّ كَسْرَ الْأَنْفِ جِنَايَةٌ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَيَجِبُ فِيهَا حُكْمُ عَدْلٍ كَكَسْرِ السَّاعِدِ، وَالسَّاقِ فَإِنْ قَطَعَ الْيَدَ، وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ دِيَةِ الْيَدِ، وَيَدْخُلُ أَرْشُ الْكَفِّ فِي أَرْشِ الْأَصَابِعِ هَاهُنَا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَصَابِعِ لَمَّا كَانَتْ قَائِمَةً جُعِلَ كَقِيَامِ جَمِيعِهَا فَيَكُونُ الْكَفُّ تَابِعًا لَهَا، وَإِقَامَةُ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى الْكَفِّ أُصْبُعَانِ أَوْ أُصْبُعٌ فَقَطَعَ الْكَفَّ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ مَا كَانَ قَائِمًا مِنْ الْأَصَابِعِ وَيَدْخُلُ أَرْشُ الْكَفِّ فِي ذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَنْظُرُ إلَى أَرْشِ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَصَابِعِ، وَإِلَى أَرْشِ الْكَفِّ، وَهُوَ حُكُومَةُ عَدْلٍ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَكْثَرَ يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَصَابِعِ هَاهُنَا فَائِتَةٌ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَفَوَاتِ الْكُلِّ، وَلَوْ قَطَعَ الْكَفَّ وَلَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَصَابِعِ كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُ عَدْلٍ؛ فَهَذَا مِثْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ بِبَقَاءِ أَكْثَرِ الْأَصَابِعِ تَبْقَى مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ، وَإِنْ كَانَ يَتَمَكَّنُ فِيهَا نُقْصَانٌ فَيُعْتَبَرُ تَفْوِيتُ ذَلِكَ فِي إيجَابِ الْأَرْشِ، وَأَمَّا بِبَقَاءِ أُصْبُعٍ وَاحِدٍ فَلَا يَبْقَى مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ، وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فِي إيجَابِ الْأَرْشِ فَيَجِبُ حُكْمُ عَدْلٍ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَرْشِ الْأُصْبُعِ الْمَقْطُوعَةِ بِالنَّصِّ وَمِنْ اعْتِبَارِ حُكُومَةِ الْعَدْلِ فِي الْكَفِّ لِمَا قُلْنَا، وَلَا وَجْهَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِالْإِتْلَافِ فَاعْتَبَرْنَا الْأَكْثَرَ مِنْهُمَا فَجَعَلْنَا الْأَقَلَّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فِي بَابِ الْأَرْشِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: أَرْشُ الْأُصْبُعِ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، وَلَيْسَ لِلْكَفِّ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، وَمَا لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ شَرْعًا يُجْعَلُ تَبَعًا لِمَا هُوَ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، وَلِهَذَا جَعَلَ الْكَفَّ تَبَعًا لِجَمِيعِ الْأَصَابِعِ، وَهَذَا لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُقَدَّرَ شَرْعًا ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ فَهُوَ ثَابِتٌ بِالرَّأْيِ، وَالرَّأْيُ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ، وَالْمَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقُوَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الرَّأْيِ، وَالتَّقْوِيمِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ إمْكَانِ إيجَابِ الْأَرْشِ الْمُقَدَّرِ بِالنَّصِّ وَسِوَى هَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: عَلَيْهِ أَرْشُ الْأُصْبُعِ، وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي الْكَفِّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْكَفِّ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَعْنَى الْبَطْشِ يَكُونُ بِهِمَا، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْأُصْبُعِ الْوَاحِدِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْأُصْبُعِ تَبَعًا لِلْكَفِّ؛ لِأَنَّ لِلْأُصْبُعِ أَرْشًا مُقَدَّرًا شَرْعًا فَلَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ عَنْ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ اتِّبَاعُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا فَيَجِبُ أَرْشُهُمَا، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ الْأُصْبُعِ الْقَائِمَةِ، وَمَوْضِعُهَا مِنْ الْكَفِّ يَكُونُ تَبَعًا لَهُ وَيَلْزَمُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْكَفِّ؛ لِأَنَّ الْأَصَابِعَ لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً كَانَ مَوْضِعُ كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ الْكَفِّ تَبَعًا لِذَلِكَ الْأُصْبُعِ فَعِنْدَ قِيَامِ الْبَعْضِ يُعْتَبَرُ الْبَعْضُ بِالْكُلِّ ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ إلَّا مَفْصِلٌ مِنْ أُصْبُعٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَرْشُ ذَلِكَ الْمَفْصِلِ وَيُجْعَلُ الْكَفُّ تَبَعًا لَهُ؛ لِأَنَّ أَرْشَ ذَلِكَ الْمَفْصِلِ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، وَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْأَصْلِ فَإِنْ قَلَّ فَلَا حُكْمَ لِلتَّبَعِ كَمَا إذَا بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْخُطَّةِ مِنْ الْمَحَلَّةِ لَا يُعْتَبَرُ السُّكَّانُ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: إذَا كَانَ الْبَاقِي دُونَ أُصْبُعٍ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَقَلُّ، وَالْأَكْثَرُ فَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْأُصْبُعِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَأَمَّا أَرْشُ كُلِّ مَفْصِلٍ فَغَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِنَوْعِ رَأْيٍ، وَكَوْنُهُ أَصْلًا بِاعْتِبَارِ النَّصِّ فَإِذَا لَمْ يَرِدْ النَّصُّ فِي أَرْشِ مَفْصِلٍ وَاحِدٍ اعْتَبَرْنَا فِيهِ الْأَقَلَّ، وَالْأَكْثَرَ لِمَا بَيَّنَّا وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ.
قَالَ: وَفِي ثَدْيِ الرَّجُلِ حُكْمُ عَدْلٍ وَيُسَمَّى الثَّنْدُوَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَلَا جَمَالٌ كَامِلٌ فَإِنَّهُ مَسْتُورٌ بِالثِّيَابِ عَادَةً لَكِنَّ فِيهِ بَعْضَ الْجَمَالِ، وَفِيمَا يَبْقَى مِنْ أَثَرِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ بَعْضُ الشَّيْنِ فَيَجِبُ بِحُكْمِ عَدْلٍ بِاعْتِبَارِهِ.
وَفِي الْأُذُنِ إذَا يَبِسَتْ أَوْ انْخَسَفَتْ وَرُبَّمَا تَقُولُ: انْخَنَسَتْ حُكْمُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ لَا تَفُوتُ بِهِ وَهُوَ إيصَالُ الصَّوْتِ إلَى الصِّمَاخِ، وَكَذَلِكَ لَا يَفُوتُ بِهِ الْجَمَالُ كُلُّهُ بَلْ يَتَمَكَّنُ فِيهِ النُّقْصَانُ؛ لِأَجْلِهِ يَجِبُ حُكْمُ عَدْلٍ قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ إلَّا خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا وَبِهِ نَأْخُذُ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْخَطَأِ يَبْلُغُ نِصْفَ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ خَمْسَمِائَةٍ أَوْ نِصْفَ عُشْرِ دِيَةِ الْمَرْأَةِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ فَهَذَا عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْجَانِي حَالًّا لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا صُلْحًا، وَلَا اعْتِرَافًا، وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ» وَلِأَنَّ مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فِي مَعْنَى ضَمَانِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ التَّقْوِيمِ، وَهُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا، وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ إنَّمَا يُفَارِقُ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ فِي كَوْنِهِ مُقَدَّرًا شَرْعًا، وَأَدْنَى ذَلِكَ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فَمَا دُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ حَالًّا فِي مَالِهِ، وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ فَمَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ يَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَخَذَ الْفَضْلَ فِي سَنَةٍ أُخْرَى إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ فَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ أَخَذَ ذَلِكَ الْفَضْلَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ فَرَضَ الْعَطَاءَ، وَجَعَلَ الدِّيَةَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ الثُّلُثَ فِي سَنَةٍ، وَالنِّصْفَ فِي سَنَتَيْنِ، وَالثُّلُثَيْنِ فِي سَنَتَيْنِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ التَّأْجِيلُ فِي جَمِيعِ الدِّيَةِ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، وَأَنَّهُ يَسْتَوْفِي كُلَّ ثُلُثٍ فِي سَنَةٍ، وَلَمَّا ثَبَتَ التَّأْجِيلُ فِي ثُلُثِ الدِّيَةِ سَنَةً وَاحِدَةً ثَبَتَ فِي أَبْعَاضِ ذَلِكَ الثُّلُثِ مِمَّا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَكَذَلِكَ الثُّلُثُ الثَّانِي لَمَّا ثَبَتَ التَّأْجِيلُ فِي جَمِيعِهِ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ فَكَذَلِكَ فِي أَبْعَاضِهِ.
قَالَ: وَدِيَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ رِجَالُهُمْ كَرِجَالِهِمْ وَنِسَاؤُهُمْ كَنِسَائِهِمْ، وَكَذَلِكَ جِرَاحَاتُهُمْ وَجِنَايَاتُهُمْ بَيْنَهُمْ وَمَا دُونَ النَّفْسِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَعَاقِلُ يَتَعَاقَلُونَ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَعَاقِلُ فَفِي مَالِ الْجَانِي؛ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَيَثْبُتُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ الْحِكْمَةِ مَا هُوَ ثَابِتٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَدِيَتُهُمْ مِثْلُ دِيَةِ أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ: دِيَةُ الْكِتَابِيِّ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِي قَوْلٍ آخَرَ: دِيَةُ الْكِتَابِيِّ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ اسْتِدْلَالًا بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْكُفَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} وَلِقَوْلِهِ {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} وَقَالَ: عَلَيْهِ السَّلَامُ «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» فَدَلَّ أَنَّ دِمَاءَ غَيْرِهِمْ لَا تُكَافِئُ دِمَاءَهُمْ، وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى فِي دِيَةِ الْكِتَابِيِّ بِثُلُثِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ»، وَفِي رِوَايَةٍ بِنِصْفِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى فِي دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْكُفْرِ فَوْقَ نُقْصَانِ الْأُنُوثَةِ، وَإِذَا كَانَتْ الدِّيَةُ تَنْقُصُ بِصِفَةِ الْأُنُوثَةِ فَبِالْكُفْرِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا انْتَقَصَتْ بِصِفَةِ الْأُنُوثَةِ؛ لِنُقْصَانِ دِينِ النِّسَاءِ كَمَا وَصَفَهُنَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «إنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ» وَتَأْثِيرُ عَدَمِ الدَّيْنِ فَوْقَ تَأْثِيرِ نُقْصَانِ الدَّيْنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ بَدَلَ النَّفْسِ يُنْتَقَصُ بِالرِّقِّ، وَالرِّقُّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ، وَأَثَرُ الشَّيْءِ دُونَ أَصْلِهِ فَلَأَنْ يُنْتَقَصَ بِأَصْلِ الْكُفْرِ كَانَ أَوْلَى، وَيَتَفَاحَشُ النُّقْصَانُ إذَا انْضَمَّ إلَى كُفْرِهِ عَدَمُ الْكِتَابِ نِسْبَةً فَتَنَاهِي النُّقْصَانِ نِسْبَةً حَتَّى لَا يُوجِبَ إلَّا مَا قَضَى بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ}، وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ}، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى الْعَامِرَ بَيْنَ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ وَكَانَا مُسْتَأْمَنَيْنِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: دِيَةُ كُلِّ ذِي عَمْدٍ فِي عَمْدِهِ أَلْفُ دِينَارٍ» وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: دِيَةُ الذِّمِّيِّ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنَّمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الذِّمَّةَ وَبَذَلُوا الْجِزْيَةَ؛ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا، وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَمَا نَقَلُوا فِيهِ مِنْ الْآثَارِ بِخِلَافِ هَذَا لَا يَكَادُ يَصِحُّ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَعْمَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ دِيَةِ الذِّمِّيِّ فَقَالَ: مِثْلُ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ فَقُلْت: إنَّ سَعِيدًا يَرْوِي بِخِلَافِ ذَلِكَ قَالَ ارْجِعْ إلَى قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ الرِّوَايَةَ الشَّاذَّةَ لَا تُقْبَلُ فِيمَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْكِتَابِ.
ثُمَّ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ قَضَى بِثُلُثِ الدِّيَةِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعُ مَا قَضَى بِهِ وَعِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ يَتَرَجَّحُ الْمُثْبِتُ لِلزِّيَادَةِ، وَقَوْلُهُ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِمَاءَ غَيْرِهِمْ لَا تُكَافِئُهُمْ فَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، وَالْمُرَادُ بِالْآثَارِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ دُونَ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَإِنَّا نَرَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْخُلْفُ فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يَسْتَوُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ فَيَسْتَوُونَ بِهِمْ فِي الدِّيَةِ كَالْفُسَّاقِ مَعَ الْعُدُولِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ نُقْصَانَ الدِّيَةِ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْمَالِكِيَّةِ وَلِهَذَا تَنَصَّفَتْ بِالْأُنُوثَةِ لِتَنَصُّفِ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ أَهْلُ مِلْكِ الْمَالِ دُونَ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَانْتَقَصَ عَنْ ذَلِكَ بِصِفَةِ الِاجْتِنَانِ فِي الْبَطْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ عَرَضِيَّةٌ أَنْ يَصِيرَ أَهْلًا فِي الثَّانِي، وَانْتَقَصَ بِنُقْصَانِ الرِّقِّ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِمَالِكِيَّةِ الْمَالِ وَمَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْمَحَلِّ وَصِيَانَتِهِ عَنْ الْهَدَرِ، وَهَذَا الْخَطَرُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَبِصِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ يَصِيرُ مُتَبَدِّلًا إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا تَأْثِيرَ لِلْكُفْرِ، وَعَدَمِ الْكِتَابِ فِي نُقْصَانِ الْمَالِكِيَّةِ فَتَسْتَوِي دِيَةُ الْكَافِرِ بِدِيَةِ الْمُسْلِمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِحْرَازِ وَالْإِحْرَازُ يَكُونُ بِالدَّارِ لَا بِالدَّيْنِ، وَالْإِحْرَازُ بِالدَّيْنِ مِنْ حَيْثُ اعْتِقَادُ الْحُرْمَةِ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ نَعْتَقِدُهُ دُونَ مَا لَا نَعْتَقِدُ فَأَمَّا الْإِحْرَازُ بِقُوَّةِ أَهْلِ الدَّارِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ وَلِهَذَا يَسْتَوِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِيمَةِ الْأَمْوَالِ فَكَذَلِكَ فِي قِيمَةِ النُّفُوسِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْإِنَاثُ فَإِنَّهُمْ فِي الْإِحْرَازِ يُسَاوِينَ الذُّكُورَ، وَلَكِنْ تُنَصَّفُ الدِّيَةُ فِي حَقِّهِنَّ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْمَالِكِيَّةِ وَلِأَنَّهُنَّ تِبَاعٌ فِي مَعْنَى الْإِحْرَازِ؛ لِأَنَّ النُّصْرَةَ لَا تَقُومُ بِهِنَّ وَقَصْدُنَا بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَقَدْ سَوَّيْنَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، وَجِنَايَاتُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ، وَالْمَجْنُونِ عَمْدُهَا وَخَطَؤُهَا كُلُّهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ إذَا بَلَغَتْ خَمْسَمِائَةٍ فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فَفِي أَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الْخَمْسِمِائَةِ فِي مَعْنَى ضَمَانِ الْمَالِ، وَالْإِتْلَافُ الْمُوجِبُ لِلْمَالِ يَتَحَقَّقُ مِنْ هَؤُلَاءِ كَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْعُقَلَاءِ الْبَالِغِينَ فَأَمَّا الْخَمْسُمِائَةِ فَصَاعِدًا فَهِيَ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ الْعَمْدُ، وَالْخَطَأُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
بَلَغَنَا أَنَّ مَجْنُونًا سَعَى عَلَى رَجُلٍ بِسَيْفٍ فَضَرَبَهُ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَعَلَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَقَالَ: عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ سَوَاءٌ، وَهُوَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَفِي قَوْلِهِ الثَّانِي قَالَ: عَمْدُهُ عَمْدٌ حَتَّى تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ لُغَةً الْقَصْدُ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْخَطَأِ فَمَنْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْخَطَأُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْعَمْدُ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْقَصْدِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَوَدُ، وَالْآخَرُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ حَالًّا، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ الْعُقُوبَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ، وَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحُكْمِ الْآخَرِ، وَهُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ فِي مَالِهِ كَمَا فِي غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ السَّرِقَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: عُقُوبَةٌ، وَهِيَ الْقَطْعُ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ، وَالْآخَرُ: غَرَامَةٌ وَهُوَ الضَّمَانُ، وَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لِذَلِكَ فَيُسَوَّى بِالْبَالِغِ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْعَمْدَ فِي بَابِ الْقَتْلِ مَا يَكُونُ مَحْظُورًا مَحْضًا وَلِهَذَا عَلَّقَ الشَّرْعُ بِهِ مَا هُوَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ؛ لِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ السَّلَامُ «الْعَمْدُ قَوَدٌ»، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْعَمْدُ شَرْعًا فِي بَابِ الْقَتْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَمْدَ عِبَارَةٌ عَنْ قَصْدٍ مُعْتَبَرٍ فِي الْأَحْكَامِ شَرْعًا فَأَصْلُ الْقَصْدِ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْبَهِيمَةِ، وَلَا يُوصَفُ فِعْلُهَا بِالْعَمْدِيَّةِ، وَقَصْدُ الصَّبِيِّ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِبِنَاءِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ فَاعْتِبَارُ قَصْدِهِ شَرْعًا فِيمَا يَنْفَعُهُ لَا فِيمَا يَضُرُّهُ، وَلِهَذَا كَانَ عَمْدُهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَطَأِ دُونَ خَطَأِ الْبَالِغِ؛ لِأَنَّ الْبَالِغَ انْعَدَمَ مِنْهُ الْقَصْدُ مَعَ قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْقَصْدِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا، وَفِي حَقِّ الصَّبِيِّ.
وَالْمَجْنُونِ انْعَدَمَتْ الْأَهْلِيَّةُ لِذَلِكَ ثُمَّ خَطَأُ الْبَالِغِ إنَّمَا كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ، وَالتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ بِعُذْرِ الْخَطَأِ، وَالصَّبِيُّ فِي ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ صِفَةِ الْخَطَأِ؛ وَلِكَوْنِ فِعْلِ الصَّبِيِّ دُونَ خَطَأِ الْبَالِغِ فِي الْحُكْمِ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْقَتْلِ، وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ.
وَإِذَا ضَرَبَ الرَّجُلُ بَطْنَ الْمَرْأَةِ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ يَعْدِلُ ذَلِكَ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَالْغُرَّةُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ الْمَمْلُوكُ الْأَبْيَضُ وَمِنْهُ غُرَّةُ الْفَرَسِ وَهُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي عَلَى جَبِينِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أُمَّتِي غُرٌّ مُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ الْغُرَّةُ الْجَيِّدُ يُقَالُ: هُوَ غُرَّةُ الْقَبِيلَةِ أَيْ كَبِيرُ أَهْلِهَا ثُمَّ الْقِيَاسُ فِي الْجَنِينِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ إمَّا أَنْ لَا يَجِبَ فِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْرَفْ حَيَاتُهُ وَفِعْلُ الْقَتْلِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي مَحَلٍّ هُوَ حَيٌّ، وَالضَّمَانُ بِالشَّكِّ لَا يَجِبُ، وَلَا يُقَالُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ بِهِ وَبِهَذَا لَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ إلَّا نُقْصَانُ الْأُمِّ إنْ تَمَكَّنَ فِيهَا نُقْصَانٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الضَّارِبَ مَنَعَ حُدُوثَ مَنْفَعَةِ الْحَيَاةِ فِيهِ فَيَكُونُ كَالْمُزْهِقِ لِلْحَيَاةِ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْبَدَلِ كَوَلَدِ الْمَغْرُورِ فَإِنَّهُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ مَنَعَ حُدُوثَ الرِّقِّ فِيهِ ثُمَّ الْمَاءُ فِي الرَّحِمِ مَا لَمْ يَفْسُدْ فَهُوَ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ فَيُجْعَلُ كَالْحَيِّ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ بِإِتْلَافِهِ كَمَا يُجْعَلُ بَيْضُ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ كَالصَّيْدِ فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ بِكَسْرِهِ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ حَدِيثُ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ كَمَا رَوَيْنَا وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خُوصِمَ إلَيْهِ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ أَنْشُدُكُمْ بِاَللَّهِ هَلْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا فَقَدِمَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَرَوَى حَدِيثَ الضَّرَّتَيْنِ فَقَالَ عُمَرُ مِنْ يَشْهَدُ مَعَك فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَقَدْ كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ مَا رَأَيْنَا فِيمَا فِيهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَضَى بِالْغُرَّةِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ فُلَيْحٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فِي الْجَنِينُ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ» قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ ثُمَّ هَذِهِ الْآثَارُ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَتَقَدَّرُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْجَنِينِ بِالِاتِّفَاقِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَقَدْ قُدِّرَ ذَلِكَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ جَمِيعَ الدِّيَةِ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا بَلْ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا أَوْجَبَ فِي الْجَنِينِ عَبْدًا أَوْ أَمَةً نَصَّ عَلَى مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ الْوَاجِبَ بَدَلُ نَفْسِ الْجَنِينِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْدَالِ الْمُقَدَّرَةِ النُّفُوسُ، وَأَنَّ مَا يَجِبُ فِي بَدَلِ الْجَنِينِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجِبُ فِي بَدَلِ الْمُنْفَصِلِ حَيًّا؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلِهَذَا قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ بَدَلَ الْجَنِينِ يَكُونُ مَوْرُوثًا عَنْهُ لِوَرَثَتِهِ إلَّا أَنَّ الضَّارِبَ إنْ كَانَ أَبَاهُ لَمْ يَرِثْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَكُونُ لِأُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَكُونُ مُؤَجَّلًا فِي سَنَةٍ، وَبَدَلُ الطَّرَفِ هُوَ الَّذِي يَتَأَجَّلُ فِي سَنَةٍ، وَأَمَّا بَدَلُ النَّفْسِ فَيَكُونُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ عِشْرُونَ رَجُلًا فِي قَتْلِ رَجُلٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «دُوهُ» أَيْ أَدُّوا دِيَتَهُ فَقَدْ جَعَلَهُ فِي حُكْمِ النُّفُوسِ وَسُمِّيَ الْوَاجِبُ فِي بَدَلِهِ دِيَةً، وَهُوَ: اسْمٌ لِبَدَلِ النَّفْسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بَدَلَ الْجُزْءِ لَا يَجِبُ بِدُونِ بَقَاءِ النُّقْصَانِ حَتَّى لَوْ قَلَعَ سِنًّا فَنَبَتَ مَكَانَهُ سِنٌّ أُخْرَى لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، وَهَاهُنَا يَجِبُ بَدَلُ الْجَنِينِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمِّ نُقْصَانٌ دَلَّ أَنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ، وَبَدَلُ النَّفْسِ يَكُونُ مَوْرُوثًا عَنْ صَاحِبِهَا، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْسٌ مُودَعَةٌ فِي الْأُمِّ حَتَّى تَنْفَصِلَ عَنْهَا حَيَّةً فَالْجِنَايَةُ عَلَيْهَا قَبْلَ الِانْفِصَالِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ إلَّا أَنَّهُ مِنْ وَجْهِ نِسْبَةِ الْجُزْءِ فَلَا يَثْبُتُ مِنْ التَّأْجِيلِ فِيهِ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ، وَعَلَى الْأَصْلِ قُلْنَا لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الضَّارِبِ إلَّا أَنْ يَتَبَرَّعَ بِهَا احْتِيَاطًا هَكَذَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ النُّفُوسِ، وَإِتْلَافُ النَّفْسِ مُوجِبُ الْكَفَّارَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هُوَ جُزْءٌ مِنْ وَجْهٍ، وَاعْتِبَارُ صِفَةِ الْجُزْئِيَّةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ، وَمَعَ الشَّكِّ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَلَكِنَّ اعْتِبَارَ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ فَأَوْجَبْنَا الضَّمَانَ، وَأَلْحَقْنَاهُ فِي ذَلِكَ بِالنُّفُوسِ ثُمَّ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِطَرِيقِ السُّكْرِ حَيْثُ سَلَّمَ الشَّرْعُ نَفْسَهُ لَهُ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَوَدُ بِعُذْرِ الْخَطَأِ كَمَا بَيَّنَّا وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَاهُنَا فَإِتْلَافُ الْجَنِينِ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ بِحَالٍ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى شَيْءٍ فِي الْجَنِينِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ كَالنُّفُوسِ ثُمَّ يَقُولُ: الْبَدَلُ الْوَاجِبُ فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِأُمِّهِ لَا بِنَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ الْوَاجِبُ عُشْرُ بَدَلِ الْأُمِّ، وَعِنْدَنَا هُوَ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ فَالْوَاجِبُ عِنْدَنَا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ ذَكَرًا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَتْ أُنْثَى، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْوَاجِبُ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى قَالَ: لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ الْبَدَلُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ دُونَ النَّفْسِيَّةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَنَصَّفُ بِالْأُنُوثَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اعْتِبَارَ النَّفْسِيَّةِ فِي الْجَنِينِ لَيْسَ يُبْنَى عَلَى سَبَبٍ مَعْلُومٍ حَقِيقَةً فَلَا يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ، فَأَمَّا فِي حُكْمِ الْبَدَلِ لَا ضَرُورَةَ فَإِيجَابُهُ مُمْكِنٌ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ حَقِيقَةً فَكَانَ الْوَاجِبُ عُشْرَ دِيَةِ الْأُمِّ إذَا ثَبَتَ هَذَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ فَكَذَلِكَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ.
؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي حَقِّ الْمَمَالِيكِ كَالدِّيَةِ فِي حَقِّ الْأَحْرَارِ، وَفِيمَا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ تَفْضُلُ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَاتِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْجَنِينُ فِي حُكْمِ الْبَدَلِ بِمَنْزِلَةِ النُّفُوسِ حَتَّى يَكُونَ بَدَلُهُ مَوْرُوثًا عَنْهُ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِبَدَلِ النَّفْسِ، وَبَدَلُ النَّفْسِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ صَاحِبِ النَّفْسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ جَنِينَ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ الْمَوْلَى يَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ، وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْأُمِّ لَمْ يَجِبْ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ، وَكَذَلِكَ النَّصْرَانِيَّةُ إذَا كَانَتْ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مِنْ زَوْجٍ مُسْلِمٍ فَيَضْرِبُ إنْسَانٌ بَطْنَهَا يَلْزَمُهُ الْغُرَّةُ، وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ حَالَهَا لَمْ يَجِبْ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ دِيَةَ النَّصْرَانِيَّةِ عِنْدَهُ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً، وَمَا فِي بَطْنِهَا مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالُهُ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ الذُّكُورِ، وَالْإِنَاثِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ فِي الْجَنِينِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى خُصُوصًا قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ خَلْقُهُ، فَإِنَّ وُجُوبَ الْبَدَلِ لَا يَخْتَصُّ بِمَا بَعْدَ تَمَامِ الْخِلْقَةِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ تَفَضُّلُ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَاتِ لَا تَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ ثُمَّ جَازَتْ التَّسْوِيَةُ هَاهُنَا بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَلِكَ التَّفَضُّلُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَطَعَ التَّسْوِيَةَ لَا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالِكِيَّةَ فِي الْجَنِينِ.
وَالْأُنْثَى فِي مَعْنَى النُّشُوِّ يُسَوَّى بِالذَّكَرِ وَرُبَّمَا يَكُونُ الْأُنْثَى أَسْرَعَ نُشُوًّا كَمَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَلِهَذَا جَوَّزْنَا تَفْضِيلَ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ ثُمَّ وُجُوبُ الْبَدَلِ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا نُقْصَانُ الْأُمِّ إنْ تَمَكَّنَ فِيهَا نَقْصٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ كَمَا فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: وُجُوبُ بَدَلِ جَنِينِ الْآدَمِيَّةِ؛ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ الْهَدَرِ وَجَنِينُ الْأَمَةِ فِي ذَلِكَ كَجَنِينِ الْحُرَّةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَمَالِيكِ فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمَالِ يَجِبُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ بَدَلٌ عَنْ النَّفْسِ، وَلِهَذَا لَا يُزَادُ عَلَى مِقْدَارِ الدِّيَةِ بِحَالٍ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ.
وَإِنْ خَرَجَ الْجَنِينُ حَيًّا بَعْدَ الضَّرْبَةِ ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْفَصَلَ حَيًّا كَانَ نَفْسًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ يُوجِبُ الدِّيَةَ، وَالْكَفَّارَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} وَلَوْ قُتِلَتْ الْأُمُّ ثُمَّ خَرَجَ الْجَنِينُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهَا مَيِّتًا فَفِي الْأُمِّ الدِّيَةُ، وَلَا شَيْءَ فِي الْجَنِينِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ الْغُرَّةُ فِي الْجَنِينِ؛ لِأَنَّ فِي إتْلَافِ الْجَنِينِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْفَصِلَ مَيِّتًا، وَهِيَ حَيَّةٌ أَوْ، وَهِيَ مَيِّتَةٌ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الضَّارِبَ أَتْلَفَ بِفِعْلِهِ نَفْسَيْنِ فَيَلْزَمُهُ بَدَلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَكِنَّا إنَّمَا أَوْجَبْنَا الْبَدَلَ فِي الْجَنِينِ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ.
وَوُرُودُ النَّصِّ بِهِ فِيمَا إذَا انْفَصَلَ مِنْهَا، وَهِيَ حَيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، وَإِنَّمَا أَضَافَ الْإِلْقَاءَ إلَيْهَا إذَا كَانَتْ حَيَّةً فَبَقِيَ مَا إذَا انْفَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ثُمَّ يَتَمَكَّنُ الِاشْتِبَاهُ فِي هَلَاكِهِ إذَا انْفَصَلَ بَعْد مَوْتِهَا فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِالضَّرْبَةِ وَرُبَّمَا كَانَ بِانْحِبَاسِ نَفْسِهِ بِهَلَاكِهَا، وَمَعَ اشْتِبَاهِ السَّبَبِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ حَيَّةً حِينَ انْفَصَلَ الْجَنِينُ مَيِّتًا عَنْهَا ثُمَّ هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ ذَكَاةَ الْأُمِّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ فَكَذَلِكَ لَا يَجْعَلُ قَتْلَ الْأُمِّ قَتْلًا لِلْجَنِينِ وَالشَّافِعِيُّ جَعَلَ ذَكَاةَ الْأُمِّ ذَكَاةَ الْجَنِين فَكَذَلِكَ يَجْعَلُ قَتْلَ الْأُمِّ قَتْلًا لِلْجَنِينِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: الْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا ذَلِكَ فِي حُكْمِ الذَّكَاةِ بِالسُّنَّةِ؛ وَلِأَنَّ الذَّكَاةَ تَنْبَنِي عَلَى الْوُسْعِ فَبَقِيَ الْقِيَاسُ مُعْتَبَرًا فِي حُكْمِ الْقَتْلِ فَلَا يَكُونُ قَتْلُ الْأُمِّ قَتْلًا لِلْجَنِينِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا جَنِينَانِ فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِهَا، وَخَرَجَ الْآخَرُ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَهُمَا مَيِّتَانِ فَفِي الَّذِي خَرَجَ قَبْلَ مَوْتِهَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَلَيْسَ فِي الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ مَوْتِهَا شَيْءٌ اعْتِبَارًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا لَوْ كَانَ وَحْدَهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لِمَوْتِ الَّذِي خَرَجَ قَبْلَ مَوْتِهَا سِوَى الضَّرْبَةِ، وَاشْتَبَهَ السَّبَبُ فِي الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَمَعَ اشْتِبَاهِ السَّبَبِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ ثُمَّ الَّذِي خَرَجَ قَبْلَ مَوْتِهَا مَيِّتًا لَا يَرِثُ مِنْ دِيَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّوْرِيثِ بَقَاءُ الْوَارِثِ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَلَهَا مِيرَاثُهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً بَعْدَمَا وَجَبَ بَدَلُ هَذَا الْجَنِينِ بِانْفِصَالِهِ مَيِّتًا فَلَهَا مِيرَاثُهَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ مَوْتِهَا خَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ زَالَ حِينَ انْفَصَلَ حَيًّا، وَقَدْ مَاتَ بِالضَّرْبَةِ بَعْدَمَا صَارَ نَفْسًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَلَهُ مِيرَاثُهُ مِنْ دِيَةِ أُمِّهِ وَمِمَّا وَرِثَتْ أُمُّهُ مِنْ أَخِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَخِيهِ أَبٌ حَيٌّ فَلَهُ مِيرَاثُهُ مِنْ أَخِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِهِمَا فَيَكُونُ لَهُ الْمِيرَاثُ مِنْهُمَا.
وَلَا قِصَاصَ عَلَى الْأَبَوَيْنِ، وَالْأَجْدَادِ، وَالْجَدَّاتِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ، وَالْأُمَّهَاتِ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ إنْ رَمَى الْأَبُ وَلَدَهُ بِسَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ فَقَتَلَهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَذَهُ فَذَبَحَهُ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ بِاعْتِبَارِ تَغْلِيظِ الْجِنَايَةِ، وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِالْعَمْدِ، وَجِنَايَةُ الْأَبِ أَغْلَظُ مِنْ جِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ انْضَمَّ إلَى تَعَمُّدِهِ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقِّ، وَارْتِكَابُهُ مَا هُوَ مَحْظُورٌ مَعَ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ فَإِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِاعْتِبَارِ تَغْلِيظِ جِنَايَتِهِ فَعَلَى الْأَبِ أَوْلَى، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ زَنَى بِابْنَتِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْ الْحَدِّ مَا يَلْزَمُهُ إذَا زَنَى بِالْأَجْنَبِيَّةِ؛ لِتَغْلِيظِ جِنَايَتِهِ هَاهُنَا بِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ إلَّا أَنَّ مَعَ شُبْهَةِ الْخَطَأِ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ، وَعِنْدَ الرَّمْيِ يَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ الْخَطَأِ فَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ قَصَدَ تَأْدِيبَهُ لَا قَتْلَهُ؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ تَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَيْسَ هُنَاكَ بَيْنَهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى الشَّفَقَةِ فَجَعَلْنَا الرَّمْيَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ عَمْدًا مَحْضًا.
فَأَمَّا إذَا أَخَذَهُ فَذَبَحَهُ فَلَيْسَ هَاهُنَا شُبْهَةُ الْخَطَأِ بِوَجْهٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عَلَى الِابْنِ بِقَتْلِ أَبِيهِ فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَبِ بِقَتْلِ ابْنِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ أَحَدِهِمَا مُسَاوِيًا لِلْآخَرِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ مُسَاوِيًا لَهُ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ» وَقَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَنْ قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» فَظَاهِرُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ يُوجِبُ كَوْنَ الْوَلَدِ مَمْلُوكًا لِأَبِيهِ ثُمَّ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ كَالْمَوْلَى إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ فَكَذَلِكَ شُبْهَةُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَكَانَ يَنْبَغِي بِاعْتِبَارِ هَذَا الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْحَدُّ إذَا زَنَى بِهَا، وَلَكِنْ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي حُكْمِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ جَزَاءٌ عَلَى ارْتِكَابِ مَا هُوَ حَرَامٌ مَحْضٌ وَبِإِضَافَةِ الْوَلَدِ إلَى الْوَالِدِ تَزْدَادُ مَعْنَى الْحُرْمَةِ، فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِهِ، وَلِهَذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ الِابْنِ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْجَارِيَةِ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ، وَحَقِيقَةُ الْمِلْكِ فِيهَا تُوجِبُ الْحِلَّ بِظَاهِرِ الْإِضَافَةِ، وَيُوجِبُ شُبْهَةً أَيْضًا فَأَمَّا حَقِيقَةُ الْمِلْكِ فِي مَحَلِّ الْحُرْمَةِ لَا يُورِثُ الْحِلَّ فَالْإِضَافَةُ لَا تُورِثُ الشُّبْهَةَ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمِلْكَ كَمَا يُبِيحُ الْوَطْءَ يُبِيحُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنَّ وَلِيَّ الدَّمِ لِمَا مَلَكَ نَفْسَ مَنْ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ فَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ تُوجِبُ شُبْهَةً فِي الْفَصْلَيْنِ، فَأَمَّا الْمِلْكُ فِي مَحَلِّ الْحُرْمَةِ فَلَا يُوجِبُ حِلَّ الْوَطْءِ فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ.
وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ لِلْمَقْتُولِ أَوْ لِوَلِيِّهِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ، وَالِابْنُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَوْجِبَ ذَلِكَ عَلَى أَبِيهِ، وَبِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلِابْنِ أَنْ يَقْتُلَ أَبَاهُ شَرْعًا بِحَالِ ابْتِدَاءٍ سَوَاءٌ كَانَ مُشْرِكًا أَوْ مُرْتَدًّا أَوْ زَانِيًا، وَهُوَ مُحْصَنٌ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ سَبَبَ إيجَادِ الْوَلَدِ فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلَدِ أَنْ يَكْتَسِبَ سَبَبَ إفْنَائِهِ، وَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ إتْلَافٌ حُكْمًا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِيفَاءُ دُونَ الْوُجُوبِ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} وَعَلَيْهِ أَنْ يُصَاحِبَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي}، وَلَيْسَ الْقَتْلُ مِنْ الْإِحْسَانِ، وَالْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ فِي شَيْءٍ فَكُلُّ ذَلِكَ ثَبَتَ لِلْوَالِدِ عَلَيْهِ شَرْعًا؛ لِيَعْرِفَ الْعَاقِلُ بِحَقِّ الْوَالِدِ عَظِيمَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْوَالِدَيْنِ كَانَا سَبَبَيْنِ لِوُجُودِهِ وَتَرْبِيَتِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيَعْرِفُ الْعَاقِلُ بِهَذَا أَنَّ مُرَاعَاةَ حَقِّ اللَّهِ أَوْجَبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْوَالِدِ بِقَتْلِ الْوَلَدِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَالِدَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا أَوْجَبُ.
فَكَذَلِكَ الْأَجْدَادُ، وَالْجَدَّاتُ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ لِمَعْنَى الْوِلَادَةِ، وَالْحُرِّيَّةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَقْتُولِ فَإِنْ كَانَ بِوَاسِطَةٍ فَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَعَمِلَتْ الشُّبْهَةُ فِيهِ عَمَلَ الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ إذَا قَتَلَ وَالِدَهُ فَالْوَلَدُ مَا كَانَ سَبَبًا لِإِيجَادِ وَالِدِهِ، وَالْوَلَدُ يُقَابِلُ مَا عَلَيْهِ مِنْ مُرَاعَاةِ حُرْمَةِ الْوَالِدِ بِضِدِّهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ إذَا قَتَلَ مَوْلَاهُ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَالْمَوْلَى إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ مَنَعَ مَالِكٌ هَذَا بِغَيْرِ الْكَلَامِ فِيهِ فَنَقُولُ: لَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ إنَّمَا يَجِبُ لَهُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ خَطَأً لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ كَانَ الضَّمَانُ لِلْمَوْلَى فَإِذَا قَتَلَهُ الْمَوْلَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى الْآبَاءِ، وَالْأَجْدَادِ الدِّيَةُ بِقَتْلِ الِابْنِ عَمْدًا فِي أَمْوَالِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَجِبُ الدِّيَةُ حَالَّةً، وَإِنَّمَا لَا يَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ لِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا» يَعْنِي الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ الْأَصْلُ أَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفِ يَكُونُ عَلَى الْمُتْلِفِ فِي مَالِهِ حَالًّا كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ إلَّا أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الدِّيَةِ عِنْدَ الْخَطَأِ ثَبَتَ لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْخَاطِئِ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ، وَالْعَامِدُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ التَّخْفِيفَ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ حَالًّا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمَّا كَانَ لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فِي الْعَمْدِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِمَعْنَى الْجُبْرَانِ، وَحَقُّ صَاحِبِ النَّفْسِ فِي نَفْسِهِ كَانَ ثَابِتًا حَالًّا فَلَا جُبْرَانَ فِي حَقِّهِ إلَّا بِبَدَلٍ هُوَ حَالٌّ؛ وَلِأَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ شَرْعًا إلَى بَدَلٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبَدَلُ حَالًّا، كَمَا لَوْ سَقَطَ بِالصُّلْحِ عَلَى مَالٍ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ فِعْلَ الْأَبِ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا مَا وَجَبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا كَمَا لَوْ وَجَبَ بِقَتْلِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُتْلَفَ لَيْسَ بِمَالٍ وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يُضْمَنُ بِالْمَالِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا تَقَوُّمَ النَّفْسِ بِالْمَالِ شَرْعًا، وَالشَّرْعُ إنَّمَا قَوَّمَ النَّفْسَ بِدِيَةٍ مُؤَجَّلَةٍ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَالْمُؤَجَّلُ أَنْقُصُ مِنْ الْحَالِّ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْعُرْفِ يَشْتَرِي الشَّيْءَ بِالنَّسِيئَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَشْتَرِي بِالنَّقْدِ فَإِيجَابُ الْمَالِ حَالًّا بِالْقَتْلِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مَعْنًى، وَكَمَا لَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ الزِّيَادَةُ فِي الدِّيَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَالِّ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَصْفًا، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّأْجِيلَ لَيْسَ لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ عَلَى الْخَاطِئِ بَلْ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ النَّفْسِ شَرْعًا دِيَةٌ مُؤَجَّلَةٌ بِخِلَافِ الْإِيجَابِ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي قِيمَةِ النُّفُوسِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَوْفَاةً مِنْ الْعَاقِلَةِ أَوْ مِنْ الْقَاتِلِ فَكَانَ الْإِيجَابُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَالِ الْوَاجِبِ بِالصُّلْحِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَلِهَذَا لَا يَتَقَدَّرُ بِمِقْدَارٍ شَرْعًا حَتَّى لَوْ وَقَعَ الصُّلْحُ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ قَدْرًا جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا الْتَزَمَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَكُونُ ذَلِكَ حَالًّا بِمَنْزِلَةِ الْأَعْوَاضِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، وَإِنْ كَانَ الْوَالِدُ قَتَلَ وَلَدَهُ خَطَأً فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ كَفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ.
، وَالْمَحْظُورُ الْمَحْضُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ: إنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِطَرِيقِ السُّكْرِ لَمَّا سَلَّمَ الشَّرْعُ لَهُ نَفْسَهُ فَأَسْقَطَ الْقَوَدَ عَنْهُ؟ فَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى هَاهُنَا وَقُلْتُمْ: بِأَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ قُلْنَا: إسْقَاطُ الْقَوَدِ عَنْهُ شَرْعًا مَتَى كَانَ بِطَرِيقِ الْعُذْرِ لَهُ، وَالتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ كَانَ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ، وَهَاهُنَا امْتِنَاعُ وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ؛ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ لَا بِطَرِيقِ التَّخْفِيفِ وَالْعُذْرِ لِلْأَبِ فَبَقِيَ فِعْلُهُ حَرَامًا مَحْضًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَوْلَى قَتَلَ مَمْلُوكَهُ عَمْدًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ أَبُوهُ عَمْدًا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ لِلْمَوْلَى بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمَقْتُولِ، فَإِنَّهُ يَنْزِلُ مِنْ الْمَمْلُوكِ مَنْزِلَةَ وَارِثِ الْحُرْمَةِ، فَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ فِي قَتْلِ رَجُلٍ أَحَدُهُمَا بِعَصًا، وَالْآخَرُ بِحَدِيدَةٍ فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَكَذَا نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ بِالْعَصَا لَا يُصْلَحُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ التَّأْدِيبُ، وَالْآلَةُ آلَةُ التَّأْدِيبِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْخَاطِئِ، وَالْخَاطِئُ، وَالْعَامِدُ إذَا اشْتَرَكَا فِي الْقَتْلِ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ اخْتَلَطَ الْمُوجِبُ بِغَيْرِ الْمُوجِبِ فِي الْمَحَلِّ فَقَدْ انْزَهَقَتْ الرُّوحُ عَقِيبَ فِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْعُقُوبَةِ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ بِأَيِّ الْفِعْلَيْنِ أُزْهِقَ الرُّوحُ فَيُمْكِنُ الشُّبْهَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَبَعْدَ سُقُوطِ الْقِصَاصِ يَجِبُ الْمَالُ فَيَتَوَزَّعُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِإِضَافَةِ الْقَتْلِ إلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ.
وَلَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ الْقَتْلُ إلَى فِعْلِ مَنْ اسْتَعْمَلَ السِّلَاحَ فِيهِ؛ لِأَنَّ السِّلَاحَ آلَةٌ لِلْقَتْلِ دُونَ الْعَصَا؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْلَمُ مِنْ الْجُرْحِ بِالْحَدِيدِ، وَيَتْلَفُ مِنْ الضَّرْبِ بِالْعَصَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَرَحَهُ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً، وَالْآخَرُ عَشَرَةَ جِرَاحَاتٍ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ الْقَتْلُ مُضَافًا إلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ لِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ يُجْعَلُ كَالْمُنْفَرِدِ بِهِ فَنِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى صَاحِبِ الْحَدِيدَةِ فِي مَالِهِ، وَنِصْفُهَا عَلَى صَاحِبِ الْعَصَا عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَاهُ بِسِلَاحٍ، وَأَحَدُهُمَا صَبِيٌّ أَوْ مَعْتُوهٌ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَجِبُ الْقَوَدُ قِيَاسًا عَلَى الْعَاقِلِ الْبَالِغِ بِنَاءً عَلَى قَوْلَيْنِ فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
فَأَمَّا الْأَبُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ الْمَوْلَى مَعَ الْأَجْنَبِيِّ إذَا اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ الْوَلَدِ، وَالْمَمْلُوكِ فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا قَاتِلَاهُ عَمْدًا مَحْضًا مَضْمُونٌ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْمُنْفَرِدِ بِهِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا أَوْ بِسُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْ أَحَدِهِمَا؛ لِمَعْنًى يَخُصُّهُ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنْ الْآخَرِ كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ إذَا عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا.
وَتَفْسِيرُ الْعَمْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلٍ يَتَرَتَّبُ عَلَى قَصْدٍ صَحِيحٍ إلَيْهِ، وَبِالْأُبُوَّةِ وَالْمِلْكِ لَا يَنْعَدِمُ الْقَصْدُ الصَّحِيحُ إلَى الْفِعْلِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ ضِدَّ الْعَمْدِ الْخَطَأُ فَإِذَا كَانَ الْخَطَأُ مَا يَكُونُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْ الْفَاعِلِ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ عَرَفْنَا أَنَّ الْعَمْدَ مَا يَكُونُ عَنْ قَصْدٍ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى شَرِيكِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ قَصْدًا صَحِيحًا فَكَانَ فِعْلُهُمَا عَمْدًا، وَلِلْعَمْدِ تَفْسِيرٌ آخَرُ فِي الْقَتْلِ شَرْعًا، وَهُوَ أَنَّهُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ الْإِبَاحَةُ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِهِ شَرْعًا الْعُقُوبَةُ قَالَ: عَلَيْهِ السَّلَامُ «الْعَمْدُ قَوَدٌ»، وَلَا تَجِبُ الْعَقُوبَةُ إلَّا جَزَاءً عَلَى فِعْلٍ هُوَ مَحْظُورٌ مَحْضٌ، وَفِعْلُ الْأَبِ وَالْمَوْلَى مَحْظُورٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْأَبِ قَدْ انْضَمَّ إلَى ارْتِكَابِ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ مَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ.
وَفِي حَقِّ الْمَوْلَى انْضَمَّ إلَى الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ الْإِتْيَانُ بِضِدِّ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْمَمَالِيكِ، وَالْقَتْلُ لَا يَحِلُّ بِمِلْكِ الْمِلْكِيَّةِ بِحَالٍ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِهِ شُبْهَةٌ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ شَرِبَ خَمْرَ نَفْسِهِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْمِلْكِ فِي إبَاحَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا يَخْرُجُ الْفِعْلُ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا مَحْضًا، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى شَرِيكِ الصَّبِيِّ، وَالْمَعْتُوهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْكَلَامُ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْأَبِ مُوجِبٌ لِقَوَدٍ عِنْدَهُ ثُمَّ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ بِعَفْوِ الشَّرْعِ مِنْهُ عَنْ الْأَبِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَوَانِ السُّقُوطِ أَحَدُ الْقَاتِلَيْنِ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الْآخَرِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ الْقَوَدِ شَرْعًا هُوَ الْعَمْدُ، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ السَّبَبِ فَإِذَا كَانَتْ الْأُبُوَّةُ لَا تُوجِبُ نُقْصَانًا فِي السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا لَا يُسْتَوْفَى لِكَيْ لَا يَكُونَ الْوَلَدُ سَبَبَ إفْنَاءِ الْوَالِدِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْوَالِدُ سَبَبَ إيجَادِهِ، وَهَذَا فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ دُونَ الْوُجُوبِ فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ حُكْمًا لِلسَّبَبِ ثُمَّ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِيفَاءُ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى فَيَسْقُطُ شَرْعًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ عِنْدَكُمْ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْوَالِدِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ لَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِهِ، وَإِنَّ الْأَبَ لَوْ قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا كَانَ الْوَلَدُ شَهِيدًا لَا يُغَسَّلُ، وَإِنَّمَا لَا يُغَسَّلُ إذَا كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْمَالِ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْخَاطِئِ غَيْرُ مُوجِبٍ فَاخْتَلَطَ الْمُوجِبُ بِغَيْرِ الْمُوجِبِ فِي الْمَحَلِّ فَيُمْكِنُ الشُّبْهَةُ لِاتِّحَادِ الْمَحَلِّ يُقَرِّرُهُ: أَنَّ الْخَطَأَ مَعْنًى فِي الْفِعْلِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُوصَفُ الْفِعْلُ بِهِ فَيُقَالُ: قَتْلُ خَطَأٍ، وَقَدْ اجْتَمَعَ الْفِعْلَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَأَمَّا الْأُبُوَّةُ فَمَعْنًى فِي الْفَاعِلِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْفَاعِلَ يُوصَفُ بِهِ فَيُقَالُ أَبٌ قَاتِلٌ فَأَحَدُ الْفَاعِلَيْنِ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الْآخَرِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْقَتْلَ ثَمَّ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ كَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ إذَا اشْتَرَكَا، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْأَبِ بِهَذَا الْفِعْلِ الدِّيَةُ لَا غَيْرُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُسْتَوْفَى مِنْهُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِالْوُجُوبِ الِاسْتِيفَاءُ فَإِذَا كَانَ لَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ إلَّا الدِّيَةُ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فِي قَتْلِ الْأَبِ دُونَ الْقِصَاصِ أَنَّ السَّبَبَ لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ إلَّا فِي مَحَلٍّ صَالِحٍ لَهُ، وَبَعْدَ صَلَاحِيَّةِ الْمَحَلِّ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ، وَفِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِتْلَافَ كَمَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ بِدُونِ مَحَلٍّ صَالِحٍ لَهُ، وَهُوَ الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ، وَفِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَتْلَفَ مَالَ مُسْلِمٍ لَا أَمَانَ لَهُ أَوْ الْحَرْبِيُّ إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْمُسْلِمِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ، وَالْبَيْعُ كَمَا لَا يَنْعَقِدُ شَرْعًا إلَّا فِي مَحَلٍّ صَالِحٍ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يُبَاشِرُهُ.
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: الْعَمْدُ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ بِشَرْطِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ وَعَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي قَتْلِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ، وَلَا فِي قَتْلِ الْأَبِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ تَجِبُ لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْقَتْلُ عَلَى وَالِدِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْإِيجَابِ اسْتِحْقَاقَ نَفْسِهِ شَرْعًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ أَهْلًا لِمُبَاشَرَةِ إتْلَافِهِ حَقِيقَةً بِصِفَةِ الْإِبَاحَةِ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِاسْتِحْقَاقِ إتْلَافِهِ شَرْعًا، فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ وَلِهَذَا كَانَ مُوجِبًا الدِّيَةَ الْمُغَلَّظَةَ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الدِّيَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ تَجِبُ لَهُ الشُّبْهَةُ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا، وَفِي غُسْلِهِ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُغَسَّلُ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ مُوجِبٌ لِلْمَالِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يُغَسَّلُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ تَجِبُ لَهُ وَذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى إلَى حُكْمِ الْغُسْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ الْقِصَاصَ عَلَى أَبِيهِ حَتَّى يَسْقُطَ وَبِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَجِبُ الْحَقُّ لِلْوَارِثِ قُلْنَا: هَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِإِيجَابِ الْقَوَدِ عَلَى الْأَبِ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِهِ حُكْمًا، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْوَارِثَةِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ الْحُكْمِيَّ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ أَنْ يَرِثَهُ الْوَلَدُ بَلْ فِي ثُبُوتِ الْإِرْثِ لِلْوَلَدِ إحْيَاءٌ لِلْأَبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْقَوَدُ إذَا وَرِثَهُ الِابْنُ، وَلَا يَسْقُطُ إذَا لَمْ يَرِثْهُ وَهُوَ نَظِيرُ الْوَلَدِ فِي أَنَّهُ لَا يَسْتَرِقُّ وَالِدَهُ ثُمَّ يَشْتَرِي وَالِدَهُ الْمَمْلُوكَ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأُبُوَّةَ لَوْ طَرَأَتْ عَلَى قِصَاصٍ مُوجِبٍ أَسْقَطَتْهُ، وَإِذَا اقْتَرَنَتْ بِالسَّبَبِ دَفَعَتْ الْوُجُوبَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشَّيْءِ فِي الْحُكْمِ مُقْتَرِنًا بِالسَّبَبِ أَقْوَى مِنْ تَأْثِيرِهِ طَارِئًا عَلَى السَّبَبِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِعْلَ الْأَبِ غَيْرُ مُوجِبٍ عَرَفْنَا أَنَّهُ اخْتَلَطَ الْمُوجِبُ بِغَيْرِ الْمُوجِبِ فِي الْمَحَلِّ فَكَانَ كَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَفَا عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: الْأُبُوَّةُ مَعْنًى فِي الْفَاعِلِ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ فَإِنَّهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْفَاعِلِ فَقَدْ تَعَدَّى إلَى الْفِعْلِ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا فَهُوَ نَظِيرُ الْخَطَأِ فِي الْفَاعِلِ بِأَنْ رَمَى إلَى إنْسَانٍ يَظُنُّهُ كَافِرًا، وَهُوَ مُسْلِمٌ فَإِنَّ الْخَطَأَ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الْفَاعِلِ وَلَكِنْ لَمَّا تَعَدَّى إلَى الْفِعْلِ صَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّ شَرِيكِهِ فِي الْفِعْلِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مُسْلِمَيْنِ لَوْ رَمَيَا إلَى صَيْدِ أَحَدُهُمَا بِسَهْمٍ، وَالْآخَرُ بِبُنْدُقِيَّةٍ لَمْ يَحِلَّ تَنَاوُلَ الصَّيْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ إلَى الصَّيْدِ، وَفِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ الْحُرْمَةُ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الْفِعْلِ وَفِي الْمُوضَعِ الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الْفَاعِلِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مَجُوسِيًّا لَكِنْ لَمَّا تَعَدَّى إلَى الْفِعْلِ الْتَحَقَ بِالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ فِي الْفِعْلِ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ.
وَلَوْ اشْتَرَكَ عَشَرَةُ رَهْطٍ فِي قَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ لِصِيَانَةِ الْمَحَلِّ عَنْ الْهَدَرِ فَالْمَحَلُّ وَاحِدٌ وَبِإِيجَابِ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَيْهِمْ يُتِمُّ مَعْنَى الصِّيَانَةِ، ثُمَّ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مِمَّا هُوَ مُؤَجَّلٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَهُوَ بَدَلُ النَّفْسِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى عَشَرَةُ نَفَرٍ شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فَإِنَّهُ ثَبَتَ تَمَامُ الْأَجَلِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ ثُلُثٍ مِنْ بَدَلِ النَّفْسِ مُؤَجَّلٌ فِي سَنَةٍ، وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُ كُلِّ ثُلُثٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ مِنْ الثُّلُثِ الَّذِي هُوَ مُؤَجَّلٌ إلَى سَنَةٍ أَوْ مِنْ الثُّلُثِ الثَّانِي خَاصَّةً.
وَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِقَتْلِ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ مَا يَجِبُ بِالِاعْتِرَافِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَلَا اعْتِرَافًا»؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الصِّدْقِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ خَاصَّةً؛ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَأَمَّا فِي حَقِّ عَاقِلَتِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَهُ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ فِي الِالْتِزَامِ قَوْلًا دُونَ عَاقِلَتِهِ، وَكُلُّ جِنَايَةِ عَمْدٍ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَا يُسْتَطَاعُ فِيهَا الْقِصَاصُ أَوْ شِبْهُ عَمْدٍ فَالْأَرْشُ فِي مَالِ الْجَانِي مُغَلَّظًا أَمَّا فِي الْعَمْدِ فَلَا يُشْكِلُ، وَأَمَّا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فَلِأَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي النَّفْسِ خَاصَّةً فَإِنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ فِي أَبُو حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَكْفِي؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الصِّنَاعَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَدْ يَتَحَوَّلُ الْإِنْسَانُ مِنْ صِنَاعَةٍ إلَى صِنَاعَةٍ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَهُمْ بِالصَّلَاحِ كَتَبَ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ وَأُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْهُمْ كَتَبَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إعْلَامُ عَدَالَتِهِمْ لِلْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ؛ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَضَاءِ فَالْقَضَاءُ يَقَعُ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ حَلَّاهُمْ فَحَسَنٌ، وَإِنْ تَرَكَ التَّحْلِيَةَ لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ التَّعْرِيفُ قَدْ حَصَلَ بِذِكْرِ الِاسْمِ، وَالنَّسَبِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ رَأْيِ الْكَاتِبِ أَنْ يَذْكُرَ التَّحْلِيَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَشِينُهُ، وَلَا يُعَيَّرُ بِهِ فِي النَّاسِ فَيَتَحَرَّزُ عَنْ ذِكْرِ مَا يَشِينُهُ فَذَلِكَ نَوْعُ غِيبَةٍ فَإِنْ أَرَادَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَعَلَهُ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ تَثْبُتُ عِنْدَهُ بِالْكِتَابِ فَكَأَنَّهُ تَثْبُتُ بِسَمَاعِهِ مِنْهُمْ، وَكَمَا جَوَّزْنَا الْكِتَابَ مِنْ الْقَاضِي الْأَوَّلِ لِلْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ نُجَوِّزُهُ مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ قَدْ يَهْرُبُ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى قَبْلَ قَضَاءِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِذَلِكَ عَلَيْهِ.
وَإِذَا سَمِعَ الْقَاضِي شَهَادَةَ الشُّهُودِ، وَكَتَبَ بِهَا إلَى قَاضٍ آخَرَ فَلَمْ يَخْرُجْ الْكِتَابُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى حَضَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ سَمَاعَهُ الْأَوَّلَ كَانَ لِلنَّقْلِ فَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ كَشَاهِدِ الْفَرْعِ إذَا اسْتَقْصَى بَعْدَمَا شَهِدَ الْأَصْلِيَّانِ عِنْدَهُ، وَأَشْهَدَاهُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ جَوَازَ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وَاَلَّذِي سَمِعَ شَهَادَةً لَا بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ مَا يَحْصُلُ الْبَيَانُ بِهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ بَعْدَ إنْكَارِهِ أَوْ سُكُوتِهِ الْقَائِمِ مَقَامَ إنْكَارِهِ فَإِنْ أَعَادَ الْمُدَّعِي تِلْكَ الْبَيِّنَةَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ فَالْآنَ يَقْضِي لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ لِلْقَضَاءِ إنْكَارُ الْخَصْمِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حِينَ أَعَادَهَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدَاءِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَقَرَأَهُ بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْخَتْمِ وَمَا فِيهِ، وَهُوَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ لَمْ يُنَفِّذْهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ رَأْيِهِ.
لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ، وَإِنَّمَا نَقَلَ الشَّهَادَةَ بِكِتَابِهِ إلَى مَجْلِسِهِ فَلَا يَحْكُمُ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ كَمَا إذَا شَهِدَ الْفُرُوعُ عِنْدَهُ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ قَضَى بِهِ، وَأَعْطَى الْخَصْمَ سِجِلًّا فَالثَّانِي يُنَفِّذُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَأْيِهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُبْطِلَ قَضَاءَهُ، وَإِنْ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ فَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ فَأَمَّا فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ مَا قَضَى بِشَيْءٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ كِتَابَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ إلَى الثَّانِي، وَإِنَّ الْخَصْمَ لَوْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ الثَّانِي لَا يُنَفِّذُ كِتَابَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ وَلَا يُقْبَلُ كِتَابَ الْقَاضِي فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.
الشَّرْعُ مَا أَمَرَنَا بِالِانْتِظَارِ إضْرَارًا بِالْمَضْرُوبِ فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيمَا يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ أَنَّهُ حَادِثٌ بِتِلْكَ الضَّرْبَةِ لَرَجَعَ ذَلِكَ إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ، وَلَوْ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَصَارَتْ مُنَقِّلَةً فَقَالَ الْمَضْرُوبُ: صَارَتْ مُنَقِّلَةً مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: الضَّارِبُ حَدَّثَتْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّارِبِ بِخِلَافِ السِّنِّ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ؛ لِأَنَّ هَاهُنَا فِعْلُ الضَّارِبِ إنَّمَا عَمِلَ فِي اللَّحْمِ دُونَ الْعَظْمِ، وَالْمُنَقِّلَةُ مَا يَكُونُ عَامِلًا فِي الْعَظْمِ فَالضَّارِبُ يُنْكِرُ فِعْلَهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي الْمَحَلِّ لَا يُؤَثِّرُ فِعْلًا آخَرَ إلَّا نَادِرًا.
فَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَإِنَّ مَا اسْوَدَّتْ السِّنُّ الَّتِي حَلَّتْ الضَّرْبَةُ بِهَا فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِلْمَضْرُوبِ هُنَاكَ، وَإِذَا قَلَعَ الرَّجُلُ سِنَّ رَجُلٍ أَوْ صَبِيٍّ ثُمَّ نَبَتَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَالِعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِفِعْلِهِ أَثَرٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: يَلْزَمُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ بِاعْتِبَارِ الْأَلَمِ الَّذِي لَحِقَهُ، وَكَذَلِكَ الظُّفْرُ إذَا قَلَعَهُ فَنَبَتَ فَلَيْسَ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَلَا أَرْشٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ أَثَرٌ، وَإِنْ نَبَتَتْ السِّنُّ سَوْدَاءَ فَفِيهَا أَرْشٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْمَقْلُوعَةِ فَكَأَنَّ الْأُولَى بَاقِيَةٌ قَدْ اسْوَدَّتْ، وَإِنْ نَبَتَ الظُّفْرُ أَغَوْرَ وَمُتَغَيِّرًا فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَّلِ لَوْ أَغْوَرَ بِالضَّرْبَةِ أَوْ تَغَيَّرَ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الظُّفْرِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِيهِ مُجَرَّدُ الْجَمَالِ فَإِذَا اسْوَدَّ أَوْ تَغَيَّرَ يُنْتَقَصُ مَعْنَى الْجَمَالِ، وَلَا يَكُونُ السَّوَادُ فِي الظُّفْرِ دَلِيلُ مَوْتِ الظُّفْرِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي أَنْوَاعِ بَنِي آدَمَ مَنْ يَكُونُ ظُفْرُهُمْ أَسْوَدَ خِلْقَةً حَتَّى قَالُوا: إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَقَصُ فِي حَقِّهِ مَعْنَى الْجَمَالِ قَالَ: وَإِذَا قَلَعَ الرَّجُلُ سِنَّ رَجُلٍ خَطَأً فَأَخَذَ الْمَقْلُوعُ سِنَّهُ فَأَثْبَتَهَا مَكَانَهَا فَثَبَتَتْ فَعَلَى الْقَالِعِ أَرْشُهَا؛ لِأَنَّهَا، وَإِنْ ثَبَتَتْ لَا تَصِيرُ كَمَا كَانَتْ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَا تَتَّصِلُ بِعُرُوقِهَا، وَلِهَذَا جَعَلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تِلْكَ السِّنَّ كَالْمَيِّتَةِ حَتَّى قَالَ: إذَا كَانَتْ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ مَعَهَا، وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ مَا إذَا أَثْبَتَ فِي مَوْضِعِهَا سِنَّ نَفْسِهِ أَوْ سِنَّ غَيْرِهِ فِي حُكْمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَلَا يَحْضُرُنِي، وَكَذَلِكَ الْأُذُنُ إذَا أَعَادَهَا إلَى مَكَانِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَعُودُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ الْتَصَقَتْ فَأَمَّا إذَا ابْيَضَّتْ الْعَيْنُ مِنْ ضَرْبَةِ رَجُلٍ ثُمَّ ذَهَبَ الْبَيَاضُ مِنْهَا فَأَبْصَرَ فَلَيْسَ عَلَى الضَّارِبِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْأَلَمُ الَّذِي لَحِقَهُ بِالضَّرْبَةِ وَبِاعْتِبَارِهَا لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْأَثَرِ فِي الْمَحَلِّ، وَلَمْ يَبْقَ، وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً خَطَأً فَسَقَطَ مِنْهَا شَعْرُ رَأْسِهِ كُلُّهُ فَلَمْ يَنْبُتْ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ تَامَّةً لِإِفْسَادِ الْمَنْبَتِ، وَيَدْخُلُ أَرْشُ الشَّجَّةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّ الشَّجَّةَ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ بِنَفْسِهَا، وَكَذَلِكَ إفْسَادُ مَنْبَتِ الشَّعْرِ جِنَايَةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَلَا تَدْخُلُ فِي أَرْشِ الْجِنَايَاتِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ وُجُوبُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الشَّعْرِ دَلِيلُ أَنَّهُ لَوْ نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَاسْتَوَى كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَإِذَا وَجَبَ كَمَالُ بَدَلِ النَّفْسِ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الشَّعْرِ لَا يَجِبُ مَا دُونَهُ بِاعْتِبَارِهِ أَيْضًا فَإِنْ كَانَ ذَهَبَ مِنْ الشَّعْرِ بَعْضُهُ فَعَلَى الْجَانِي الْأَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ الشَّعْرِ وَمِنْ أَرْشِ الشَّجَّةِ، وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْأَكْثَرِ يَتَحَقَّقُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ مَعْنًى كَمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْحَاجِبِ فَإِنَّ الْمُوضِحَةَ فِي الْوَجْهِ، وَالرَّأْسِ سَوَاءٌ، وَالْآمَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الرَّأْسِ أَوْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالدِّمَاغِ مِنْ الْوَجْهِ، وَالْجَائِفَةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الظَّهْرِ، وَالْبَطْنِ، وَالْجَنْبِ أَوْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالْجَوْفِ حَتَّى لَوْ جَرَحَهُ بَيْنَ ذَكَرِهِ وَدُبُرِهِ جِرَاحَةً وَاصِلَةً إلَى جَوْفِهِ تَكُونُ جَائِفَةً فَأَمَّا فِي الْفَخِذِ، وَالْعَضُدِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْجَائِفَةُ، وَكَذَلِكَ فِي الْعُنُقِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ إذَا وَصَلَتْ الْجِرَاحَةُ إلَى مَوْضِعٍ يَحْصُلُ الْفِطْرُ لِلصَّائِمِ بِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَيْهِ تَكُونُ جَائِفَةً، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْفِطْرُ بِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَيْهِ لَا تَكُونُ جَائِفَةً، وَلَوْ شَجَّهُ فَذَهَبَ مِنْ ذَلِكَ عَقْلُهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الْعَقْلِ وَيَدْخُلُ فِيهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَدْخُلُ لِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ فَإِنَّ مَحَلَّ الْمُوضِحَةِ غَيْرُ مَحَلِّ الْعَقْلِ بِخِلَافِ الشَّعْرِ مَعَ الْمُوضِحَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: ذَهَابُ الْعَقْلِ فِي مَعْنَى تَبْدِيلِ النَّفْسِ، وَإِلْحَاقِهِ بِالْبَهَائِمِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ كَمَالُ الدِّيَةِ وَدَخَلَ فِيهِ أَرْشُ الشَّجَّةِ.
فَأَمَّا إذَا ذَهَبَ مِنْ الشَّجَّةِ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ كَلَامُهُ يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلَا يَدْخُلُ أَرْشُ الشَّجَّةِ فِي ذَلِكَ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: وَفِي السَّمْعِ، وَالْكَلَامِ يَدْخُلُ أَرْشُ الشَّجَّةِ فِي الدِّيَةِ، وَفِي الْبَصَرِ لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّ الْبَصَرَ ظَاهِرٌ كَالْمُوضِحَةِ فَقَدْ يُبَايِنُ الْمَحَلَّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَأَمَّا السَّمْعُ وَالْكَلَامُ فَمَعْنًى بَاطِنٌ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْلِ فَكَمَا يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ بِإِذْهَابِ الْعَقْلِ فَكَذَلِكَ فِيمَا تَجِبُ بِإِذْهَابِ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَحَلُّ السَّمْعِ غَيْرُ مَحَلِّ الشَّجَّةِ، وَكَذَلِكَ مَحَلُّ الْكَلَامِ وَبِتَفْوِيتِهِمَا لَا تَتَبَدَّلُ النَّفْسُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ لِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ذَهَابِ الْبَصَرِ بِالشَّجَّةِ، فَإِنْ ذَهَبَ بِالشَّجَّةِ الْعَقْلُ، وَالسَّمْعُ، وَالْكَلَامُ، وَالْبَصَرُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْبَعُ دِيَاتٍ.
وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى عَلَى رَجُلٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ، وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حَيٌّ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَلَوْ مَاتَ مِنْ الشَّجَّةِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؟ وَبِمَوْتِهِ فَاتَتْ هَذِهِ الْمَنَافِعُ ثُمَّ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَبِفَوَاتِ هَذِهِ قَدْ ذَكَرُوا أَكْثَرَ الْحُدُودِ، وَإِقَامَةُ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ثُمَّ مِقْدَارُ الطُّولِ بِذِكْرِ الْحَدَّيْنِ صَارَ مَعْلُومًا، وَمِقْدَارُ الْعَرْضِ بِذِكْرِ أَحَدِ الْحَدَّيْنِ بَعْدَ إعْلَامِ الطُّولِ يَصِيرُ مَعْلُومًا أَيْضًا، وَقَدْ تَكُونُ الْأَرْضُ مُثَلَّثَةً لَهَا ثَلَاثَةُ حُدُودٍ فَإِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا غَلِطُوا فِي ذِكْرِ أَحَدِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ بِمَا ذَكَرُوا صَارَ شَيْئًا آخَرَ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، وَمَا إذَا خَالَفُوا فِي ذِكْرِهِ كَمَا إذَا ادَّعَى شِرَاءَ شَيْءٍ بِثَمَنٍ مَنْقُودٍ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ، وَإِنْ سَكَتَ الشُّهُودُ عَنْ ذِكْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ، وَلَوْ ذَكَرُوا ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَحُدُّوهَا وَنَسَبُوهَا إلَى اسْمٍ مَعْرُوفٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالشُّهْرَةِ كَالتَّعْرِيفِ بِذِكْرِ الْحُدُودِ أَوْ أَبْلُغُ، وَذِكْرُ الْحُدُودِ فِي الْعَقَارَاتِ كَذِكْرِ الِاسْمِ، وَالنَّسَبِ فِي الْآدَمِيِّ ثُمَّ هُنَاكَ الشُّهْرَةُ تُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الِاسْمِ، وَالنَّسَبِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: بِالشُّهْرَةِ يَصِيرُ مَوْضِعُ الْأَصْلِ مَعْلُومًا فَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَشْهُودِ بِهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِذِكْرِ الْحُدُودِ، وَجَهَالَةُ الْمِقْدَارِ تَمْنَعُ مِنْ الْقَضَاءِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الدَّارَ الْمَشْهُودَةَ قَدْ يُزَادُ فِيهَا وَيُنْتَقَصُ مِنْهَا، وَلَا تَتَغَيَّرُ الشُّهْرَةُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ لَا يُزَادُ فِيهِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ.
وَالْحَاجَةُ هُنَاكَ إلَى إعْلَامِ أَصْلِهِ بِالشُّهْرَةِ يَصِيرُ مَعْلُومًا، وَلَوْ جَاءَ بِكِتَابِ قَاضٍ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ السَّدِي عَبْدِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ كَذَا كَذَا أُجْرَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ يُعْرَفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَالِكِهِ فَالنِّسْبَةُ إلَى الْأَبِ وَالْقَبِيلَةِ تَتَعَطَّلُ بِالرِّقِّ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَى مَالِكِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْمَمْلُوكِ لِمَالِكِهِ دُونَ أَبِيهِ فَإِذَا نَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ مَعْرُوفٍ بِالشُّهْرَةِ أَوْ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فَقَدْ تَمَّ تَعْرِيفُهُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ نَسَبَ الْعَبْدَ إلَى عَمَلٍ أَوْ تِجَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا فَالتَّعْرِيفُ فِي الْحُرِّ يَحْصُلُ بِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ، وَإِنْ جَاءَ بِالْكِتَابِ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَهُمَا فِي الْقِيَاسِ سَوَاءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْآبِقِ مَا يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي وَمَا لَا يُقْبَلُ.
(قَالَ:) وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا كِتَابُ الْقُضَاةِ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا فِي الْعَقَارِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ مَوْضِعِهِ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَعْيَانِ لَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى عَيْنِهِ عِنْدَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ شَرْطٌ وَلِهَذَا لَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِهِ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَإِذَا أَتَى كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَلَيْسَ عَلَيْهِ عُنْوَانٌ وَهُوَ مَخْتُومٌ بِخَاتَمِهِ فَشَهِدَتْ الشُّهُودُ أَنَّهُ كِتَابُهُ إلَيْهِ وَخَاتَمُهُ فَإِنَّهُ يَفْتَحُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى ظَهْرِهِ عُنْوَانٌ فِيهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا مَحْكُومًا أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا الْمَحَلَّانِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فِي مَعْنَى نَفْسَيْنِ فَكَمَا أَنَّهُ إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ فَأَصَابَ السِّكِّينُ يَدَ آخَرَ فَقَطَعَ يَدَهُ يَجِبُ الْأَرْشُ لِلثَّانِي، وَالْقِصَاصُ لِلْأَوَّلِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: هَذِهِ جِنَايَةٌ وَسِرَايَتُهَا.
وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ بِاعْتِبَارِ سِرَايَتِهَا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهَا كَمَا لَوْ قَطَعَ مَفْصِلًا فَشُلَّتْ الْأُصْبُعُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ السِّرَايَةَ أَثَرُ الْجِنَايَةِ، وَهُوَ مَعَ أَصْلِ الْجِنَايَةِ فِي حُكْمِ فِعْلٍ وَاحِدٍ، فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ سِرَايَتَانِ أَنَّ فِعْلَهُ أَثَّرَ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَالسِّرَايَةُ عِبَارَةٌ عَنْ آلَامٍ تَتَعَاقَبُ مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَى الْبَدَنِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُمَا كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي الطَّرَفِ مَعَ أَصْلِ النَّفْسِ إذَا مَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ بِخِلَافِ النَّفْسَيْنِ فَإِنَّ الْفِعْلَ فِي النَّفْسِ الثَّانِيَةِ مُبَاشَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ لَيْسَ بِسِرَايَةِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى إذْ لَا تُتَصَوَّرُ السِّرَايَةُ مِنْ نَفْسٍ إلَى نَفْسٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ فِعْلٍ عَلَى حِدَةٍ، وَهُوَ خَطَأٌ ثُمَّ يُعْتَبَرُ حُكْمُ كُلِّ فِعْلٍ بِنَفْسِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْفَعَةَ كُلِّ أُصْبُعٍ تَتَّصِلُ بِمَنْفَعَةِ الْأُخْرَى كَمَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَصَابِعِ تَتَّصِلُ بِمَنْفَعَةِ الْكَفِّ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْيَدَيْنِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ النَّفْسَيْنِ فَلَا اتِّصَالَ لِمَنْفَعَةِ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً عَمْدًا فَذَهَبَ مِنْ ذَلِكَ بَصَرُهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْمُوضِحَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْأَرْشُ فِيهِمَا وَنُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ فِي الْمُوضِحَةِ، وَالدِّيَةَ فِي الْبَصَرِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا بَيَّنَّا.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ إذْهَابَ الْبَصَرِ عَمْدًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ سِرَايَةَ الْفِعْلِ لَا تُخَالِفُ أَصْلَ الْفِعْلِ فِي الصِّفَةِ بِخِلَافِ الشَّلَلِ فَإِنَّ الشَّلَلَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا مِنْهُ عَمْدًا فَقُطِعَتْ أُصْبُعٌ أُخْرَى يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهَا أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا شُلَّتْ أُخْرَى؛ لِأَنَّ فِي تَفْوِيتِ أَصْلِ الْأُصْبُعَيْنِ عَمْدًا الْقِصَاصَ، وَالسِّرَايَةَ بِصِفَةِ أَصْلِ الْفِعْلِ، وَلَيْسَ فِي تَفْوِيتِ الْمَنْفَعَةِ بِالشَّلَلِ قِصَاصٌ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقَعُ الْفَرْقُ وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَصَارَتْ مُنَقِّلَةً أَوْ كَسَرَ بَعْضَ سِنِّهِ فَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ أَوْ قَطَعَ الْكَفَّ فَشُلَّ السَّاعِدُ فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ السِّرَايَةِ هَاهُنَا مُتَّصِلٌ بِمَحَلِّ الْجِنَايَةِ فَكَانَ الْفِعْلُ وَاحِدًا حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَبِاعْتِبَارِ مَا لَهُ يَتَعَذَّرُ إيجَابُ الْقِصَاصِ إذْ لَا قِصَاصَ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ وَسَوَادِ السِّنِّ، وَالشَّلَلِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْأَرْشُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَإِذَا شَجَّهُ مُنَقِّلَةً عَمْدًا، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ غُلِّظَ عَلَيْهِ فِي الْأَسْنَانِ فَجُعِلَ عَلَيْهِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فِي الْآمَّةِ وَغَيْرِهَا اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ فَإِنَّ صِفَةَ التَّغْلِيظِ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ الدِّيَةِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ فَثَبَتَ فِي أَبْعَاضِهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً وَجَبَ الْأَرْشُ أَخْمَاسًا اعْتِبَارًا بِالْكُلِّ إلَّا أَنَّ فِي الْعَمْدِ تَجِبُ فِي مَالِهِ، وَفِي الْخَطَأِ يَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إذَا بَلَغَ الْوَاجِبُ أَرْشَ الْمُوضِحَةِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ مِنْهَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَبِالْقِيَاسِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْجُزْءَ بِالْكُلِّ، وَاعْتَبَرَ ضَمَانَ إتْلَافِ النَّفْسِ بِضَمَانِ إتْلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي حَقِّ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا فَجَعَلْنَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَثَرِ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ خَطَأً مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ فَصَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ مِنْ الدِّيَةِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ؛ لِمَا فِي الصُّلْحِ عَلَى الزِّيَادَةِ مِنْ مَعْنَى الرِّبَا وَبِأَنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ لَا تَخْرُجُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَصْلًا فِي الدِّيَةِ فِي حَقِّهِ، وَعِنْدَ الصُّلْحِ عَلَى الدَّرَاهِمِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا عَيْنَا الدَّرَاهِمِ أَوَّلًا ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ رِبًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ فَصَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَحَدِ الْأَصْنَافِ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الصِّنْفُ الْوَاجِبُ مِنْهُ مُقَدَّرًا شَرْعًا، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ تَكُونُ رِبًا، فَأَمَّا فِي الْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْقَوَدِ إذَا أَوْقَعَ الصُّلْحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ الْوَاجِبَ فِي الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ، وَإِذَا اخْتَارَ الدِّيَةَ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ.
وَعِنْدَنَا الْوَاجِبُ هُوَ الْقَوَدُ لَا غَيْرُ فَالْمَالُ الَّذِي يَلْتَزِمُهُ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْقَوَدِ، وَلَا رِبَا بَيْنَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَبَيْنَ مَا هُوَ مَالٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ هَذَا الصُّلْحِ مَا رُوِيَ أَنَّ فَارِسًا مِنْ فُرْسَانِ الْمُسْلِمِينَ قَتَلَ رَجُلًا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ فَلَمَّا خَرَجَ لِيُقْتَلَ رَأَتْ الصَّحَابَةُ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجُوا وَصَالَحُوا أَوْلِيَاءَ الْقَتِيلِ عَلَى دِيَتَيْنِ دِيَةٍ يُعْطِيهَا الْقَاتِلُ وَدِيَةٍ يَتَبَرَّعُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَدَائِهَا فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ صَالَحَهُ فِي الْخَطَأِ أَوْ الْعَمْدِ عَلَى خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ جَازَ أَمَّا فِي الْعَمْدِ فَلَا يُشْكِلُ، وَفِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ الْوَاجِبِ.
وَلَوْ أَسْقَطَ الْكُلَّ بِالْعَفْوِ لَجَازَ، فَكَذَلِكَ إذَا أَسْقَطَ الْبَعْضَ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمِ، وَقَالَ: إنَّمَا صَالَحْتُك عَنْ الدِّيَةِ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ كَأَنَّهُمَا عَيَّنَا الدَّنَانِيرَ ثُمَّ أَسْقَطَ عَنْهُ النِّصْفَ وَرَضِيَ بِالنِّصْفِ وَيَكُون الْبَاقِي مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْأَجَلَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ أَمَّا إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْأَجَلَ فَلِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ إبْرَاءٌ عَنْ الْبَعْضِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِمَا بَقِيَ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْكُلُّ فِي الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ مُؤَجَّلٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَكَذَلِكَ إنْ شُرِطَ الْأَجَلُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُقَرِّرُ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَلَا يُقَالُ هَذَا فِي مَعْنَى نَسِيئَةٍ بِنَسِيئَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْمُبَادَلَةِ، وَلَا مُبَادَلَةَ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ إسْقَاطُ نِصْفِ الْوَاجِبِ فَقَطْ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالْإِبِلِ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْعُرُوضِ أَوْ الْحَيَوَانِ بِعَيْنِهِ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا فَرَضَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ كَانَ جَائِزًا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ أَضْعَافًا وَيَأْخُذُهُ حَالًّا؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِبْدَالٌ بِدَيْنٍ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَبِيعِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا وَبِنَفْسِ الِاسْتِبْدَالِ يَمْلِكُهُ عَيْنًا، وَالْأَجَلُ فِي الْعَيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ أَوْ الذَّهَبِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى عَيْنٍ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ جَازَ، وَإِنْ جَعَلَ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ أَجَلًا بِأَنْ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَمَّا قَضَى عَلَيْهِ بِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ، فَيَكُونُ هَذَا شِرَاءَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَذَلِكَ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ إنْ قَضَى عَلَيْهِ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ بِعَيْنِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ يَجُوزُ بَعْدَ أَنْ يَقْبِضَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ مُؤَجَّلَةٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ، وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً، وَادَّعَى وَلِيُّهُ الْعَمْدَ فَلَهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ لَهُ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْوَلِيَّ ادَّعَى عَلَيْهِ الْقَوَدَ وَهُوَ مُنْكِرٌ، وَهُوَ أَقَرَّ لَهُ بِالْمَالِ، وَقَدْ كَذَّبَهُ الْوَلِيُّ فِي ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْعَمْدِ وَادَّعَى الْوَلِيُّ الْخَطَأَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَلِيَّ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ الْقَاتِلُ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى دَعْوَاهُ بِأَنْ يَقُولَ حَقِّي فِي الْقِصَاصِ، وَلَكِنَّهُ طَلَبَ مِنِّي أَنْ آخُذَ الْمَالَ عِوَضًا عَنْ الْقِصَاصِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا صَارَ مُكَذِّبًا لَهُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْخَطَأَ، وَأَقَرَّ الْقَاتِلُ بِالْعَمْدِ فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ يَجْحَدُ مُوجِبَ ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقِصَاصَ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ عِوَضٌ عَنْ الْمَالِ.
يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْوَلِيَّ حِينَ ادَّعَى الْعَمْدَ فَقَدْ ادَّعَى أَصْلَ الْقَتْلِ، وَالصِّفَةَ، وَالْمُقِرُّ بِالْخَطَأِ صَدَّقَهُ فِيمَا ادَّعَى مِنْ أَصْلِ الْقَتْلِ وَجَحَدَ مَا ادَّعَى مِنْ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ فَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ فِي أَصْلِ الْقَتْلِ بَعْدَ مَا كَذَّبَهُ فِي الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْأَصْلِ الَّذِي صَدَّقَهُ فِيهِ يُخَالِفُ مُوجِبَ الْأَصْلِ بِالصِّفَةِ الَّتِي كَذَّبَهُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِمَّا يَجِبُ فِي الْعَمْدِ مِنْهُ الْقِصَاصُ، وَإِذَا قَتَلَ النَّائِمُ إنْسَانًا بِأَنْ سَقَطَ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ بِيَدِهِ شَيْءٌ فَضَرَبَهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ قَالَ: وَهَذَا خَطَأٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ دُونَ الْخَطَأِ حَقِيقَةً فَإِنَّ النَّائِمَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَصْدِ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ وَجَعَلَهُ مَحْرُومًا مِنْ الْمِيرَاثِ؛ لِتَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ تَنَاوَمَ، وَلَمْ يَكُنْ نَائِمًا حَقِيقَةً، وَهَذَا مُعْتَبَرٌ فِي حِرْمَانِ الْإِرْثِ، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلِتَرْكِهِ التَّحَرُّزَ فِي مَوْضِعٍ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَصِيرَ قَاتِلًا لِإِنْسَانٍ فِي نَوْمِهِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَأِ إنَّمَا وَجَبَتْ لِتَرْكِ التَّحَرُّزِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.