فصل: كتاب الوصايا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كتاب الوصايا:

(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اعْلَمْ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مَرْغُوبٌ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَا وَاجِبٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا يَرِثُونَهُ فَرْضٌ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ لَمْ يَرِثُوهُ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ- تَعَالَى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وَالْمَكْتُوبُ عَلَيْنَا يَكُونُ فَرْضًا، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ يُرِيدُ الْوَصِيَّةَ فِيهِ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ»، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ لَنَا لَا عَلَيْنَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ فَضَعُوهُ حَيْثُ شِئْتُمْ أَوْ قَالَ حَيْثُ أَحْبَبْتُمْ»، وَالْمَشْرُوعُ لَنَا مَا لَا يَكُونُ فَرْضًا وَلَا وَاجِبًا عَلَيْنَا بَلْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ النَّوَافِلِ مِنْ الْعِبَادَاتِ ثُمَّ التَّبَرُّعُ بَعْدَ الْوَفَاءِ مُعْتَبَرٌ بِالتَّبَرُّعِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَذَلِكَ إحْسَانٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ التَّبَرُّعُ بِالْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ اتَّفَقَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ آيَةُ الْمَوَارِيثِ ثُمَّ اُنْتُسِخَ، وَتَكَلَّمُوا فِي نَاسِخِهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: إنَّمَا اُنْتُسِخَ بِقَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى الْمِيرَاثِ بَعْدَ وَصِيَّةٍ مُنَكَّرَةٍ فَلَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ثَابِتَةً بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَذَكَرَ الْإِرْثَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ الْمُعَرَّفَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ وَصِيَّةٌ مَعْهُودَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَالرَّازِيُّ كَانَ لَا يُجَوِّزُ نَسْخَ الْكِتَابِ إلَّا بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ إنَّمَا انْتَسَخَ هَذَا الْحُكْمُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَنَسْخُ الْكِتَابِ جَائِزٌ بِمِثْلِهِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ مَا تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ كَالْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ لَا تَعْمَلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ حُكْمَهَا مَنْسُوخٌ لَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِهَا وَلِأَجْلِ شُهْرَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بَدَأَ الْكِتَابَ بِهِ وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَةِ قَالَ: «إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ»، وَفِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ بَيَانٌ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْجَوَازِ لَا نَفْيُ التَّحْقِيقِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ نَفْيِ الْجَوَازِ نَفْيُ الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ، وَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ بِالطَّرِيقِ الَّذِي رَوَاهُ وَلَكِنَّ الْمَرَاسِيلَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا كَالْمَسَانِيدِ أَوْ أَقْوَى مِنْ الْمَسَانِيدِ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ إذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ وَاحِدٍ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ اسْمِهِ فَيَرْوِيه مُسْنَدًا وَإِذَا سَمِعَهُ مِنْ جَمَاعَةٍ يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ الرِّوَايَةِ فَيُرْسِلُ الْحَدِيثَ فَكَانَ الْإِرْسَالُ مِنْ الرَّاوِي الْمَعْرُوفِ دَلِيلَ شُهْرَةِ الْحَدِيثِ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ فَهُوَ شَاذٌّ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَالْوُجُوبُ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ ابْتِدَاءً قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ أَوْ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَبِيتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ طَاوٍ إلَى جَنْبِهِ»، وَالْمُرَادُ مَا بَيَّنَّا.
ثُمَّ الْوَصِيَّةُ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ مِنْ الْمَالِ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الدَّيْنِ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْدَأُ بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ»، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَهَذَا مِنْهُمَا إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْآيَةِ، ثُمَّ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِ الْمَرْءِ؛ لِأَنَّهُ تَفْرُغُ بِهِ ذِمَّتُهُ وَالْوَصِيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ وَحَاجَتُهُ مُقَدَّمَةٌ فِي تَرِكَتِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُقَدَّمُ جِهَازُهُ وَكَفَنُهُ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ قَضَاءُ الدَّيْنِ، ثُمَّ زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الدَّيْنِ تُقَدَّمُ عَلَى الْمِيرَاثِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَأَكْثَرُهُمْ قَالُوا التَّقْدِيمُ لَا يَظْهَرُ فِي الْوَصِيَّةِ بَلْ الْوَارِثُ يَسْتَحِقُّ الثُّلُثَيْنِ إرْثًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى لَهُ الثُّلُثَ بِالْوَصِيَّةِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ تَقْدِيمُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْمِيرَاثِ فِي الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلْإِرْثِ إذَا لَمْ يُوصِ فِيهِ بِشَيْءٍ، فَإِذَا أَقْضَى كَانَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْمِيرَاثِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ النَّافِذَةِ شَرْعًا ثُلُثُ الْمَالِ مَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ: سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ، فَقَالَ لَا قَالَ فَبِنِصْفِهِ قَالَ لَا قَالَ فَبِثُلُثِهِ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّك إنْ تَدَعْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ فُقَرَاءَ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»، وَفِي رِوَايَةٍ: يَتَكَفْكَفُونَ، وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرِضَ بِمَكَّةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْلُفُ عَنْ دَارِ الْهِجْرَةِ فَأَمُوتُ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: إنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ يُبْقِيَك اللَّهُ يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ لَكِنَّ الْبَائِسَ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ يُرْثَى لَهُ إنْ مَاتَ بِمَكَّةَ»، قِيلَ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إشَارَةٌ إلَى مَا جَرَى مِنْ الْفُتُوحِ عَلَى يَدِ سَعْدٍ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: «يَا رَسُولَ إنِّي لَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ»، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَمَّ الْمُعْتَدِينَ فِي الْوَصِيَّةِ وَالتَّعَدِّي فِي الْوَصِيَّةِ مُجَاوَزَةُ حَدِّهَا قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ»، وَالْحَيْفُ هُوَ الظُّلْمُ وَالْمَيْلُ وَذَلِكَ بِمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ الْمَحْدُودِ شَرْعًا بِأَنْ يُوصِيَ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ أَوْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ عَلَى الْإِضْرَارِ بِوَرَثَتِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ: «إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ»، ثُمَّ بَيَّنَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: «إنَّك إنْ تَدَعْ عِيَالَك أَغْنِيَاءَ»، مَعْنَاهُ وَرَثَتُك أَقْرَبُ إلَيْك مِنْ الْأَجَانِبِ فَتَرْكُ الْمَالِ خَيْرٌ لَك مِنْ الْوَصِيَّةِ فِيهِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ التَّعْلِيلَ فِي الْوَصِيَّةِ أَفْضَلُ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَقَالَ: لَأَنْ يُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِالرُّبُعِ وَلَأَنْ يُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ وَزَادَ وَقَالَ: مَنْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ فَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا يَعْنِي لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا جَعَلَ لَهُ الشَّرْعُ حَقَّ الْوَصِيَّةِ فِيهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَلِيلَ فِي الْوَصِيَّةِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْعَدَ وَحْشَةَ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّهُ إذَا أَوْصَى بِجَمِيعِ الثُّلُثِ قَالَ الْوَارِثُ لَا مِنَّةَ لَهُ عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَا تَرَكَ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا لِعَجْزِهِ عَنْ تَنْفِيذِهِ شَرْعًا وَحَقُّ الْوَارِثِ ثَبَتَ فِي مَالِهِ شَرْعًا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الْعَيْشَ وَتَخْشَى الْفَقْرَ حَتَّى إذَا بَلَغَ هَذَا- وَأَشَارَ إلَى التَّرَاقِي- قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا كَانَ ذَلِكَ» وَإِنْ لَمْ يَقُلْ، وَإِنَّمَا تَحِلُّ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ شَرْعًا لِمَنْ يَتْرُكُ مَالًا كَثِيرًا يَسْتَغْنِي وَرَثَتُهُ بِثُلُثِهِ إمَّا لِكَثْرَةِ الْمَالِ أَوْ لِقِلَّةِ الْوَرَثَةِ هَكَذَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا اسْتَأْذَنَهُ رَجُلٌ فِي الْوَصِيَّةِ لِمَنْ يَتْرُكُ خَيْرًا يُرِيدُ قَوْله تَعَالَى: {إنْ تَرَكَ خَيْرًا}، ثُمَّ يَسْتَدِلُّ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ: «الْغَنِيَّ الشَّاكِرَ أَفْضَلُ مِنْ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ»، فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدَّمَ صِفَةَ الْغِنَى لِوَرَثَةِ سَعْدٍ، فَقَالَ «إنَّك إنْ تَدَعْ عِيَالَك أَغْنِيَاءَ»، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدَّمَ صِفَةَ الْغِنَى لَهُمْ وَاخْتَارَ الْفَقْرَ لِنَفْسِهِ وَالْأَفْضَلُ مَا اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ إنَّمَا قَدَّمَ الْغَنِيَّ عَلَى الْفَقِيرِ الَّذِي يَسْأَلُ كَمَا قَالَ: «مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ فُقَرَاءَ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»، أَيْ يُلِحُّونَ فِي السُّؤَالِ وَنَحْنُ إنَّمَا نُقَدِّمُ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ دُونَ الَّذِي يَسْأَلُ كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ- تَعَالَى-: «يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا»، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَقْرَ مَعَ الصَّبْرِ أَسْلَمُ لِلْمَرْءِ وَأَزْيَنُ لِلْمُؤْمِنِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْفَقْرُ أَزْيَنُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْعَذَارِ الْجَيِّدِ عَلَى جِلْدِ الْفَرَسِ».
فَأَمَّا الْغِنَى فَسَبَبٌ لِلطُّغْيَانِ وَالْفِتْنَةِ قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {كَلًّا إنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} وَرُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوْصَى إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْصَى إلَى الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ لِلْمَرْءِ أَنْ يُوصِيَ إلَى غَيْرِهِ فِي الْقِيَامِ بِحَوَائِجِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ نَظَرِ الشَّرْعِ لَهُ أَيْضًا فَقَدْ يُفَرِّطُ فِي بَعْضِ حَوَائِجِهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ تَخْتَرِمُهُ الْمَنِيَّةُ فَيَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْقِيَامِ بِحَوَائِجِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْإِيصَاءُ إلَى الْغَيْرِ كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ وَأَوْصَى إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَوَائِجِهِ وَعُمَرُ أَوْصَى إلَى حَفْصَةَ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَوْصَى إلَى أَحَدٍ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يُوصِ إلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ إنَّمَا: «أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ»، وَبِهِ اسْتَدَلُّوا عَلَى خِلَافَتِهِ، فَقَالُوا مَا اخْتَارَهُ لِأَمْرِ دِينِنَا إلَّا وَهُوَ يَرْضَى بِهِ لِأَمْرِ دُنْيَانَا.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُوصِيَ إلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ إذَا كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ كَمَا أَوْصَى عَلِيٌّ إلَى وَلَدِهِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَوْصَى حَمْزَةُ إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ»، وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ إنْسَانٍ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ، فَقَالَ هُوَ السُّدُسُ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ مُطْلَقُ لَفْظِ السَّهْمِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ يَنْصَرِفُ إلَى السُّدُسِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالُوا السَّهْمُ السُّدُسُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ مِثْلُ أَخَسِّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ وَرُوِيَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ عَنْ شُرَيْحٍ؛ لِأَنَّ مَالَهُ يَصِيرُ سِهَامًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَذِكْرُ السَّهْمِ يَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ وَأَخَسُّ السِّهَامِ مُتَيَقَّنٌ فِيهِ إلَّا أَنْ يُجَاوِزَ السَّهْمُ فَحِينَئِذٍ لَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ هَذَا إنْ لَوْ ذَكَرَ السَّهْمَ مُعَرَّفًا، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُنَكَّرًا بِقَوْلِهِ أَوْصَيْت لَكُمْ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِي فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا فَسَّرَ أَهْلُ اللُّغَةِ السَّهْمَ بِهِ وَبَيَانُ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ.
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِوَصِيَّتَيْنِ فَالْأَخِيرَةُ مِنْهُمَا أَمْلَكُ وَبِظَاهِرِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، فَقَالَ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ بِالثُّلُثِ أَوْ بِالْعِتْقِ لِلَّذِي أَوْصَى بِهِ لِغَيْرِهِ يَكُونُ دَلِيلَ الرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ وَصِيَّتَانِ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ بِأَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِ عَبْدِهِ مِنْ إنْسَانٍ، ثُمَّ يُوصِيَ بِعِتْقِهِ أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَإِنَّ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ مُنَافَاةٌ فَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا دَلِيلُ الرُّجُوعِ عَنْ الْأُولَى، فَأَمَّا إذَا أَوْصَى إلَى إنْسَانٍ بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ أَوْصَى لِآخَرَ بِذَلِكَ الْعَبْدِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي الْمَحَلِّ وَمُرَادُهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ لِأَحَدِهِمَا إنْ لَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ الْوَصِيَّةَ أَوْ لَمْ يَبْقَ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا إنْ قَبِلَا جَمِيعًا الْوَصِيَّةَ فَلَا تَكُونُ الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا دَلِيلَ الرُّجُوعِ عَنْ الْأُولَى، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُوصَى لَهُ الْأَوَّلُ التَّرْجِيحَ بِالسَّبْقِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُزَاحِمَ الْمُوصَى لَهُ الثَّانِيَةَ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يَمُوتُ وَلَمْ يَحُجَّ قَالَ إنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَمِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَلَا شَيْءَ وَبِهَذَا نَأْخُذُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ فَنَقُولُ فِيمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ- تَعَالَى- خَالِصًا كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ لَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ وَلَكِنَّهُ يَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ إنْ أَوْصَى بِهِ كَمَا يَنْفُذُ بِسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ فَهُوَ يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ مُؤَاخَذًا فِي الْآخِرَةِ بِالتَّفْرِيطِ فِي أَدَاءً بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَصِيرُ ذَلِكَ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ وَالزَّكَاةِ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يُوصِي بِثُلُثِ مَالِهِ يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ أَوْ يُعْتَقُ بِهِ رَقَبَةٌ فَلَمْ تَتِمَّ الْحَجَّةُ وَلَا الرَّقَبَةُ قَالَ يُتَصَدَّقُ عَنْهُ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا، فَإِنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ تَجِبُ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ التَّبْدِيلِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ قَالَ- تَعَالَى-: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} الْآيَةَ، وَإِنَّمَا يُحَجُّ بِثُلُثِهِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ لِقِلَّتِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَجَّ بِهِ عَنْهُ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ مَقْصُودَ الْمُوصِي التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ- تَعَالَى- بِثُلُثِ مَالِهِ وَنَيْلُ الثَّوَابِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ فِي التَّصَدُّقِ بِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ اعْتِبَارُ التَّعْبِيرِ فِي أَلْفَاظِ الشَّرْعِ يَجِبُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ حِكْمَةٍ حَمِيدَةٍ، فَأَمَّا فِي أَوَامِرِ الْعِبَادِ فَيُعْتَبَرُ اللَّفْظُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِلسُّنَّةِ فَطَلَّقَهَا بِغَيْرِ السُّنَّةِ لَمْ يَقَعْ؟ وَالشَّرْعُ أَمَرَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ لِلسُّنَّةِ، وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لِغَيْرِ السُّنَّةِ كَانَ طَلَاقُهُ وَاقِعًا.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلنَّصْرَانِيِّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ لِلْمُسْلِمِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثُّلُثِ وَهَكَذَا عَنْ شُرَيْحٍ وَبِهِ نَأْخُذُ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِعَقْدِ مُبَاشَرَةٍ فَيُعْتَبَرُ بِالتَّبَرُّعِ فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَأْسَ بِعَقْدِ الْهِبَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ} إلَى قَوْلِهِ: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ}، وَإِنْ أَرَادَ بِهَذَا بَيَانَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، فَإِنَّ الْإِرْثَ لَا يَجْرِي مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ طَرِيقُهُ طَرِيقُ الْوِلَايَةِ وَالْخِلَافَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَبْقَى لِلْوَارِثِ الْمَالُ الَّذِي كَانَ لِلْمُوَرِّثِ وَاخْتِلَافُ الدِّينِ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ، فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَتَمْلِيكٌ بِعَقْدٍ مُبْتَدَأٍ وَلِهَذَا لَا يَرُدُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ وَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُوصِي بِخِلَافِ الْوَارِثِ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يَسْتَأْذِنُ وَرَثَتَهُ فِي الْوَصِيَّةِ فَيَأْذَنُونَ لَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ بَعْدَ مَوْتِهِ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ إنْ شَاءُوا رَجَعُوا وَبِهِ نَأْخُذُ، فَإِنَّ الْإِجَازَةَ مِنْ الْوَرَثَةِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ أَوْ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ إجَازَتُهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَأَمَّا فِي حَيَاتِهِ فَلَا تُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ التَّمْلِيكِ مِنْهُمْ أَوْ بِمَنْزِلَةِ إسْقَاطِ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَتَمْلِيكُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكُوا أَوْ إسْقَاطُهُمْ لِحَقِّهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَقَرَّرَ وُجُوبُ الْحَقِّ لَهُمْ يَكُونُ لَغْوًا، ثُمَّ إجَازَتُهُمْ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ لَا تَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُمْ بِهَذَا بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَارِهُونَ لَهُ إلَّا أَنَّهُمْ احْتَشَمُوا الْمُوَرِّثَ فَلَمْ يُجَاهِرُوهُ بِالْإِبَاءِ فَلَوْ لَزِمَهُمْ حُكْمُ الْإِجَازَةِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ تَضَرَّرُوا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِجَازَتُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُمْ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِغَيْرِ وَارِثٍ بِدَيْنٍ أَوْ أَقَرَّ بِهِ قَالَ هُوَ جَائِزٌ وَلَوْ أَحَاطَ بِمَالِهِ وَمُرَادُهُ الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ لَا الْوَصِيَّةُ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ وَصِيَّةً لِذِكْرِهِ إيَّاهُ فِيمَا بَيْنَ الْوَصَايَا، وَفِي مَوْضِعِ الْوَصِيَّةِ وَبِهَذَا نَأْخُذُ فَنَقُولُ الْإِقْرَارُ لِغَيْرِ الْوَارِثِ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَحَاطَ بِمَالِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ ثَلَاثُ بَنِينَ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ قَالَ لَهُ الرُّبُعُ وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ غَيْرُهُ فَهُوَ جَعَلَ نَصِيبَ أَحَدِ الْبَنِينَ مِعْيَارًا لِمَا أَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ فِيهِ وَجَعَلَ وَصِيَّتَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ يَصِيرُ الْمُوصَى لَهُ بِالْإِيجَابِ كَابْنٍ آخَرَ لَهُ مَعَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ فَلَهُ الرُّبُعُ أَوْ يُقَالَ يُنْظَرُ فِي نَصِيبِ أَحَدِ الْبَنِينَ فَيُزَادُ عَلَى أَصْلِ السِّهَامِ مِثْلُ ذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ وَالْمَالُ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِكُلِّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَهْمٌ، فَإِذَا زِدْنَا لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمًا عَلَى الثَّلَاثَةِ كَانَتْ السِّهَامُ أَرْبَعَةً، ثُمَّ نُعْطِيه ذَلِكَ السَّهْمَ فَيَكُونُ لَهُ الرُّبُعُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الثُّلُثَ بِهَذَا الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِينَئِذٍ يُنَفِّذُ الْوَصِيَّةَ لَهُ فِي نَصِيبِ أَحَدِ الْبَنِينَ لَا فِي مِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَهُوَ إنَّمَا أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ قَالَا فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلَيْنِ بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ فَرَدُّوا إلَى الثُّلُثِ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ اثْنَانِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ.
وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ تَبْطُلُ فِي حَقِّ الضَّرْبِ بِهَا فِي ثُلُثٍ، وَبَيَانُهُ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ فَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ أَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِنِصْفِ مَالِهِ فَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَعِنْدَهُمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا عَلَى أَنْ يَضْرِبَ الْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ بِالثُّلُثِ فِي سِهَامِ جَمِيعِ الْمَالِ الثَّلَاثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى أَنْ يَضْرِبَ الْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ بِسَهْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ بِسَهْمٍ فَهُمَا يَقُولَانِ: مَا يُوجِبُهُ الْمُوصِي بَعْدَ مَوْتِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ- تَعَالَى- مِنْ السِّهَامِ لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَاَللَّهُ- تَعَالَى- أَوْجَبَ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثَ فَكَانَ مُوجَبُ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا أُوجِبَ لَهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَالضَّرْبِ بِجَمِيعِ مَا سُمِّيَ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ فِي مَحَلِّ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَة فَكَذَلِكَ فِيمَا أَوْجَبَ الْمُوصِي.
الْمَقْصُودُ اسْتِحْقَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَا أَوْجَبَهُ لَهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُوصِيَ قَصَدَ سَلَامَةَ مَا سُمِّيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ وَتَفْضِيلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَفِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَفِي حُكْمِ الْآخَرِ مَا تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ كَمَا لَوْ قَالَ أَوْصَيْت بِهَذِهِ الْأَلْفِ لِفُلَانٍ مِنْهَا بِسِتِّمِائَةٍ وَلِفُلَانٍ مِنْهَا بِسَبْعِمِائَةٍ تُعْتَبَرُ تَسْمِيَتُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَفِي الْقَدْرِ الَّذِي سُمِّيَ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الْمُسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِضِيقِ الْمَحِلِّ، ثُمَّ وَصِيَّتُهُ بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ يَنْصَرِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ فِي جَمِيعِ مَالِهِ، وَفِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ تَنْفُذُ وَصِيَّةُ أَحَدِهِمَا بِجَمِيعِ الثُّلُثِ الَّذِي لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ وَجَعَلَ الزِّيَادَةَ فِيمَا أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْآخَرِ خَاصَّةً حَتَّى يَبْطُلَ بِعَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَذَلِكَ خِلَافُ مَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِسُدُسِ مَالِهِ وَلِأَحَدِهِمَا بِالثُّلُثِ وَلِلْآخَرِ بِالرُّبُعِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَضْرِبَ بِجَمِيعِ مَا أَوْصَى بِهِ لَهُ فِي الثُّلُثِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلِلْآخَرِ بِأَلْفَيْنِ وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفٌ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ مَا سُمِّيَ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَعَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفٌ أَوْ بَاعَ مِنْ إنْسَانٍ عَبْدًا وَحَابَاهُ بِأَلْفٍ وَبَاعَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَحَابَاهُ بِأَلْفَيْنِ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ مَا حَبَاهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ مَفْسُوخَةٌ بِتَغْيِيرِ الْوَصِيَّةِ الْمَفْسُوخَةِ كَالْمَرْجُوعِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ بِهَا كَالْوَصِيَّةِ بِمَالِ الْجَارِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَتَنْفَسِخُ بِرَدِّهِمْ كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ يَنْفَسِخُ بِرَدِّهِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ حَقَّ الضَّرْبِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْإِيجَابِ، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِالِانْفِسَاخِ فَلَا مَعْنَى لِلضَّرْبِ بِهِ فِي مُزَاحَمَةِ وَصِيَّةِ الْإِيجَابِ فِيهَا صَحِيحٌ، وَلِهَذَا فَارَقَ الْمَوَارِيثَ، فَإِنَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ- تَعَالَى- لِكُلِّ وَارِثٍ صَحِيحٌ قَطْعًا وَيَقِينًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْمُضَارَبَةُ بِهَا عِنْدَ ضِيقِ الْمَحَلِّ لِعِلْمِنَا أَنَّ الْمَالَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ لَهُ نِصْفَانِ وَثُلُثٌ وَبِهِ فَارَقَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ وَالسُّدُسِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيجَابٌ صَحِيحٌ لَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّ الْوَارِثِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيجَابٌ بِتَسْمِيَةٍ يُوجَدُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ الثُّلُث، فَأَمَّا هَذَا فَإِيجَابٌ بِتَسْمِيَةٍ لَا تُوجَدُ تِلْكَ التَّسْمِيَةُ إلَّا فِيمَا هُوَ حَقُّ الْوَرَثَةِ فَيَبْطُلُ بِرَدِّهِمْ الْإِيجَابَ فِيمَا يَتَنَاوَلُ حَقَّهُمْ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ، فَإِنَّهَا مَا وَقَعَتْ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ فِي أَعْيَانِ التَّرِكَةِ دُونَ الْأَلْفِ الْمُرْسَلَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ تَنْفِيذُ جَمِيعِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا سَمَّى الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ يَكْثُرَ مَالُ الْمُوَرِّثِ فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ السِّعَايَةِ وَالسِّعَايَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُلُوفِ الْمُرْسَلَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ يَكْثُرَ مَالُ الْمَيِّتِ.
وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحَابَاةِ فَالْوَصِيَّةُ بِالْمُحَابَاةِ تَكُونُ مِنْ الثَّمَنِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْمُرْسَلِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ تَنْفِيذُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْمَالِ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ لِإِنْسَانٍ قِيمَتَهُ أَلْفٌ وَبِعَبْدٍ آخَرَ بِعَيْنِهِ لِإِنْسَانٍ قِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا وَهُنَا يُتَصَوَّرُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ مَا سُمِّيَ لَهُ بِغَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ يَكْثُرَ مَالُ الْمَيِّتِ فَيَخْرُجَ الْعَبْدَانِ مِنْ الثُّلُثِ قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنَّ وَصِيَّتَهُمَا بِعَيْنِ التَّرِكَةِ حَقُّ الْوَرَثَةِ فَكَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ وَاقِعَةً فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ مِلْكِهِ فِي الْعَيْنِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْأَلْفِ الْمُرْسَلَةِ، فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ مَالٌ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَصِيَّةٌ ضَعِيفَةٌ حَتَّى لَا يَجِبَ تَنْفِيذُهَا إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَالْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ وَصِيَّةٌ قَوِيَّةٌ، وَلَا مُزَاحَمَةَ بَيْنَ الضَّعِيفِ وَالْقَوِيِّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَلَكِنَّ الضَّعِيفَ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ كَالْمَعْدُومِ، بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ مَعَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْمُزَاحَمَةَ بَيْنَهُمَا وَالْمُضَارَبَةَ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَبِهِ فَارَقَ الْمَوَارِيثَ، فَقَدْ اسْتَوَتْ السِّهَامُ فِي الْقُوَّةِ، وَكَذَلِكَ الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ، فَقَدْ اسْتَوَتْ فِي الْقُوَّةِ لِمُصَادَفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ التَّرِكَةُ إذَا كَانَتْ أَلْفًا، وَفِيهَا دَيْنٌ أَلْفٌ وَدَيْنٌ أَلْفَانِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَيْنِ اسْتَوَيَا فِي الْقُوَّةِ، وَكَذَلِكَ الْوَصَايَا فِي الْأُلُوفِ الْمُرْسَلَةِ وَالْعِتْقِ وَالْمُحَابَاةِ، فَإِنَّهَا اسْتَوَتْ فِي الْقُوَّةِ حِينَ لَمْ تَصِحَّ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقَوْلُ الْمُوصِي قَصْدٌ تَبَيَّنَ فَلَنَا التَّفْصِيلُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْإِيجَابِ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِالرَّدِّ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي فَلَا يُزَاحِمُ الْقَوِيَّ وَبِهِ فَارَقَ مَسْأَلَةَ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا يَعْقُبُهُ تَفْسِيرٌ، وَهُوَ مَا سُمِّيَ مِنْ السِّتِّمِائَةِ لِأَحَدِهِمَا وَالسَّبْعِمِائَةِ لِلْآخَرِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ اسْتِوَاءَ الْإِيجَابِ فِي الْقُوَّةِ وَمَا قَالُوا إنَّ الْإِيجَابَ يَنْصَرِفُ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ هَاهُنَا فَاسِدٌ، فَإِنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِابْنِهِ اسْتَحَقَّ الْمُوصَى لَهُ جَمِيعَ الثُّلُثِ وَلَوْ انْصَرَفَ الْإِيجَابُ إلَى ثُلُثٍ شَائِعٍ فِي جَمِيعِ الْمَالِ صَارَ لَهُ ثُلُثُ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ صَادَفَ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ وَحَيْثُ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الثُّلُثِ عَرَفْنَا أَنَّ تَسْمِيَةَ الثُّلُثِ مُطْلَقًا تَنْفِيذُ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ لِتَصْحِيحِ إيجَابِهِ فِي جَمِيعِهِ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نِصْفًا مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ الْبَيْعُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً، فَهَذَا مِثْلُهُ.
وَعَنْ أَبِي عَاصِمٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ سَأَلَنِي إبْرَاهِيمُ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى بِنِصْفِ مَالِهِ وَثُلُثِهِ وَرُبُعِهِ فَأَجَازُوا قُلْت لَا عِلْمَ لِي بِهَا قَالَ لِي خُذْ مَالًا لَهُ نِصْفٌ وَثُلُثٌ وَرُبُعٌ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَخُذْ نِصْفَهَا سِتَّةً وَثُلُثَهَا أَرْبَعَةً وَرُبُعَهَا ثَلَاثَةً فَاقْسِمْ الْمَالَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى اخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ تُدْعَى الثَّقَفِيَّةَ وَرُبَّمَا يُمْتَحَنُ مَنْ يَدَّعِي التَّحَرُّزَ فِي الْمُقَدَّرَاتِ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَأَمَّا تَخْرِيجُ قَوْلِهِمَا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عِنْدَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ فَالْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ يَضْرِبُ بِنِصْفِ الْمَالِ سِتَّةً مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ يَضْرِبُ بِأَرْبَعَةٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ يَضْرِبُ بِثَلَاثَةٍ فَمَبْلَغُ هَذِهِ السِّهَامِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَحِينَئِذٍ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ يُقْسَمُ جَمِيعُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَقِسْمَةُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فَخَرَّجَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَهُ عَلَى طَرِيقٍ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى طَرِيقٍ آخَرَ وَالْحَسَنُ عَلَى طَرِيقٍ آخَرَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَوَى طَرِيقَهُ عَنْهُ.
وَطَرِيقُ الْحَسَنِ أَوْجَهُ، فَأَمَّا طَرِيقُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ فَضَلَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ بِسَهْمَيْنِ؛ لِأَنَّ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ سَهْمَانِ وَلَا مُنَازَعَةَ فِي هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَيَأْخُذُهُمَا صَاحِبُ النِّصْفِ، ثُمَّ لَا مُنَازَعَةَ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ فِيمَا زَادَ عَلَى الرُّبُعِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ، وَهُوَ سَهْمٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي ذَلِكَ، وَفِي الْمَالِ سِعَةٌ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمًا فَفِي ثَمَانِيَةٍ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِيهَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَانْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَيُضْرَبُ أَصْلُ الْمَالِ اثْنَا عَشَرَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ صَاحِبُ النِّصْفِ أَخَذَ مَرَّةً سَهْمَيْنِ وَمَرَّةً سَهْمًا، وَقَدْ ضُرِبَ ذَلِكَ فِي الثَّلَاثَةِ وَهِيَ تِسْعَةٌ.
وَصَاحِبُ الثُّلُثِ أَخَذَ سَهْمًا وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَالْبَاقِي أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ بَيْنَهُمْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ فَحَصَلَ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَمَانِيَةٌ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَحَدَ عَشَرَ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ سَبْعَةَ عَشَرَ.
وَأَمَّا تَخْرِيجُ مُحَمَّدٍ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَالَ لَمَّا أَخَذَ صَاحِبُ النِّصْفِ سَهْمَيْنِ بِلَا مُنَازَعَةَ تَرَاجَعَ حَقُّهُ إلَى الثُّلُثِ فَوَصَايَاهُمْ جَمِيعًا بَعْدَ ذَلِكَ اجْتَمَعَتْ فِي الثُّلُثِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصَايَا مَتَى وَقَعَتْ فِي الثُّلُثِ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ أَرْبَابِهَا عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ النِّصْفِ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِأَرْبَعَةٍ أَيْضًا وَصَاحِبُ الرُّبُعِ بِثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ أَصْلَ الْمَالِ اثْنَيْ عَشَرَ فِي إحْدَى عَشَرَ فَيَكُونُ مِائَةً وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ كَانَ قَدْ أَخَذَ صَاحِبُ النِّصْفِ سَهْمَيْنِ وَضَرَبْنَا سَهْمًا فِي أَحَدَ عَشَرَ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مِائَةٌ وَعَشَرَةٌ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُونَ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعُونَ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ كَذَلِكَ فَجُمْلَةُ مَا حَصَلَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ اثْنَانِ وَسِتُّونَ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعُونَ وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثُونَ.
فَأَمَّا تَخْرِيجُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ لِقَوْلِهِ فَهُوَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ هَاهُنَا وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ فِي الثُّلُثِ وَوَصِيَّةٌ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى الْقِسْمَةَ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فِي الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ وَالْقِسْمَةَ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فِي الْوَصَايَا فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَيَعْتَبِرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَبْدَأُ بِقِسْمَةِ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ تَكُونُ عَنْ مُوَافَقَةٍ فَهُوَ أَقْوَى مِمَّا يَنْبَنِي عَلَى الْمُنَازَعَةِ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي مَحَلِّهَا أَقْوَى مِمَّا إذَا جَاوَزَتْ مَحَلَّهَا فَنَقُولُ: يَضْرِبُ صَاحِبُ النِّصْفِ فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِمِثْلِهِ وَصَاحِبُ الرُّبُعِ بَيْنَهُمْ فَيُضْرَبُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ فَيَكُونُ جَمِيعُ الْمَالِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى الْقِسْمَةِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فَنَقُولُ صَاحِبُ النِّصْفِ حَقُّهُ فِي النِّصْفِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بَقِيَ لَهُ مِنْ حَقِّهِ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ كَانَ حَقُّهُ فِي أَحَدَ عَشَرَ وَصَلَ إلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بَقِيَ لَهُ سَبْعَةٌ فَمَا زَادَ عَلَى سَبْعَةٍ إلَى تَمَامِ اثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ فَيَأْخُذُهُ صَاحِبُ النِّصْفِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ، ثُمَّ صَاحِبُ الرُّبُعِ كَانَ حَقُّهُ فِي الرُّبُعِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَرُبُعٌ وَصَلَ إلَيْهِ ثَلَاثَةٌ بَقِيَ لَهُ خَمْسَةٌ وَرُبُعٌ فَمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةٍ وَرُبُعٍ إلَى تَمَامِ سَبْعَةٍ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ فَصَاحِبُ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيه، وَفِي الْمَالِ سِعَةٌ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمًا وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ بِلَا مُنَازَعَةٍ فَجُمْلَةُ مَا أَخَذَا مِنْ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ ثُلُثَا الْمَالِ تِسْعَةٌ مَرَّةً خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ وَمَرَّتَيْنِ سَهْمٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ وَالْبَاقِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِيهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَانْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ وَكَانَ قَدْ انْكَسَرَ بِالْأَنْصَافِ وَالْأَرْبَاعِ إلَّا أَنَّ الرُّبُعَ يُجْزِي عَنْ النِّصْفِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ يَخْرُجُ مِنْ مَخْرَجِ الرُّبُعِ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَضْرِبَ ثَلَاثَةً فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ يَضْرِبُ أَصْلَ الْمَالِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَتِسْعِينَ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ كَانَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ مِثْلُ ذَلِكَ وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ وَكَانَ مَا أَخَذَ صَاحِبُ النِّصْفِ مِنْ الثَّلَاثِينَ بِلَا مُنَازَعَةٍ خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ مَضْرُوبَةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ.
وَمَا أَخَذَ صَاحِبُ النِّصْفِ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ مَضْرُوبَةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ وَكَانَ الَّذِي لَا يَسْتَقِيمُ بَيْنَهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَضْرُوبَةً فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِائَةً وَسِتَّةً وَخَمْسِينَ بَيْنَهُمْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اثْنَانِ وَخَمْسُونَ فَصَاحِبُ الرُّبُعِ مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الثُّلُثَيْنِ إلَّا اثْنَانِ وَخَمْسُونَ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ أَخَذَ مَرَّةً اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمَرَّةً أَحَدًا وَعِشْرِينَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ، وَصَاحِبُ النِّصْفِ أَخَذَ مَرَّةً اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمَرَّةً أَحَدًا وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً سِتَّةً وَسِتِّينَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِائَةً وَتِسْعَةً وَسِتِّينَ، فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ بَلَغَتْ سِهَامُ ثُلُثَيْ الْمَالِ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعَةً وَسِتِّينَ، فَإِذَا ضَمَمْته إلَى الثُّلُثِ الَّذِي اقْتَسَمُوهُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ كَانَتْ الْجُمْلَةُ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَتِسْعِينَ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالَ إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ وَأَعْتَقَ بُدِئَ بِالْعِتْقِ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ سَائِرِ الْوَصَايَا، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَهُوَ إسْقَاطٌ لِلرِّقِّ وَالْمُسْقَطُ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا وَسَائِرُ الْوَصَايَا يَتَحَمَّلُ الْفَسْخَ وَالرُّجُوعَ عَنْهَا وَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِحَسَبِ السَّبَبِ وَلَا مُزَاحَمَةَ لِلضَّعِيفِ مَعَ الْقَوِيِّ، ثُمَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَخَذَا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَدَّمَا الْعِتْقَ عَلَى الْمُحَابَاةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَصَّ الْمُحَابَاةَ مِنْ سَائِرِ الْوَصَايَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا أَقْوَى سَبَبًا فَسَبَبُهَا عَقْدُ الضَّمَانِ وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى مِنْ التَّبَرُّعِ وَقُوَّةُ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ حُكْمِ السَّبَبِ فَعِنْدَ الْبُدَاءَةِ بِالْمُحَابَاةِ يَتَرَجَّحُ بِالسَّبْقِ وَبِقُوَّةِ السَّبَبِ، فَقَالَ يَبْدَأُ بِهَا، وَعِنْدَ الْبُدَاءَةِ بِالْعِتْقِ يَسْتَوِيَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّ لِلْعِتْقِ قُوَّةَ السَّبْقِ وَقُوَّةَ الْحُكْمِ وَلِلْمُحَابَاةِ قُوَّةَ السَّبَبِ وَالْمُعْتَبَرُ أَوَّلًا السَّبَبُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ فَيَتَحَاصَّانِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعِهَا.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي رَجُلٍ يُوصِي إلَى رَجُلٍ فَيَمُوتُ الْمُوصَى إلَيْهِ فَيُوصِي إلَى رَجُلٍ آخَرَ، فَإِنَّ وَصِيَّتَهُمَا جَمِيعًا صَحِيحَةٌ وَبِهِ نَأْخُذُ، فَإِنَّ الْوَصِيَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فِي وِلَايَتِهِ فِي الْمَالِ، وَقَدْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ فِي مَالِهِ وَمَالِ الْمُوصِي الْأَوَّلِ فَيَخْلُفُهُ وَصِيُّهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَالَيْنِ؛ لِأَنَّ- بَعْدَ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ- التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الْمُوصِي الْأَوَّلِ مِنْ حَوَائِجِ الْوَصِيِّ كَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُقِيمُ الْمُوصِي مَقَامَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَاجَتِهِ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يُوصِي لِأُمِّ وَلَدِهِ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ فَيَمُوتُ قَالَ هُوَ مِيرَاثٌ، وَإِنْ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ لَهَا بِوَصِيَّةٍ فَهُوَ لَهَا مِنْ الثُّلُثِ وَالْمُرَادُ بِوَصِيَّتِهِ لَهَا فِي صِحَّتِهِ الْإِقْرَارُ وَالْهِبَةُ لَا الْوَصِيَّةُ الْمُضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الصِّحَّةِ وَحَالَةَ الْمَرَضِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ الْهِبَةُ لِأُمٍّ الْوَلَدِ وَالْإِقْرَارُ لَهَا بِالدَّيْنِ بَاطِلٌ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ وَكَسْبُهَا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْقِنَّةِ، فَأَمَّا وَصِيَّتُهُ لَهَا مُضَافَةً إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَصَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَعْتِقُ بِالْمَوْتِ وَوُجُوبُ الْوَصِيَّةِ يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَالْوَصِيَّةُ لَهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ لِجَارِيَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ عِنْدَ مَوْتِهِ بِدَيْنٍ لِوَارِثٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ أَقَرَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ بِالدَّيْنِ جَازَ وَلَوْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَبِهِ نَأْخُذُ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الْمَرْأَةِ يَضْرِبُهَا الطَّلْقُ قَالَ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالتَّبَرُّعِ.
وَالطَّلْقُ اسْمٌ لِوَجَعِ الْوِلَادَةِ وَيُسَمَّى ذَلِكَ مَخَاضًا أَيْضًا قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} وَمَتَى أَخَذَهَا وَجَعُ الْوِلَادَةِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّهَا أَشْرَفَتْ عَلَى الْهَلَاكِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَأْخُذُهَا الْوَجَعُ، ثُمَّ يَسْكُنُ فَبِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْوَجَعِ لَا تَصِيرُ فِي التَّبَرُّعَاتِ كَالْمَرِيضَةِ بِمَنْزِلَةِ مَرِيضٍ يَعْقُبُهُ بُرْءٌ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ كَالْمَرِيضَةِ إذَا أَخَذَهَا الْوَجَعُ الَّذِي يَكُونُ آخِرُهُ انْفِصَالَ الْوَلَدِ عَنْهَا مِنْ سَلَامَتِهَا بِهِ أَوْ مَوْتِهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَرَضُ الْمَوْتِ وَمَرَضُ الْمَوْتِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ مَنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لَمْ يَجُزْ فِي الْفَضْلِ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُمْ كِبَارٌ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ بِمَرَضِهِ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الثُّلُثَ مَحَلًّا لِوَصِيَّةِ الْمُوصِي لِيَتَدَارَكَ بِهِ مَا فَرَّطَ فِي حَيَاتِهِ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَوْصَى بِهِ، فَقَدْ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِوَرَثَتِهِ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِمْ عَمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ وَإِيثَارِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى مَنْ آثَرَهُ الشَّرْعُ، وَهُوَ الْوَارِثُ فَلِلْوَارِثِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ قَصْدَهُ بِأَنْ يَأْبَى الْإِجَازَةَ وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِجَازَتِهِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي عِنْدَنَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى تَصِحُّ إجَازَتُهُ فِي حَيَاتِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ حَقُّهُ بِالْإِجَازَةِ وَبِالْمَرَضِ قَدْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِمَالِهِ فَيَصِحُّ إسْقَاطُهُ وَفِقْهُ هَذَا أَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي مَالِهِ بِالْمَوْتِ وَلَكِنَّ سَبَبَ مَوْتِهِ الْمَرَضُ فَلَمَّا أُقِيمَ هَذَا السَّبَبُ مُقَامَ حَقِيقَةِ الْمَوْتِ فِي مَنْعِ الْمُوَرِّثِ مِنْ التَّصَرُّفِ الْمُبْطِلِ لِحَقِّ الْوَارِثِ فَكَذَلِكَ قَامَ مَقَامَهُ فِي صِحَّةِ إسْقَاطِ الْحَقِّ مِنْ الْوَارِثِ بِالْإِجَازَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ وَيُعْتَبَرُ الْمَرَضُ بِسَبَبِ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِمَالٍ بَلْ السَّبَبُ مَرَضُ الْمَوْتِ وَمَرَضُ الْمَوْتِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ الْمَوْتُ فَقَبْلَ اتِّصَالِ الْمَوْتِ لَا يَكُونُ سَبَبًا، وَهَذَا الِاتِّصَالُ مَوْهُومٌ فَيَكُونُ هَذَا إسْقَاطَ الْحَقِّ قَبْلَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ، ثُمَّ الْإِجَازَةُ مِنْ الْوَارِثِ إنَّمَا تَعْمَلُ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا مِنْهُ بِتَصَرُّفِ الْمَرِيضِ وَإِجَازَتُهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ احْتَشَمَ الْمُوَرِّثَ فَلَمْ يُجَاهِرْهُ بِالرَّدِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِوَصِيَّتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَازَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَفِي الْإِجَازَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ إنْ لَمْ يَكُنْ الْوَارِثُ مِنْ أَهْلِهِ بِأَنْ كَانَ صَغِيرًا فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ كَبِيرًا فَإِجَازَتُهُ صَحِيحَةٌ وَيُسَلِّمُ الْمَالَ لِلْمُوصَى لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْمُوصِي عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ صَحِيحَةٌ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ مِنْ الْوَارِثِ ابْتِدَاءً مِنْهُ حَتَّى لَا يَتِمَّ إلَّا بِالْقَبْضِ عَلَى قَوْلِهِ، وَعِنْدَنَا يَتِمُّ مِنْ غَيْرِ قَبْضِ الْمُوصَى لَهُ وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَازَةِ وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ بِنَفْسِ الْمَوْتِ قَدْ صَارَ قَدْرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْمَالِ مِلْكًا لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الْوَارِثِ وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَإِجَازَتُهُ تَكُونُ إخْرَاجًا لِلْمَالِ عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهَذَا فِيهِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِمَالِ جَارِهِ فَأَجَازَهُ الْجَارُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ تَصَرُّفُ الْمُوصِي صَادَفَ مِلْكَهُ وَامْتَنَعَ نُفُوذُهُ بِقِيَامِ حَقِّ الْغَيْرِ فِيهِ إجَازَةُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ تَكُونُ إسْقَاطًا كَإِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ بَيْعَ الرَّاهِنِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَجَازُوا وَصِيَّةَ الْوَارِثِ.
وَلَوْ أَوْصَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِ رَجُلٍ أَوْ بِعَبْدٍ أَوْ بِثَوْبٍ فَأَجَازَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ مَا لَمْ يَدْفَعْهُ إلَى الْمُوصَى لَهُ، فَإِذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ جَازَ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ كَأَنَّهُ وَهَبَ مَالَ غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ كَمَا لَوْ وَهَبَ مَالَ نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمَالِ نَفْسٍ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنَفَّذْ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَجَازُوا، فَقَدْ أَبْطَلُوا حَقَّهُمْ وَجَازَ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي جَوَازُ الْوَصِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ التَّسْلِيمُ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا وَجَوَازِهَا.
وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ وَلِآخَرَ بِثَوْبٍ وَلِآخَرَ بِدَارٍ وَالثُّلُثُ يَبْلُغُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَالْوَصِيَّةُ تَبْلُغُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَيْ وَصِيَّتِهِ وَبَطَلَ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إبْطَالِ الْفَضْلِ عَلَى الثُّلُثِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمْ بِإِبْطَالِهَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثِ فَكَذَا فِي إبْطَالِهِ فَيَنْقُصُ مِنْ وَصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهَا.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَبْلَغِ الْوَصَايَا وَإِلَى ثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِقْدَارَ الثُّلُثِ يَنْقُصُ مِنْ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثُّلُثَ، وَإِنْ كَانَ نِصْفًا النِّصْفُ.
وَتَفْسِيرُهُ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ بِثَوْبٍ قِيمَتُهُ ثَلَثُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ بِدَارٍ قِيمَتُهَا مِائَتَانِ فَذَلِكَ كُلُّهُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفٌ فَالزِّيَادَةُ مِقْدَارُ الثُّلُثِ فَيَنْقُصُ مِنْ وَصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِقْدَارُ الثُّلُثِ فَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ ثُلُثَا الْعَبْدِ وَلِصَاحِبِ الدَّارِ ثُلُثَا الدَّرَاهِمِ وَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ ثُلُثَا الثَّوْبِ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ.
وَإِذَا أَوْصَى لِذَوِي قَرَابَتِهِ بِالثُّلُثِ، فَإِنَّ ذَوِي قَرَابَتِهِ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُنَا خَمْسَةُ أَلْفَاظٍ إمَّا أَنْ يُوصِيَ لِذَوِي قَرَابَتِهِ أَوْ لِأَقَارِبِهِ أَوْ لِأَنْسَابِهِ أَوْ لِأَرْحَامِهِ أَوْ لِذَوِي أَرْحَامِهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مَا سِوَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَمَنْ لَا يَرِثُ وَالْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ يَدْخُلُ فِيهَا جَمِيعُ ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ كُلُّ مَنْ يَجْمَعُهُ وَأَبَاهُ أَقْصَى أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ وَيَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ ذُو الرَّحِمِ وَغَيْرُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالِاخْتِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَصْرِفُ إلَى ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَلَا يَصْرِفُ إلَى غَيْرِهِمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ يَصْرِفُ إلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَسْتَوِي فِيهِ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ الِاثْنَانِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ ذَوِي لَفْظُ جَمْعٍ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فِي الْمِيرَاثِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأَخَوَيْنِ يَنْقُلَانِ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ إذْ هِيَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ فَلِذَلِكَ لَا يَصْرِفُ إلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمَا يُسَمَّيَانِ قَرَابَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} مِنْ بَيْنِهِمَا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ غَيْرُ الْقَرَابَةِ، فَإِذَا خَرَجَ الْأَبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا لِلِابْنِ خَرَجَ الِابْنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا لِلْأَبِ وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهَا الْجُدُودُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ فَفِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَدْخُلُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَدَّ وَوَلَدَ الْوَلَدِ لَا يَدْخُلَانِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ وَوَلَدَ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَا الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ قَصَدَ بِالْوَصِيَّةِ صِلَةَ الرَّحِمِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ} فَلَمَّا كَانَ مَأْمُورًا بِصِلَةِ الْقَرَابَةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الصِّلَةُ مِمَّنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَانْصَرَفَتْ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُطْلَقَةَ قَرَابَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لِاخْتِصَاصِهَا بِأَحْكَامٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ وَالْعِتْقِ عِنْدَ الْمِلْكِ وَعَدَمِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ عِنْدَ الْعِشْرَةِ فَانْصَرَفَتْ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ فَهُوَ أَشْبَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ فَكَانَ أَوْلَى كَمَا فِي الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ فِي الْمِيرَاثِ وَالْأَقْرَبِ فِي الشُّفْعَةِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ مِنْهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ سَوَاءٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ وَلَهُ إخْوَةٌ بَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَبَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَبَعْضُهُمْ لِأُمٍّ أَنَّهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ سَوَاءٌ وَلَا يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَغَيْرُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَيَصْرِفُ إلَى كُلِّ مَنْ يَجْمَعُهُ.
وَأَبَاهُ أَقْصَى أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ إنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْأَبْعَدِينَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنْ الْأَقْرَبِينَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْأَخِ أَوْ الْعَمِّ هَذَا قُرْبَى فَيَدْخُلُونَ كُلُّهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ.
(أَلَا تَرَى) إلَى مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ: «لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرِبَاءَهُ سَبْعِينَ نَفْسًا، وَقَالَ لَهُمْ إنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ»، وَكَانَ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَغَيْرُهُ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ جَمِيعُ أَوْلَادِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَجْعَلُ الْحَدَّ فِيهِ مَنْ يَجْمَعُهُ وَإِيَّاهُمْ أَقْصَى أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ الْإِسْلَامُ صَارَتْ الْمَعْرِفَةُ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِقَبَائِل الْجَاهِلِيَّةِ وَهُمَا إنَّمَا قَالَا ذَلِكَ فِي زَمَانِهِمَا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رُبَّمَا يَبْلُغُ إلَى ثَلَاثَةِ آبَاءٍ أَوْ أَرْبَعَةِ آبَاءٍ وَلَا يُجَاوِزُ ذَلِكَ فَتَتَبَيَّنُ أَقْرِبَاؤُهُ أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَبَرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النِّسْبَةَ قَدْ طَالَتْ فَتَقَعُ الْوَصِيَّةُ لِقَوْمٍ مَجْهُولِينَ.
فَإِنْ تَرَكَ عَمَّيْنِ وَخَالَيْنِ وَهُمْ لَيْسُوا بِوَرَثَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَصِيَّةُ لِلْعَمَّيْنِ دُونَ الْخَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَمَّ أَقْرَبُ مِنْ الْخَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ بِدَلِيلِ الْوِلَايَةِ، وَعِنْدَهُمَا الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَاحِدٌ وَخَالَانِ كَانَ لِلْعَمِّ النِّصْفُ وَالنِّصْفُ لِلْخَالَيْنِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ذَوِي وَأَقَلُّ الْجَمْعِ فِي الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ وَيُصْرَفُ النِّصْفُ إلَى الْخَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ اسْمَ الْقَرَابَةِ، فَإِذَا خَرَجَ الْعَمُّ مِنْ الْوَسَطِ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ إلَّا الْخَالَيْنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِقَبِيلَةٍ دَخَلَ الْمَوَالِي فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَى تِلْكَ الْقَبِيلَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ»، هَذَا إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ فَإِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الصِّلَةُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، فَإِذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ صَارُوا مَجْهُولِينَ فَبَطَلَتْ وَجْهُ الْإِحْصَاءِ ذَكَرْنَاهُ فِي الشُّرْبِ وَالشُّفْعَةِ وَلَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا أَنَّهُ نَصَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَوْصَى لِفُقَرَاءِ أَهْلِ بَيْتِهِ فَلِكُلِّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى أَقْصَى جَدٍّ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ، وَكَذَا لِمُحْتَاجِي أَهْلِ بَيْتِهِ أَيْ إذَا أَوْصَى لِأَهْلِ بَيْتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُوصِي مِنْ أَوْلَادِ الْعَبَّاسِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ نَسَبُهُ إلَى الْعَبَّاسِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ دَخَلَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ بِنَفْسِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى بَعْدَ أَنْ يَكُونَا مَنْسُوبَيْنِ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ، وَمَنْ كَانَ نَسَبُهُ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ لَا يَدْخُلُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ آخَرِينَ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ لِجِنْسِ فُلَانٍ أَوْ لِمُحْتَاجِي جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَأَهْلَ الْبَيْتِ سَوَاءٌ وَسَوَاءٌ كَانُوا يُحْصَوْنَ أَوْ لَا يُحْصَوْنَ؛ لِأَنَّ هَذَا سَبِيلُ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ حَصَرَ الْفُقَرَاءَ وَالْمُحْتَاجِينَ وَجَهَالَةُ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ لَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ، فَإِنَّ قَابِضَ الصَّدَقَةِ هُوَ اللَّهُ- تَعَالَى- وَهَذَا عِنْدَهُمْ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبَ وَلَا يُعْطِي غَيْرَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَعِنْدَهُمَا تُصْرَفُ إلَى الْكُلِّ.
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِإِخْوَتِهِ وَلَهُ سِتَّةُ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ وَلَهُ وَلَدٌ يَحُوزُ مِيرَاثَهُ فَالثُّلُثُ بَيْنَ إخْوَتِهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالِاسْمِ وَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَى لِأَقْرِبَاءِ فُلَانٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا أَقْرَبُ مِنْ فُلَانٍ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا أَكْثَرُ أُخُوَّةً مِنْ فُلَانٍ بَلْ كُلُّهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ سَوَاءٌ هَذَا إذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ يَحُوزُ مِيرَاثَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ وَلِلْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ ثُلُثُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَرِثَانِ.
فَإِنْ قِيلَ وَجَبَ أَنْ يَصْرِفَ جَمِيعَ الثُّلُثِ إلَيْهِمَا إذَا لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ قُلْنَا الْإِضَافَةُ كَانَتْ صَحِيحَةً إلَى الْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمَّيْنِ وَلِأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ جَازَتْ إلَّا أَنَّهُمْ خَرَجُوا بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْوَصِيَّةِ فَلَا يَزْدَادُ حَقُّ الْأَخِ لِأَبٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَمَاتَ اثْنَانِ قَبْلَ مَوْتِهِ كَانَ لِلْبَاقِي ثُلُثُ الثُّلُثِ لِصِحَّةِ الْإِضَافَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ الثُّلُثُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ، فَقَدْ أَوْصَيْت بِهِ لِوَارِثِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَأَحَدُهُمَا مَيِّتٌ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ بِوَجْهٍ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ اللَّفْظِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ الثُّلُثُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ، فَقَدْ أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ الْمَيِّتِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا، وَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِبَنِي فُلَانٍ، فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ هُوَ قَبِيلَةً مِثْلَ تَمِيمٍ وَكُلَيْبٍ وَوَائِلٍ أَوْ لَا يَكُونَ قَبِيلَةً بَلْ أَبٌ خَاصٌّ، فَإِنْ كَانَ قَبِيلَةً خَاصَّةً دَخَلَ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ النِّسْبَةُ وَالْمَرْأَةُ تَقُولُ أَنَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِهَذِهِ النِّسْبَةِ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَيْهَا مَجَازًا فَيَتَنَاوَلُ جِنْسَ مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهَا حَقِيقَةً كَانَ أَوْ مَجَازًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْحَلِيفُ وَالْخَلِيلُ، وَإِذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ، فَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ فِي الْقَبِيلَةِ أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ وَالْوَصِيَّةُ لِلْأَغْنِيَاءِ صِلَةٌ وَالصِّلَةُ لِلْمَجْهُولِ بَاطِلَةٌ.
أَمَّا إذَا كَانَ فُلَانٌ أَبَ صُلْبٍ، فَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا دَخَلُوا فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْبَنِينَ لِلذُّكُورِ حَقِيقَةً فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ مَا أَمْكَنَ، وَإِنْ كُنَّ إنَاثًا لَا يَدْخُلُ فِيهِ ذُكُورُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُهُنَّ، وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْوَصِيَّةُ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَدْخُلُ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَاهُ يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمِينُ لِأَبِي يُوسُفَ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبَنِينَ جَمْعٌ لِابْنٍ يَقَعُ عَلَى الذُّكُورِ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ إنَاثًا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْوَصِيَّةِ.
وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ الْبَنِينَ إذَا ذُكِرُوا مُطْلَقًا يَقَعُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ عِنْدَ اشْتِرَاكِهِمْ قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {يَا بَنِي آدَمَ} وَلَمْ يَقْصُرْ اللَّفْظَ عَلَى الذَّكَرِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ النَّسَبَ إلَى الْجَدِّ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ إلَى الْأَبِ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُنْسَبُ إلَى الْجَدِّ لِيُعْرَفَ دُونَ الْأَبِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يُنْسَبُ إلَى جَدِّهِ، وَكَذَلِكَ أَبُو نَصْرِ بْنُ سَلَامَةَ يُنْسَبُ إلَى جَدِّهِ؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ جَدُّهُ لَا أَبُوهُ، وَإِذَا كَانَ يُنْسَبُ إلَى الْجَدِّ صَارَ الْحُكْمُ أَنَّ الصُّلْبَ وَالْجَدَّ سَوَاءٌ.
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِوَلَدِ فُلَانٍ وَلَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ سَوَاءً؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ اسْمٌ لِجِنْسِ الْمَوْلُودِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ وَلَوْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ حَامِلٌ دَخَلَ مَا فِي بَطْنِهَا فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ تَسْمِيَةِ الْوَلَدِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَرِثُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَنَاتٌ وَبَنُو ابْنٍ فَالْوَصِيَّةُ لِبَنَاتِهِ دُونَ بَنِي ابْنِهِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ ابْنَهُ حَقِيقَةً وَيَتَنَاوَلُ أَوْلَادَ الِابْنِ مَجَازًا فَمَهْمَا أَمْكَنَ صَرْفُهُ إلَى حَقِيقَتِهِ لَا يُصْرَفُ إلَى مَجَازِهِ وَلَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ وَلَيْسُوا مِنْ أَوْلَادِهِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لِلْآبَاءِ وَلَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ وَاحِدٌ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى فَجَمِيعُ الْوَصِيَّةِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلِاسْمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا يُصْرَفُ إلَى مَجَازِهِ وَالْوَلَدُ اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ فَصَاعِدًا.
وَإِذَا أَوْصَى لِفَخِذِ فُلَانٍ أَوْ لِبَطْنِ فُلَانٍ فَالْجَوَابُ فِيهِ مِثْلُ الْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ لِقَبِيلَةِ فُلَانٍ يَدْخُلُ فِيهِ الْبَنُونَ وَالْبَنَاتُ، وَهَذَا إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ، فَأَمَّا إذَا كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لِلْمَجْهُولِ إلَّا إذَا قَالَ لِفُقَرَائِهِمْ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ- تَعَالَى- فَإِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ يَدْفَعُ إلَى جَمِيعِهِمْ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّسْمِيَةِ لَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ صَرْفُهُ كُلِّهِ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُصْرَفَ إلَى اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَالْجَمْعُ فِي بَابِ الْمِيرَاثِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا وَلَهُمَا أَنَّ الْفَقْرَ اسْمُ جِنْسٍ وَالْجِنْسُ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ فَصَاعِدًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الْآيَةَ وَلَوْ دَفَعَ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ جَازَ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُ النِّسَاءَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً وَاحِدَةً يُعْتَقُ.
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ أَوْ بَنِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ كَانَ مَيِّتًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَمَّا إذَا مَاتَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ نِصْفَيْنِ وَلِأَنَّ الْمُوصِيَ لَمَّا مَاتَ أَوَّلًا، فَقَدْ وَجَبَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا صَارَ نَصِيبُهُ لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِهِ صَارَ نِصْفُ الثُّلُثِ لِلْحَيِّ وَنِصْفُهُ مَرْدُودًا إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمْلَكُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ الْمِلْكِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِلْحَيِّ نِصْفُ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَيْهِمَا كَانَتْ صَحِيحَةً وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثُّلُثِ فَلَا يُزَادُ حَقُّهُ بِمَوْتِ الْآخَرِ فَكَانَ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي، وَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَيِّتًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُوصِي قَالَ بَنِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَلِلْحَيِّ نِصْفُ الْوَصِيَّةِ وَلَا شَيْءَ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ بَيْنَ كَلِمَةُ تَقْسِيمٍ وَتَجْزِئَةٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الثُّلُثِ، وَإِذَا بَطَلَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ رَجَعَ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي وَلَا يَكُونُ لِلْحَيِّ إلَّا النِّصْفُ وَلَوْ قَالَ لِفُلَانِ وَفُلَانٍ وَأَحَدُهُمَا مَيِّتٌ فَالْوَصِيَّةُ كُلُّهَا لِلْحَيِّ سَوَاءٌ عَلِمَ بِمَوْتِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَيُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ إنْ كَانَ الْمُوصِي عَلِمَ بِمَوْتِهِ فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْحَيِّ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلِلْحَيِّ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِهِ كَانَ قَصْدُهُ تَمْلِيكَ نِصْفِ الثُّلُثِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَثْبُتُ إلَّا ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ صِلَةَ الْحَيِّ مِنْهُمَا.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إلَى اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا تَصْلُحُ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ وَالْآخَرُ لَا تَصْلُحُ فَبَطَلَتْ الْإِضَافَةُ إلَى مَنْ لَا تَصْلُحُ إلَيْهِ الْإِضَافَةُ وَتَثْبُتُ إلَى مَنْ تَصْلُحُ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَلِهَذِهِ الْإِسْرَاءِ وَلِهَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ كَانَ الثُّلُثُ كُلُّهُ لِفُلَانٍ وَلَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَلِعَقِبِهِ فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِفُلَانٍ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْعَقِبِ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ عَقِبَهُ مَنْ يَعْقُبُهُ، فَإِذَا كَانَ هُوَ حَيًّا لَا يَكُونُ لَهُ عَقِبٌ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْعَقِبِ ثَبَتَ ثُلُثُ الْمَالِ إلَيْهِ.
وَلَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَلِلْمَسَاكِينِ كَانَ نِصْفُهُ لِفُلَانٍ وَنِصْفُهُ لِلْمَسَاكِينِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ثُلُثُهُ لِفُلَانٍ وَثُلُثَاهُ لِلْمَسَاكِينِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَهُ الْمَسَاكِينَ اسْمُ جَمْعٍ فَيَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ، وَعِنْدَهُمَا اسْمُ جِنْسٍ فَيَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى، وَكَذَا لَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَلِلْحَجِّ كَانَ نِصْفُهُ لِفُلَانٍ وَنِصْفُهُ لِلْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْحَجِّ وَصِيَّةٌ لِلَّهِ- تَعَالَى- فَصَارَ كَأَنَّهُ أَوْصَى لِاثْنَيْنِ، وَإِذَا قَالَ حُجُّوا عَنِّي حَجَّةً وَأَعْتِقُوا عَنِّي نَسَمَةً يَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ نَفَاذُهَا مِنْ الثُّلُثِ، فَإِذَا كَانَ لَا يَسَعُهَا يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الْحَجَّةُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ بُدِئَ بِهَا، وَإِنْ أَخَّرَهُ الْمَيِّتُ؛ لِأَنَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَقْوَى مِنْ نَسَمَةِ التَّطَوُّعِ وَيُعْلَمُ أَنَّ إسْقَاطَ الْفَرْضِ أَهَمُّ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ أَخَّرَهُ لِيُقْبَلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ كَانَ حَجُّهُ تَطَوُّعًا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيُبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ عِنْدَهُ هَذَا إذَا أَوْصَى بِعِتْقِ نَسَمَةٍ مِنْهُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا أَمَّا إذَا كَانَتْ النَّسَمَةُ بِعَيْنِهَا، فَإِنَّهُمَا يَتَحَاصَّانِ فِي الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ وَصِيَّةٌ لِلْعَبْدِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا وَالْوَصِيَّةُ بِالْحَجِّ وَصِيَّةٌ لِلَّهِ- تَعَالَى- فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ وَصِيَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَيَتَحَاصَّانِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ النَّسَمَةُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُمَا وَصِيَّتَانِ لِلَّهِ- تَعَالَى-.
وَإِذَا أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِبَنِي فُلَانٍ وَهُمْ أَرْبَعَةٌ فَمَاتَ مِنْهُمْ اثْنَانِ وَوُلِدَ لِلْأَبِ وَلَدٌ آخَرُ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَالثُّلُثُ لِوَلَدِهِ يَوْمَ يَمُوتُ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَانْصَرَفَ إلَى الْمَوْجُودِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَالُهُ يَوْمَ الْمَوْتِ لَا يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِمَوَالِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ الْعَرَبِيِّ، ثُمَّ مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ وَأَعْتَقَ فُلَانٌ مِنْهُمْ عَبْدًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَالثُّلُثُ لِمَوَالِيهِ يَوْمَ مَاتَ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَلَوْ كَانَ لِفُلَانٍ مَوَالِي أَعْتَقَهُمْ وَمَوَالِي أَعْتَقُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْعَرَبِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِأَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَوْصَى فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْأَعْلَى وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْأَسْفَلِ زِيَادَةُ إنْعَامٍ، وَمِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْأَعْلَى الشُّكْرُ عَلَى النِّعْمَةِ وَهُمَا مُتَضَادَّانِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الثُّلُثَ لِلْمَوْلَى الْأَسْفَلِ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ بِالْوَصِيَّةِ الْبِرُّ وَالنَّاسُ يَقْصِدُونَ بِالْبِرِّ الْمَوْلَى الْأَسْفَلَ دُونَ الْأَعْلَى.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى مَوَالِيهِ كَانَ لِلْأَسْفَلِ دُونَ الْأَعْلَى كَذَلِكَ هُنَا وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الثُّلُثَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالِاسْمِ وَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِهِ سَوَاءٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ وَلَهُ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٌ لِأَبٍ وَأَخٌ لِأُمٍّ أَنَّ الثُّلُثَ بَيْنَهُمْ لِاسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ كَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَلَهُ مَالٌ فَهَلَكَ ذَلِكَ الْمَالُ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، ثُمَّ اكْتَسَبَ مَالًا فَلَهُ ثُلُثُ مَالِهِ يَوْمَ يَمُوتُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ مَالُهُ أَبَدًا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَرُبَّمَا يَسْتَفِيدُ وَرُبَّمَا يَهْلَكُ فَلَمَّا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ مُرْسَلًا وَلَمْ يُقَيِّدْهُ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لِفُلَانٍ ثُلُثُ مَالِي الَّذِي يَكُونُ وَقْتَ الْمَوْتِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ رَبِحَ فِي الْمَالِ رِبْحًا أَوْ زَادَ فِي الْمَالِ شَيْئًا أَنَّ لَهُ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ غَنَمِهِ فَهَلَكَتْ الْغَنَمُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ مِنْ الْأَصْلِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَكَذَا الْعُرُوض كُلُّهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَعَلَّقَتْ بِهِ فَالْهَلَاكُ يُبْطِلُهَا، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فَاسْتَفَادَ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْعَيْنِ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي أَوْ قَفِيزٌ مِنْ حِنْطَتِي، ثُمَّ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ غَنَمٌ وَلَا حِنْطَةٌ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْأَصْلِ غَنَمٌ وَلَا حِنْطَةٌ وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ شَاةٌ مِنْ مَالِي أَوْ قَفِيزُ حِنْطَةٍ مِنْ مَالِي أَوْ ثَوْبٌ مِنْ مَالِي فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَيُعْطِي لَهُ قِيمَةَ شَاةٍ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهَا إلَى مَالِهِ فَالْمَالُ اسْمٌ لِلْجِنْسِ يَتَنَاوَلُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَالْعُرُوضَ وَنَحْوَهَا وَالشَّاةُ لَيْسَتْ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الْمَالِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ قِيمَةَ شَاةٍ مِنْ مَالِهِ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِشَاةٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ غَنَمِي وَلَا مِنْ مَالِي فَمَاتَ وَلَيْسَ لَهُ غَنَمٌ لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى لَهُ شَاةً أَوْ قِيمَةَ شَاةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَسْأَلَةً تَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ قَالَ إذَا قَالَ الْإِمَامُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ جَارِيَةٌ مِنْ السَّبْيِ، فَإِنْ كَانَ فِي السَّبَايَا جَارِيَةٌ، فَإِنَّهُ يُعْطَى لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى لَهُ، وَلَوْ قَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ جَارِيَةٌ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ السَّبْيِ، فَإِنَّهُ يُعْطَى جَارِيَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ كَذَلِكَ هُنَا.
وَلَوْ أَوْصَى لِلرَّجُلِ بِثَوْبٍ، ثُمَّ قَطَّعَهُ وَخَاطَهُ قَمِيصًا، فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُغَيِّرَهُ عَنْ جِنْسِهِ أَوْ يَزِيدَ فِيهِ أَوْ يُنْقِصَهُ أَمَّا إذَا غَيَّرَهُ عَنْ جِنْسِهِ كَانَ رُجُوعًا كَمَا إذَا أَوْصَى لَهُ بِثَوْبٍ، ثُمَّ قَطَّعَهُ وَخَاطَهُ قَمِيصًا أَوْ أَوْصَى لَهُ بِقُطْنٍ، ثُمَّ غَزَلَهُ أَوْ بِغَزْلٍ، ثُمَّ نَسَجَهُ أَوْ بِحَدِيدَةٍ، ثُمَّ صَاغَ مِنْهَا إنَاءً أَوْ سَيْفًا أَوْ بِفِضَّةٍ، ثُمَّ صَاغَ مِنْهَا خَاتَمًا أَوْ غَيْرَهُ كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا غَيَّرَهُ عَنْ حَالِهِ اُسْتُدِلَّ بِهِ أَنَّهُ أَرَادَ الرُّجُوعَ إذَا لَوْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ الْبَقَاءُ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِمَا كَانَ يُغَيِّرُهُ عَنْ حَالِهِ فَاَلَّذِي أَوْصَى بِهِ يُوجَدُ وَاَلَّذِي وُجِدَ لَمْ يُوصَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَيْئًا آخَرَ، وَأَمَّا إذَا زَادَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةً لَهَا قِيمَةٌ مِثْلَ الثَّوْبِ إذَا صَبَغَهُ وَالسَّوِيقِ إذَا لَتَّهُ بِالسَّمْنِ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِدَارٍ وَلَيْسَ فِيهَا بِنَاءٌ فَبَنَى فِيهَا كَانَ ذَلِكَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِبَذْلٍ، وَقَدْ جَعَلَ وَصِيَّتَهُ بِغَيْرِ بَذْلٍ فَلَمَّا لَمْ يُتَوَصَّلْ إلَيْهِ إلَّا بِبَذْلٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ أَنَّهُ أَبْطَلَ الْوَصِيَّةَ، وَأَمَّا إذَا زَادَ شَيْئًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهِ بِغَيْرِ بَذْلٍ كَمَا إذَا أَوْصَى بِدَارٍ، ثُمَّ جَصَّصَهَا أَوْ طَيَّنَهَا فَذَلِكَ لَا يَكُونُ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَحْسِينٌ وَتَزْيِينٌ وَيُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِغَيْرِ بَذْلٍ فَلَمْ يَكُنْ رُجُوعًا وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ الْبَقَاءِ عَلَى الْوَصِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِثَوْبٍ، ثُمَّ غَسَلَهُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِإِزَالَةِ الدَّرَنِ وَالْوَسَخِ، وَأَمَّا إذَا نَقَصَهُ، فَإِنْ كَانَ نُقْصَانًا يَبْقَى الْغَيْرُ مَعَ ذَلِكَ النُّقْصَانِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا كَمَا إذَا أَوْصَى لَهُ بِثُبُوتٍ، ثُمَّ قَطَعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالِهِ لَكِنْ انْتَقَصَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبْقَى مَعَ ذَلِكَ النُّقْصَانِ كَانَ رُجُوعًا كَمَا إذَا أَوْصَى لَهُ بِشَاةٍ، ثُمَّ ذَبَحَهَا؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ لَا يَبْقَى إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، وَالْإِنْسَانُ وَإِنْ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا، فَإِنَّهُ لَا يَنْقَضِي أَجَلُهُ فَلَمَّا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ اللَّحْمَ لَا يَبْقَى إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ، فَقَدْ قَصَدَ الرُّجُوعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِقُطْنٍ، ثُمَّ حَشَا بِهِ قَبَاءً أَوْ بِبِطَانَةٍ، ثُمَّ بَطَّنَ بِهَا أَوْ بِظِهَارَةٍ، ثُمَّ ظَهَّرَ بِهَا ثَوْبًا فَذَلِكَ رُجُوعٌ؛ لِأَنَّ هَذَا يُعَدُّ اسْتِهْلَاكًا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ فَعَلَ هَذَا انْقَطَعَ حَقُّ الْمَالِكِ فَالِاسْتِهْلَاكُ يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِعَبْدٍ أَوْ بِثَوْبٍ، ثُمَّ بَاعَهُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَبَيْعُهُ رُجُوعٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ صَارَ بِحَالٍ لَوْ أَوْصَى بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فَكَانَ بَيْعُهُ دَلِيلًا عَلَى الرُّجُوعِ.
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ لَا يَمْلِكُهُ أَنْ يُشْتَرَى لَهُ، ثُمَّ تَمَلَّكَهُ الْمُوصِي بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِشِرَاءِ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَبِدَفْعِهِ إلَى فُلَانٍ، فَإِذَا مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ دَفَعَ بِمَوْتِهِ الشِّرَاءَ عَنْ الْوَرَثَةِ وَلَيْسَ هَذَا كَمَا إذَا قَالَ أَوْصَيْت بِهَذَا الْعَبْدِ لِفُلَانٍ وَالْعَبْدُ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ مَلَكَهُ أَنَّهُ لَا تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ شِرَاؤُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ عَبْدِ الْغَيْرِ إنْ أَجَازَ صَاحِبُهُ جَازَ وَإِلَّا فَلَا أَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَلَوْ لَمْ يَشْتَرِ بِنَفْسِهِ يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ شِرَاؤُهُ إنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَلَمَّا اشْتَرَى بِنَفْسِهِ أَوْ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ آخَرَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الْعَبْدِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَضَايَقَ عَنْ حَقِّهِمَا يَقْضِي بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا هَذَا كَدَارٍ بِيعَتْ وَلَهَا شَفِيعَانِ ثَبَتَ حَقُّ الشُّفْعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ إلَّا أَنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا لِضِيقِ الْمَحَلِّ كَذَلِكَ هُنَا قَالَ فِي الْأَصْلِ إنَّهُ مَتَى سَمَّى الْوَصِيَّةَ الْأُولَى وَأَوْصَى بِهَا لِلثَّانِي كَانَ رُجُوعًا عَنْ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى وَمَتَى سَمَّى الْوَصِيَّةَ بِهِ وَلَمْ يُسَمِّ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا وَكَانَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا وَبَيَانُهُ إذَا أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ، ثُمَّ قَالَ: الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ آخَرَ كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ سَمَّى الْوَصِيَّةَ الْأُولَى وَاسْتَأْنَفَ الْوَصِيَّةَ لِلثَّانِي فَكَانَ رُجُوعًا وَاسْتِئْنَافًا لِلْوَصِيَّةِ لِلثَّانِي، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ هُوَ لِفُلَانٍ آخَرَ، وَكَذَا لَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ قَدْ أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى الْوَصِيَّةَ الْأُولَى وَاسْتَأْنَفَ الْوَصِيَّةَ لِلثَّانِي بِحَرْفِ قَدْ؛ لِأَنَّهُ لِلْإِيقَاعِ وَالْإِبْلَاغِ فِي الِاسْتِئْنَافِ فَكَانَ رُجُوعًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ، فَقَدْ أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ آخَرَ، وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ، وَقَدْ أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ وَالْجَمْعِ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ الْوَصِيَّةَ لِلثَّانِي.
أَمَّا إذَا سَمَّى الْمُوصَى بِهِ وَلَمْ يُسَمِّ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا وَلَكِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا كَمَا إذَا أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ لِأَحَدٍ وَلَكِنَّهُ جَحَدَ وَصِيَّةَ الْأَوَّلِ، وَقَالَ لَمْ أُوصِ لَهُ، فَهَذَا رُجُوعٌ هَكَذَا ذَكَرَ هُنَا وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ إذَا قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي لَمْ أُوصِ لَهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قِيَاسِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ رُجُوعًا وَبَعْضُهُمْ فَرَّقَ لِاخْتِلَافِ الْوَضْعِ أَمَّا مَنْ جَعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ فَوَجْهُ مَنْ قَالَ إنَّهُ رُجُوعٌ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَالنَّقْصَ فَكَانَ الْجُحُودُ رُجُوعًا كَمَا إذَا جَحَدَ الْمُوَكِّلُ الْوَكَالَةَ كَانَ حَجْرًا عَلَى الْوَكِيلِ وَالْمُتَبَايِعِينَ إذَا جَحَدَا الْبَيْعَ كَانَ إقَالَةً مِنْهُمَا.
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ رُجُوعًا أَنَّ الْوَصِيَّةَ وُجُوبُهَا بِالْمَوْتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ وَالرَّدُّ بَعْدَ الْوَفَاةِ، فَإِذَا قَالَ لَمْ أُوصِ لَهُ بِشَيْءٍ فَهُوَ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ لَهُ الْوَصِيَّةَ بَعْدُ فَلَا يَكُونُ رُجُوعًا، وَمَنْ فَرَّقَ لِاخْتِلَافِ الْوَضْعِ قَالَ هُنَا جَحَدَ الْوَصِيَّةَ فَكَانَ رُجُوعًا، وَفِي الْجَامِعِ لَمْ يَجْحَدْ وَلَكِنْ قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي لَمْ أُوصِ لَهُ بِشَيْءٍ، فَقَدْ أَمَرَ الشُّهُودَ أَنْ يَكْذِبُوا عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ رُجُوعًا وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ الْمُعَلَّى فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْجُحُودَ يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْوَصِيَّةِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ رُجُوعًا فَمَا ذُكِرَ هُنَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ وَرَفْعٌ لِلْعَقْدِ الثَّابِتِ وَجُحُودُ أَصْلِ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ تَصَرُّفًا فِيهِ بِالرَّفْعِ كَمَا أَنَّ جُحُودَ النِّكَاحِ مِنْ الزَّوْجِ لَا يَكُونُ رَفْعًا بِالطَّلَاقِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ بِالْجُحُودِ يُبْقِي الْعَقْدَ فِي الْمَاضِي، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ نَفْيُ الْعَقْدِ فِي الْحَالِ وَالثَّابِتُ بِضَرُورَةِ النَّصِّ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ يَمْلِكُ نَفْيَ الْعَقْدِ فِي الْحَالِ إنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ فِي الْمَاضِي وَبِهِ فَارَقَ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّ نَفْيَ النِّكَاحِ مِنْ الْأَصْلِ يَقْتَضِي نَفْيَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَنْ الْمَحَلِّ إلَّا أَنَّهُ يَقْتَضِي إيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَى الْمَحَلِّ فِي الْحَالِ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ غَنَمِهِ أَوْ إبِلِهِ أَوْ طَعَامِهِ أَوْ شَيْءٍ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ فَاسْتُحِقَّ الثُّلُثَانِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ هَلَكَ وَبَقِيَ الثُّلُثُ وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ يُخْرِجُ الْبَاقِيَ مِنْ ثُلُثِهِ فَلِلْمُوصَى لَهُ جَمِيعُ مَا بَقِيَ، وَقَالَ زُفَرُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَذَلِكَ، وَفِي الْهَلَاكِ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ مَا كَانَ يَمْلِكُ إلَّا الثُّلُثُ، وَأَنَّ تَصَرُّفَهُ تَنَاوَلَ ذَلِكَ الثُّلُثَ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ بِالْعَيْنِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فِي الْمَحَلِّ، فَأَمَّا بِالْهَلَاكِ فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْهَالِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلْكِهِ وَقْتَ الْإِيجَابِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ لَهُ الثُّلُثُ شَائِعًا فَمَا هَلَكَ يَهْلَكُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَمَا لَمْ يَبْقَ يَبْقَى عَلَى الشَّرِكَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ هُوَ الْبَاقِي فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا فَيَسْتَحِقُّ جَمِيعَ مَا بَقِيَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُوصِيَ جَعَلَ حَاجَتَهُ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ مُقَدَّمَةً عَلَى حَقِّ وَرَثَتِهِ بِقَدْرِ مَا سُمِّيَ لِلْمُوصَى لَهُ فَكَانَ حَقُّ الْوَرَثَةِ فِيهِ كَالتَّبَعِ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ الْهَالِكَ مِنْ التَّبَعِ لَا مِنْ الْأَصْلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ مِنْ الْمَالِ فَاسْتُحِقَّ جِنْسَانِ أَوْ هَلَكَ جِنْسَانِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَإِنَّ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمُوصَى لَهُ لَا يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ مَا بَقِيَ بِمَا أَوْجَبَهُ لَهُ بِحَالٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَقِيَتْ الْأَجْنَاسُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجْبِرَ الْوَرَثَةَ عَلَى أَنْ يَقْسِمَ الْكُلَّ قِسْمَةً وَاحِدَةً فَيُعْطُونَهُ أَحَدَ الْأَجْنَاسِ، وَفِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِجَمِيعِ مَا بَقِيَ بِمَا أَوْجَبَهُ حَتَّى إذَا لَمْ يَهْلَكْ مِنْهُ شَيْءٌ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَيِّرَ الْوَرَثَةَ عَلَى الْقِسْمَةِ لِيَأْخُذَ الثُّلُثَ، وَالْبَاقِي هُوَ الثُّلُثُ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ ثَلَاثَةٍ وَبِثَلَاثَةٍ مِنْ الرَّقِيقِ وَاسْتُحِقَّ الْبَعْضُ أَوْ هَلَكَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ إلَّا ثُلُثُ الْبَاقِي، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى قِسْمَةَ الْجَبْرِ فِي الدُّورِ وَالرَّقِيقِ فَهِيَ عِنْدَهُ كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُوصَى لَهُ جَمِيعُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ جِنْسٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُمَا فِي أَنَّهَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً وَالْأَصَحُّ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَقُولَانِ بِقِسْمَةِ الْجَبْرِ فِي الدُّورِ إلَّا أَنْ يَرَى الْقَاضِي الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ الْمُوصَى لَهُ مُسْتَحِقًّا لِلدَّارِ الْبَاقِيَةِ بِمَا أَوْجَبَ لَهُ الْمُوصِي، وَكَذَلِكَ لَا يَرَيَانِ قِسْمَةَ الْجَبْرِ فِي الرَّقِيقِ إلَّا عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْمَالِيَّةِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا نَادِرًا فَالتَّفَاوُتُ فِي بَنِي آدَمَ كَثِيرٌ فِي الظَّاهِرِ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ إلَّا ثُلُثُ مَا بَقِيَ.
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ وَلِآخَرَ بِثَوْبٍ قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَلِآخَرَ بِسَيْفٍ قِيمَتُهُ مِائَتَانِ وَلَهُ سِوَى ذَلِكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ عُرُوضٌ بِقِيمَةِ أَلْفٍ، فَإِنَّ الْوَرَثَةَ إنْ لَمْ يُجِيزُوا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ وَصِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ مَبْلَغَ الْوَصَايَا ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثُلُثُ مَالِ الرَّجُلِ سِتُّمِائَةٍ فَكَانَ الثُّلُثُ مِنْ مَبْلَغِ الْوَصَايَا بِقَدْرِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ فَعِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ يُبْطِلُ مِنْ وَصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الرُّبُعَ فَيُسَلِّمُ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ وَقِيمَتُهُ ثَلَثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثَّوْبِ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وَلِصَاحِبِ السَّيْفِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ السَّيْفِ وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فَجُمْلَةُ مَا نَفَذَتْ فِيهِ الْوَصِيَّةُ سِتُّمِائَةٍ وَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَرُبُعُ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَرُبُعُ الثَّوْبِ قِيمَتُهُ خَمْسُونَ ذَلِكَ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ.
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسَيْفٍ قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَلِآخَرَ بِسُدُسِ مَالِهِ وَلَهُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ سِوَى السَّيْفَ كَانَ لِصَاحِبِ السَّيْفِ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ السَّيْفِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي السَّيْفِ وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ وَوَصِيَّةٌ بِسُدُسِهِ وَالْقِسْمَةُ فِي هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ السَّيْفِ تُسَلَّمُ لِصَاحِبِ السَّيْفِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِي السُّدُسِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ سِهَامَ السَّيْفِ صَارَتْ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ لِحَاجَتِنَا إلَى سُدُسٍ يَنْقَسِمُ نِصْفَيْنِ وَقِيمَةُ السَّيْفِ مِائَةٌ فَكُلُّ مِائَةٍ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ يَكُونُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَيْضًا فَذَلِكَ سِتُّونَ سَهْمًا لِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سُدُسُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ مَالِهِ فَيَسْتَحِقُّ بِهِ السُّدُسَ مِنْ كُلِّ مَالٍ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا عَشَرَةٌ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ وَسَهْمٌ مِنْ السَّيْفِ وَلِصَاحِبِ السَّيْفِ أَحَدَ عَشَرَ، فَقَدْ بَلَغَتْ سِهَامُ الْوَصَايَا اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ وَذَلِكَ دُونَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ سِهَامَ الْمَالِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ وَالسَّالِمُ لِلْوَرَثَةِ خَمْسُونَ فَكَانَ التَّخْرِيجُ مُسْتَقِيمًا.
وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ قِسْمَةُ السَّيْفِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَيَضْرِبُ فِيهِ صَاحِبُ السَّيْفِ بِسِتَّةٍ وَصَاحِبُ السُّدُسِ بِسَهْمٍ فَيَكُونُ السَّيْفُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ وَالْخَمْسُمِائَةِ الْأُخْرَى تُجْعَلُ كُلُّ مِائَةٍ عَلَى سَبْعَةٍ أَيْضًا فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سُدُسُ ذَلِكَ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ سَهْمٍ، فَقَدْ نَفَذَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ، وَفِي سَهْمٍ مِنْ السَّيْفِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ وَلِصَاحِبِ السَّيْفِ سِتَّةٌ مِنْ السَّيْفِ كُلُّهَا فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ وَجُمْلَةُ سِهَامِ الْمَالِ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ كَانَ أَوْصَى مَعَ هَذَا أَيْضًا بِالثُّلُثِ كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ يَضْرِبُ فِيهِ صَاحِبُ السُّدُسِ بِسُدُسِ خَمْسِمِائَةٍ وَثُلُثِ سُدُسِ السَّيْفِ وَصَاحِبُ السُّدُسِ بِثُلُثِ خَمْسِمِائَةٍ وَخَمْسَةِ أَسْدَاسِ سُدُسِ السَّيْفِ وَصَاحِبُ السَّيْفِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ السَّيْفِ إلَّا سُدُسَ سُدُسِ السَّيْفِ فَمَا أَصَابَ صَاحِبَ السَّيْفِ كَانَ فِي السَّيْفِ وَمَا أَصَابَ صَاحِبَ الثُّلُثِ كَانَ فِي الدَّرَاهِمِ، وَفِيمَا بَقِيَ مِنْ السَّيْفِ، وَكَذَلِكَ مَا أَصَابَ صَاحِبَ السُّدُسِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي السَّيْفِ ثَلَاثُ وَصَايَا وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهِ وَوَصِيَّةٌ بِسُدُسِهِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ.
وَفِي الْحَاصِلِ تَصِيرُ سِهَامُ السَّيْفِ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ لِحَاجَتِنَا إلَى سُدُسٍ يَنْقَسِمُ أَثْلَاثًا فَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثُلُثَاهُ بِلَا مُنَازَعَةً أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَسُدُسٌ، وَهُوَ سِتَّةٌ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ السُّدُسِ فَهُوَ بَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثِ وَالْجَمِيعِ نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةٌ، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِي السُّدُسِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ سِتِّينَ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمَانِ فَحَصَلَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالسَّيْفِ بِلَا مُنَازَعَةٍ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَبِالْمُنَازَعَةِ خَمْسَةٌ فَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ السَّيْفِ إلَّا سُدُسَ سُدُسِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ سُدُسٍ مِنْهُ سِتَّةٌ وَحَصَلَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ بِالْمُنَازَعَتَيْنِ خَمْسَةٌ وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ سُدُسِ السَّيْفِ وَحَصَلَ لِصَاحِبِ السُّدُسِ سَهْمَانِ، وَهُوَ ثُلُثُ سُدُسِ السَّيْفِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ الْمَالُ الْآخَرُ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ تُجْعَلُ كُلُّ مِائَةٍ مِنْهُ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ فَيَصِيرُ جُمْلَتُهُ مِائَةً وَثَمَانِينَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ سِتُّونَ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سُدُسُ ذَلِكَ ثَلَاثُونَ فَكَانَ لَهُمَا تِسْعُونَ وَظَهَرَ أَنَّ مَبْلَغَ سِهَامِ الْوَصَايَا مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَعِشْرُونَ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الثُّلُثِ فَالسَّبِيلُ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ ثُلُثُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ عَلَى هَذِهِ السِّهَامِ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَجُمْلَةُ الْمَالِ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ السَّيْفُ مِنْ ذَلِكَ سُدُسُهُ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ يَأْخُذُ صَاحِبُ السَّيْفِ مِنْ ذَلِكَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ مِقْدَارَ حَقِّهِ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ خَمْسَةً وَصَاحِبُ السُّدُسِ سَهْمَيْنِ وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ مِنْ السَّيْفِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، ثُمَّ يَأْخُذُ صَاحِبُ الثُّلُثِ مِنْ سِهَامِ الْخَمْسِمِائَةِ مِقْدَارَ حَقِّهِ سِتِّينَ وَصَاحِبُ السُّدُسِ ثَلَاثِينَ فَجُمْلَةُ مَا نَفَذَتْ فِيهِ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَعِشْرُونَ وَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُ ذَلِكَ مِائَتَانِ وَاثْنَانِ وَخَمْسُونَ مِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ وَسَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ سِهَامِ السَّيْفِ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ تَخْرِيجَ قَوْلِهِمَا فِي الْكِتَابِ وَعِنْدَهُمَا الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ السَّيْفِ فِي السَّيْفِ بِسِتَّةٍ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِسَهْمَيْنِ وَصَاحِبُ السُّدُسِ بِسَهْمٍ فَكَانَ السَّيْفُ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ وَكُلُّ مِائَةٍ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ تَكُونُ عَلَى تِسْعَةٍ أَيْضًا فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سُدُسُ ذَلِكَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ فَكَانَ جُمْلَةُ سِهَامِ الْوَصَايَا أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ وَنِصْفٌ وَذَلِكَ فَوْقَ الثُّلُثِ فَيُجْعَلُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ وَنِصْفٍ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ أَرْبَعَةً وَتِسْعِينَ وَنِصْفُ السَّيْفِ مِنْ ذَلِكَ السُّدُسُ وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالسَّيْفِ سِتَّةٌ كُلُّهُ مِنْ السَّيْفِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سَهْمٌ وَبَقِيَ لِلْوَرَثَةِ مِنْ سِهَامِ السَّيْفِ سِتَّةٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِمَّا بَقِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَالْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سَبْعَةً وَنِصْفًا، فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ ذَلِكَ حَصَلَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ فِي أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ وَنِصْفٍ وَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، فَإِذَا أَرَدْت إزَالَةَ الْكَسْرِ فَلَا طَرِيقَ فِيهِ سِوَى التَّضْعِيفِ.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ خَرَّجَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَهُمَا عَلَى طَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ السَّيْفَ لَمَّا صَارَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ بِاعْتِبَارِ الْعَوْلِ فَكُلُّ مِائَةٍ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ تَكُونُ عَلَى سِتَّةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا عَوْلَ فِي الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ فَسِهَامُ الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ إذَنْ ثَلَاثُونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ عَشَرَةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ خَمْسَةٌ فَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَإِذَا ضَمَمْت ذَلِكَ إلَى سِهَامِ السَّيْفِ تِسْعَةٍ كَانَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فَيُجْعَلُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَجَمِيعُ الْمَالِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ السَّيْفُ مِنْ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ لِصَاحِبِ السَّيْفِ سِتَّةٌ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ مِنْهُ سَهْمَانِ وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ مِنْهُ سَهْمٌ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ مِنْ تِسْعَةٍ لِلْوَرَثَةِ وَسِهَامُ الْخَمْسِمِائَةِ سِتُّونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ عَشَرَةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ خَمْسَةٌ يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَجُمْلَةُ مَا سَلِمَ لِلْوَرَثَةِ مِنْ الْمَالِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَقَدْ نَفَذَتْ الْوَصِيَّةُ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ.
قُلْت هَذَا وَاضِحٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى طَرِيقِ أَهْلِ الْحِسَابِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ الْوَاحِدَةَ مَعَ تَفَاوُتِ مِقْدَارِ السِّهَامِ لَا تَكُونُ، فَإِذَا كَانَ السَّيْفُ وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ، ثُمَّ تَجْعَلُ كُلَّ مِائَةٍ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ بَيْنَ السِّهَامِ تَفَاوُتٌ فِي الْمِقْدَارِ فَكَيْفَ تَسْتَقِيمُ قِسْمَةُ الْكُلِّ بَيْنَهُمْ بِهَذَا الطَّرِيقِ قَالَ هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْمَذْهَبِ نَصَّ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ وَعَلَيْهِ خَرَّجَ الْمَسَائِلَ إلَى آخِرِ الْبَابِ تَأَمَّلْ فِي ذَلِكَ.
تَأَمَّلْته فَوَجَدْته كَمَا قَالَ.
وَمِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ قَالَ لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِالثُّلُثِ وَلِآخَرَ بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ سِوَى ذَلِكَ، فَإِنَّ صَاحِبَ الثُّلُثِ يَضْرِبُ فِيهِ بِثُلُثِ الْأَلْفَيْنِ وَسُدُسِ الْعَبْدِ وَيَضْرِبُ صَاحِبُ الْعَبْدِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ فَمَا أَصَابَ صَاحِبَ الْعَبْدِ فَهُوَ فِي الْعَبْدِ، وَهُوَ النِّصْفُ وَمَا أَصَابَ الثُّلُثَ فَهُوَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمَالِ فَيَكُونُ لَهُ خُمُسُ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ وَخُمُسُ الْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْعَبْدِ وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ وَبِثُلُثِهِ فَيُسَلَّمُ ثُلُثَاهُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَاءِ مُنَازَعَتِهِمَا فِيهِ، وَإِذَا صَارَ الْعَبْدُ عَلَى سِتَّةٍ فَكُلُّ أَلْفٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ كَذَلِكَ فَهُمَا اثْنَا عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ فَبَلَغَتْ سِهَامُ الْوَصَايَا عَشَرَةً فَيَجْعَلُ ذَلِكَ ثُلُثَ الْمَالِ وَجَمِيعُ الْمَالِ ثَلَاثُونَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةٌ هُوَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ خَمْسَةٌ وَهِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ سَهْمٌ مِنْ الْعَبْدِ، وَهُوَ خُمُسُ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ سِهَامِ الْأَلْفَيْنِ وَذَلِكَ خُمُسُ الْعِشْرِينَ وَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ مِنْ الْأَلْفَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَمِنْ الْعَبْدِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ، وَهُوَ سُدُسُ الْعَبْدِ وَسُدُسُ الْأَلْفَيْنِ، وَإِنَّمَا يَقْتَسِمُ هَذَا الْجَوَابَ عِنْدَهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ يَضْرِبُ فِي الْعَبْدِ بِسِتَّةٍ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ بِسَهْمَيْنِ فَسِهَامُ الْعَبْدِ ثَمَانِيَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ عَلَى سِتَّةٍ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَبَلَغَتْ سِهَامُ الْوَصَايَا اثْنَيْ عَشَرَ وَذَلِكَ الثُّلُثُ وَجَمِيعُ الْمَالِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ الْعَبْدُ مِنْهُ اثْنَا عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ سِتَّةٌ نِصْفُ الْعَبْدِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ الْعَبْدِ سَهْمَانِ، وَهُوَ ثُلُثُ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَسُدُسُ جَمِيعِ الْعَبْدِ وَلَهُ مِنْ الْأَلْفَيْنِ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ السُّدُسُ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْأَصْلِ فَأَيُّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ قُلْت فَهُوَ حَسَنٌ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ فِي الْمَعْنَى تَفَاوُتًا وَبِهَذَا اللَّفْظِ يَسْتَدِلُّ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ مَذْهَبَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ طَرِيقٌ حَسَنٌ فِي التَّخْرِيجِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ لَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مُصِيبًا لِلْحُكْمِ بِاجْتِهَادِهِ حَقِيقَةً.
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ وَبِجَمِيعِ الْمَالِ لِآخَرَ، فَإِنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَإِنْ أَجَازُوا فَجَمِيعُ الْمَالِ بَيْنَهُمَا أَسْدَاسًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِاعْتِبَارِ طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَسْلَمُ الثُّلُثَانِ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِي الثُّلُثِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَحَصَلَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْمَالِ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سُدُسُ الْمَالِ، وَعِنْدَهُمَا الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ فَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ رُبُعُ الْمَالِ قَالَ الْحَسَنُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ لَا كَمَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِقِسْمَةِ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى الثَّلَاثِينَ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ حَقِّ صَاحِبِ الثُّلُثِ السُّدُسُ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ نِصْفُ الْمَالِ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ، وَفِي مِقْدَارِ السُّدُسِ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَحَصَلَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ مَرَّةً السُّدُسُ وَمَرَّةً نِصْفُ السُّدُسِ فَذَلِكَ رُبُعُ الْمَالِ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ تَخْرِيجِ قَوْلِهِ أَنَّهُ يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى أَنْ يَكُونَ مَا يُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ وَعَدَمِ الْإِجَازَةِ سَوَاءٌ وَالْإِجَازَةُ كَمَا تُؤَثِّرُ فِي الزِّيَادَةِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْجَمِيعِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ صَاحِبِ الثُّلُثِ وَيُؤَدِّي ذَلِكَ أَيْضًا إلَى أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ صَاحِبِ الْقَلِيلِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ فَوْقَ نَصِيبِهِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلِلْآخَرِ بِسُدُسِ مَالِهِ فَعِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ الثُّلُثُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَيُصِيبُ صَاحِبُ الثُّلُثِ تُسْعَ الْمَالِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْإِجَازَةِ يَأْخُذُ صَاحِبُ الْجَمِيعِ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الْمَالِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، ثُمَّ السُّدُسُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَنَصِيبُهُ نِصْفُ سُدُسِ الْمَالِ وَذَلِكَ دُونَ تُسْعِ الْمَالِ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُسَلَّمَ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يُسَلَّمُ لَهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ فَظَهَرَ أَنَّ تَخْرِيجَ الْحَسَنِ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَصَحُّ.
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِنِصْفِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ فَأَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ فَالنِّصْفُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ وَصَاحِبِ النِّصْفِ نِصْفَانِ وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ سِتَّةٌ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا تَقَدَّمَ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدَانِ قِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُمَا فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنَّ الثُّلُثَ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ فِي الْعَبْدَيْنِ جَمِيعًا اثْنَانِ فِي الذِّمَّةِ لَا وَصِيَّةَ فِيهِ لِلْآخَرِ وَوَاحِدٌ فِي الَّذِي فِيهِ الْوَصِيَّةُ لِلْآخَرِ وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِعَيْنِهِ وَصِيَّتَانِ بِجَمِيعِهِ وَبِثُلُثِهِ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سُدُسُهُ وَالْعَبْدُ الْآخَرُ يَصِيرُ عَلَى سِتَّةٍ أَيْضًا لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْهُ سَهْمَانِ فَكَانَ جُمْلَةُ سِهَامِ الْوَصَايَا ثَمَانِيَةً إلَّا أَنَّ وَصِيَّةَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ اثْنَا عَشَرَ وَالثُّلُثُ مِنْهُ أَرْبَعَةٌ وَوَصِيَّتُهُ خَمْسَةٌ فَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ تَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ فِيهِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا كَمَا هُوَ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعَيْنِ فَيَبْقَى حَقُّهُ فِي أَرْبَعَةٍ وَحَقُّ صَاحِبِ الثُّلُثِ فِي ثَلَاثَةٍ سَهْمٌ مِنْهُ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِعَيْنِهِ وَسَهْمَانِ فِي الْعَبْدِ الْآخَرِ فَلِهَذَا قَالَ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ لَهُمَا، فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِعَيْنِهِ يَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِهِ بِثَلَاثَةٍ فِيهِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ بِسَهْمٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ وَالْعَبْدُ الْآخَرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا عَوْلَ فِيهِ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ فَحَصَلَ لَهُ سَهْمَانِ فِي الْعَبْدَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ ثَلَاثَةٌ كُلُّهَا فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِعَيْنِهِ فَلِهَذَا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ.
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ وَبِثُلُثِ مَالِهِ لِآخَرَ وَبِعَبْدِهِ ذَلِكَ أَيْضًا لِآخَرَ وَبِسُدُسِ مَالِهِ لِآخَرَ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَهُ أَلْفَانِ سِوَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الثُّلُثَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا يَضْرِبُ فِيهِ صَاحِبَا الْعَبْدِ بِأَحَدٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَنِصْفٍ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ وَنِصْفٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْعَبْدِ أَرْبَعُ وَصَايَا وَالْقِسْمَةُ عِنْدَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فِيهِ فَثُلُثَا الْعَبْدِ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْعَبْدِ نِصْفَانِ وَسُدُسٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثِ أَثْلَاثًا وَالسُّدُسُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا فَعِنْدَ تَصْحِيحِ هَذِهِ السِّهَامِ يَنْتَهِي الْحِسَابُ إلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا لِحَاجَتِنَا إلَى حِسَابٍ يَنْقَسِمُ سُدُسُهُ أَثْلَاثًا وَأَرْبَاعًا فَيَسْلَمُ لِلْمُوصَى لَهُمَا بِالْعَبْدِ الثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَالسُّدُسُ، وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثِ أَثْلَاثًا وَالسُّدُسُ الْآخَرُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ الْعَبْدِ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَبْعَةٌ وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ صَارَ كُلُّ أَلْفٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فَالْأَلْفَانِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ سَهْمًا لِصَاحِبِ الثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، فَإِذَا جَمَعْت ذَلِكَ كُلَّهُ بَلَغَتْ سِهَامُ الْوَصَايَا مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَجُمْلَةُ الْمَالِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارُ حَقِّهِ وَاحِدٌ وَثَلَاثُونَ كُلُّهَا فِي الْعَبْدِ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ مِنْ الْعَبْدِ سَبْعَةٌ، وَمِنْ الْأَلْفَيْنِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ مِنْ الْعَبْدِ ثَلَاثَةٌ، وَمِنْ الْأَلْفِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَفِي الْكِتَابِ خَرَّجَهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ جَوَّزَ الْكَسْرَ بِالْإِنْصَافِ وَجَعَلَ الثُّلُثَ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ وَحَصَلَ لِصَاحِبَيْ الْعَبْدِ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَنِصْفٌ وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ عَلَى مَا قُلْنَا.
وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِعَيْنِهِ يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ بِسِهَامِ جَمِيعِهِ سِتَّةٍ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ يَضْرِبُ فِيهِ بِسَهْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ يَضْرِبُ فِيهِ بِسَهْمٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ يَكُونُ عَلَى سِتَّةٍ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَلِلْمُوصَى لَهُ مِنْ الْأَلْفَيْنِ الثُّلُثُ أَرْبَعَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سَهْمَانِ، وَإِنْ ضَمَّنَهَا هَذِهِ السِّتَّةَ إلَى سِهَامِ الْعَبْدِ خَمْسَةَ عَشَرَ كَانَ الْكُلُّ أَحَدًا وَعِشْرِينَ فَلِهَذَا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ.
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدِهِ وَلِآخَرَ بِنِصْفِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَالْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفًا وَلَهُ أَلْفَانِ سِوَى ذَلِكَ وَلَمْ يُجِيزُوا قَسْمَ الثُّلُثِ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثِينَ سَهْمًا لِصَاحِبِ الْعَبْدِ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ فِي الْعَبْدِ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ فِيهِ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ يَسْلَمُ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَالسُّدُسُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ النِّصْفِ نِصْفَانِ وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَبَلَغَتْ سِهَامُ الْعَبْدِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ مَرَّةً ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَمَرَّةً ثَلَاثَةٌ وَمَرَّةً أَرْبَعَةٌ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ مَرَّةً ثَلَاثَةٌ وَمَرَّةً أَرْبَعَةٌ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ كُلُّ أَلْفٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ يَصِيرُ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَيْضًا فَسِهَامُ الْأَلْفَيْنِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ فَبَلَغَتْ سِهَامُ الْوَصَايَا سِتِّينَ فَيَجْعَلُ الثُّلُثَ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ وَجُمْلَةُ الْمَالِ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ.
وَفِي الْكِتَابِ خَرَّجَهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثِينَ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفُ مَا أَعْطَيْنَاهُ، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ نِصْفُ مَا جَعَلْنَاهُ لَهُ، وَهُوَ سَبْعَةٌ كُلُّهَا فِي الْعَبْدِ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ نِصْفُ مَا أَعْطَيْنَاهُ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ لَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمَالِ سُدُسُ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ وَالْبَاقِي فِي الْمَالِ.
قَالَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَانِ الْحَرْفَانِ الْأَخِيرَانِ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمَالِ فَيَقْسِمَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ وَالْوَرَثَةِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَسَبْعِينَ سَهْمًا فَمَا أَصَابَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ذَلِكَ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ وَمَا أَصَابَ سِتِّينَ سَهْمًا فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ فَيَضْرِبُ هُوَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ بِسِهَامِ حَقِّهِ وَالْوَرَثَةُ بِسِهَامِ حَقِّهِمْ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا الْأَصْلَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِمَّا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ سُبُعُ حَقِّهِ لَا سُدُسُهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنْ الْعَبْدِ سَهْمَانِ، وَمِنْ الْأَلْفَيْنِ اثْنَا عَشَرَ، فَإِذَا جَمَعْت الْكُلَّ كَانَ مَالُهُ مِنْ الْعَبْدِ سُبُعَ حَقِّهِ.
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَلِآخَرَ بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثِ ضَرَبَ صَاحِبُ الْأَقَلِّ بِقِيمَةِ عَبْدِهِ وَضَرَبَ الْآخَرُ بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ مِنْ قِيمَةِ عَبْدِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ قِيمَةِ عَبْدِهِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ فِي حَقِّ الضَّرْبِ.
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا، ثُمَّ وَهَبَهَا لِآخَرَ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا وَمَاتَ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَعَلَّقَتْ بِعَيْنِ الْمِائَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِهِ بِالْهِبَةِ وَالتَّسْلِيمِ فَصَارَ بِهِ رَاجِعًا وَالْوَصِيَّةُ مَتَى بَطَلَتْ بِالرُّجُوعِ لَا تَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ، وَلَوْ كَانَ غَصَبَهَا غَاصِبٌ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلَيْهِ بِعَيْنِهَا لَمْ تَبْطُلْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَاسْتَهْلَكَهَا الْغَاصِبُ فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ تَنْفِيذُهَا مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَهْلَكَهَا مُسْتَهْلِكٌ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ تَأَكَّدَ فِيهَا بِالْمَوْتِ فَيَثْبُتُ فِي بَدَلِهَا وَمَا كَانَ حَقُّهُ مُتَأَكِّدًا فِيهَا قَبْلَ مَوْتِهِ يَبْطُلُ بِفَوَاتِ الْعَيْنِ وَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْبَدَلِ كَالْمَوْهُوبِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إذَا أَتْلَفَهُ إنْسَانٌ يَبْطُلُ حَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِيهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى بِهَا عَبْدًا فَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ وَرَجَعَتْ إلَيْهِ الْمَالِيَّةُ بِعَيْنِهَا فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ، فَإِنَّ بَدَلَ الْمُسْتَحَقِّ مَمْلُوكٌ بِالْقَبْضِ فَصَارَتْ الْمِائَةُ مَمْلُوكَةً لِبَائِعِ الْعَبْدِ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ وَلِهَذَا كَانَ عَيْنًا بَعْدَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوَصِيَّةُ بَعْدَمَا بَطَلَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.