فصل: بَابُ الْأَيْمَانِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْأَيْمَانِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ ثِيَابِ فُلَانٍ شَيْئًا وَلَيْسَ لِفُلَانٍ يَوْمَئِذٍ ثَوْبٌ ثُمَّ اشْتَرَى ثَوْبًا فَلَبِسَهُ الْحَالِفُ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى لُبْسِ ثَوْبٍ مُضَافٍ إلَى فُلَانٍ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُ الْإِضَافَةِ عِنْدَ اللُّبْسِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامَ فُلَانٍ بِشَرْطِ وُجُودِ الْإِضَافَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الَّذِي دَعَاهُ إلَى الْيَمِينِ لَيْسَ مَعْنًى فِي الثَّوْبِ وَالطَّعَامِ بَلْ لِمَعْنًى لَحِقَهُ مِنْ جِهَةِ فُلَانٍ وَبِذَلِكَ الْمَعْنَى إنَّمَا يَمْتَنِعُ مِنْ اتِّحَادِ الْفِعْلِ فِيهِ لِكَوْنِهِ مُضَافًا إلَى فُلَانٍ وَقْتَ اتِّحَادِ الْفِعْلِ لَا وَقْتَ الْيَمِينِ وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الدَّارِ وَقَالَ: الدَّارُ لَا يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَا يَتَنَاوَلُ يَمِينُهُ إلَّا مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي مِلْكِ فُلَانٍ عِنْدَ يَمِينِهِ فَأَمَّا الثَّوْبُ وَالطَّعَامُ فَيُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهِمَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ يَمِينُهُ مَا كَانَ فِي مِلْكِ فُلَانٍ عِنْدَ وُجُودِ الْفِعْلِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُو فُلَانًا فَوَهَبَ لَهُ ثَوْبًا صَحِيحًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَصْنَعَ مِنْهُ قَمِيصًا حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَسَاهُ فَهَذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ تَمْلِيكَ الثَّوْبِ مِنْهُ لَا إلْبَاسَ الثَّوْبِ إيَّاهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ تَتَأَدَّى بِكِسْوَةِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَذَلِكَ بِالتَّمْلِيكِ دُونَ الْإِلْبَاسِ وَيُقَالُ فِي الْعَادَةِ كَسَا الْأَمِيرُ فُلَانًا إذَا مَلَكَهُ سَوَاءٌ لَبِسَهُ فُلَانٌ أَوْ لَمْ يَلْبَسْهُ، فَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْكِسْوَةِ عَلَى مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ اللُّبْسُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّمْلِيكُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ قَمِيصًا لِفُلَانٍ فَلَبِسَ قَمِيصًا لِعَبْدِهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَحْنَثُ، وَهَذَا خِلَافُ مَا مَضَى فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ قَالَ: وَلَكِنْ عِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ وَنَوَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ كَسْبَهُ فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ أَوْ عِنْدَ عَدَمِ الدَّيْنِ عَلَى الْعَبْدِ فَلَا خِلَافَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَكْسُو فُلَانًا فَكَسَا عَبْدَهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَ الثَّوْبَ مِنْ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا مَلَكَهُ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لِلْمَوْلَى عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ مِنْ عَبْدِهِ حُكْمًا، وَذَلِكَ لَيْسَ شَرْطَ حِنْثِهِ ثُمَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ عِنْدَهُ لَوْ وَهَبَ لِعَبْدِ أَخِيهِ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهِ، وَلَمْ يُجْعَلْ كَهِبَتِهِ لِأَخِيهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَسَا عَبْدَ فُلَانٍ لَا يُجْعَلُ فِي حُكْمِ الْحِنْثِ كَأَنَّهُ كَسَا فُلَانًا وَهُمَا يَقُولَانِ فِي حُكْمِ الرُّجُوعِ هِبَتُهُ لِعَبْدِ أَخِيهِ كَهِبَتِهِ لِأَخِيهِ لِاعْتِبَارِ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الرُّجُوعِ تَكُونُ مَعَ الْمَوْلَى، وَهُوَ قَرِيبٌ لَهُ فَرُجُوعُهُ يُؤَدِّي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَهُنَا شَرْطُ حِنْثِهِ نَفْسُ الْكِسْوَةِ لَا مَعْنًى يَنْبَنِي عَلَيْهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مَعَ الْعَبْدِ دُونَ الْمَوْلَى.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقَبُولَ وَالرَّدَّ فِيهِ يُعْتَبَرُ مَعَ الْعَبْدِ دُونَ الْمَوْلَى؟ وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا فَبَاعَ مِنْ عَبْدِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَهَذَا فِي الْبَيْعِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ مِنْ وَكِيلِ فُلَانٍ لَمْ يَحْنَثْ فَكَيْفَ يَحْنَثُ إذَا بَاعَ مِنْ عَبْدِ فُلَانٍ وَالْعَبْدُ فِي الشِّرَاءِ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ لَا لِمَوْلَاهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ هَذَا الثَّوْبَ مِنْ فُلَانٍ بِثَمَنٍ فَبَاعَهُ بِجَارِيَةٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ اسْمٌ لِلنَّقْدِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ بِثَمَنٍ لَا يَتَنَاوَلُ بَيْعَ الْمُقَابَضَةِ، فَإِنَّ فِي بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَائِعًا مِنْ وَجْهٍ مُشْتَرِيًا مِنْ وَجْهٍ وَالْبَيْعُ بِثَمَنٍ مَا يَكُونُ بَيْعًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي مِنْ فُلَانٍ ثَوْبًا فَأَمَرَ رَجُلًا فَاشْتَرَى لَهُ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْآمِرِ؟ قَالُوا: وَهَذَا إذَا كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ يُبَاشِرُ الشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُبَاشِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ حَانِثٌ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَمَّا لَا يُبَاشِرُهُ عَادَةً، وَفِي الْيَمِينِ مَقْصُودُ الْحَالِفِ مُعْتَبَرٌ، وَحُكِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ سَأَلَ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: أَمَّا أَنْتَ فَنَعَمْ يَعْنِي إذَا كَانَ لَا يُبَاشِرُ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَهُ حَانِثًا بِشِرَاءِ وَكِيلِهِ لَهُ، وَإِنْ وَهَبَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ الثَّوْبَ لِلْحَالِفِ عَلَى شَرْطِ الْعِوَضِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ فَالشِّرَاءُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ، وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ إلَّا بِالْقَبْضِ ثُمَّ بِالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْبَيْعِ بَعْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّرْطِ نَفْسَ الْعَقْدِ وَبِنَفْسِ الْعَقْدِ لَا يَصِيرُ هُوَ مُشْتَرِيًا، وَلَا صَاحِبُهُ بَائِعًا مِنْهُ، فَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ قَالَ: وَسَأَلْت أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا فِي دَارٍ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَسَكَنَ مَعَهُ فِي دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَقْصُورَةٍ عَلَى حِدَةٍ قَالَ: لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَكُونَا فِي مَقْصُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يَحْنَثُ، وَهُوَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهَذِهِ ثَلَاثُ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْكُنَا فِي مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَارٍ مِنْهَا لَا يَحْنَثُ بِدُونِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ عَلَى مِيزَانِ الْمُفَاعَلَةِ فَتَقْتَضِي وُجُودَ الْفِعْلِ مِنْهُمَا فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ وَكُلُّ دَارٍ مَسْكَنٌ عَلَى حِدَةٍ فَلَمْ يَجْمَعْهُمَا مَسْكَنٌ وَاحِدٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَسْكُنَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الدَّارِ مَسْكَنٌ وَاحِدٌ وَيُسَمَّى فِي الْعُرْفِ سَاكِنًا مَعَ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ مَقَاصِيرُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَقْصُورَةٍ عَلَى حِدَةٍ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: هُنَا الدَّارُ مَسْكَنٌ وَاحِدٌ وَالْمَقَاصِيرُ فِيهَا كَالْبُيُوتِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُتَّخَذُ الْمَرَافِقُ كَالْمَطْبَخِ وَالْمَرْبِطِ؟ فَعَرَفْنَا أَنَّ جَمِيعَهَا فِي السُّكْنَى مَسْكَنٌ وَاحِدٌ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ كُلُّ مَقْصُورَةٍ مَسْكَنٌ عَلَى حِدَةٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ السَّارِقَ مِنْ بَعْضِ الْمَقَاصِيرِ لَوْ أَخَذَ فِي صَحْنِ الدَّارِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ كَانَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَإِنَّ سَاكِنَ إحْدَى الْمَقْصُورَتَيْنِ لَوْ سَرَقَ مِنْ الْمَقْصُورَةِ الْأُخْرَى مَتَاعَ صَاحِبِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ؟ فَكَانَتْ الْمَقَاصِيرُ فِي دَارٍ بِمَنْزِلَةِ الدُّورِ فِي مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ الْبُيُوتِ فَكُلُّ بَيْتٍ مِنْ الدَّارِ لَيْسَ بِمَسْكَنٍ عَلَى حِدَةٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْكُلَّ حِرْزٌ وَاحِدٌ حَتَّى إنَّ السَّارِقَ مِنْ بَيْتٍ إذَا أَخَذَ فِي صَحْنِ الدَّارِ وَمَعَهُ مَتَاعٌ لَمْ يُقْطَعْ وَالضَّيْفُ الَّذِي هُوَ مَأْذُونٌ بِالدُّخُولِ فِي إحْدَى الْبَيْتَيْنِ إذَا سَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ الْآخَرِ لَمْ يُقْطَعْ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْكُلَّ مَسْكَنٌ وَاحِدٌ هُنَاكَ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِي دَارٍ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَحْنَثُ وَجَعَلَ الدُّخُولَ عَلَيْهِ فِي الدَّارِ كَالدُّخُولِ فِي مَحَلَّةٍ أَوْ قَرْيَةٍ، وَإِنَّمَا الدُّخُولُ عَلَى الْغَيْرِ فِي الْعُرْفِ بِأَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا هُوَ فِيهِ أَوْ مَقْصُورَةً هُوَ فِيهَا عَلَى قَصْدِ زِيَارَتِهِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ، وَمَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا: فِي عُرْفِ دِيَارِنَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ لِيَزُورَهُ النَّاسُ يَجْلِسُ فِي دَارِهِ لِذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ مَقْصُودًا بِيَمِينِهِ قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي دِهْلِيزٍ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ دِهْلِيزٌ إذَا رَدَّ الْبَابَ يَبْقَى خَارِجًا فَإِمَّا كُلُّ مَوْضِعٍ إذَا رَدَّ الْبَابَ يَبْقَى دَاخِلًا، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَجْلِسُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِيَزُورَهُ النَّاسُ فِيهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَّا بِإِذْنِهِ؟ بِخِلَافِ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ خَارِجَ الْبَابِ فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَصِلَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ بِدُونِ إذْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَرْطَ حِنْثِهِ، وَلَا يُسَمَّى دُخُولًا عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ مَنْزِلًا وَحَلَفَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْحَالِفِ الْأَوَّلِ مَنْزِلًا فَدَخَلَا مَعًا لَمْ يَحْنَثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَاخِلَ الْمَنْزِلِ وَلَكِنْ مَعَ صَاحِبِهِ لَا عَلَى صَاحِبِهِ فَالدُّخُولُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ عِنْدَ الدُّخُولِ لِقَاءَهُ وَإِكْرَامَهُ بِالزِّيَارَةِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ هُوَ مَعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَاخِلًا عَلَى صَاحِبِهِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يُجْعَلَ دَاخِلًا عَلَى صَاحِبِهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَطَأُ مَنْزِلَ فُلَانٍ بِقَدَمِهِ يَعْنِي بِذَلِكَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ عَلَى أَرْضِ مَنْزِلِهِ فَدَخَلَهُ وَعَلَيْهِ خُفَّانِ أَوْ نَعْلَانِ أَوْ رَاكِبًا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْعُرْفِ دُخُولُهُ مَنْزِلَهُ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ دَاخِلٌ سَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا أَوْ حَافِيًا أَوْ مُنْتَعِلًا، وَإِنْ نَوَى حَقِيقَةَ وَضْعِ الْقَدَمِ، فَإِنَّمَا نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَطَأُ الشَّيْءَ بِقَدَمَيْهِ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا دَخَلَهَا رَاكِبًا أَوْ مُنْتَعِلًا، وَمَنْ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ عُومِلَ بِنِيَّتِهِ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ دَارَ أَبِيك إلَّا بِإِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ فِي أَنْ لَا يَحْنَثَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: قَدْ أَذِنْت لَك فِي دُخُولِ هَذِهِ الدَّارِ كُلَّمَا شِئْت فَتَدْخُلُ كُلَّمَا شَاءَتْ، وَلَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدُّخُولَ بِإِذْنِهِ مُسْتَثْنًى مِنْ يَمِينِهِ، وَالْإِذْنُ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا يَتَنَاوَلُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ مَا لَمْ يُوجَدْ النَّهْيُ فَهِيَ كُلُّ مَرَّةٍ إنَّمَا تَدْخُلُ بِإِذْنِهِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الدُّخُولِ فَحِينَئِذٍ إذَا دَخَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ دُخُولًا بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْتِ مِنْ بَيْتِي، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَخَرَجَتْ مِنْ الْبَيْتِ إلَى الْحُجْرَةِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَارِجَةٍ مِنْ الْبَيْتِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَا تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؟ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ}، وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا يَرَاهَا النَّاسُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالْخُرُوجِ إلَى السِّكَّةِ لَا بِالْخُرُوجِ إلَى الْحُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْحُجْرَةَ مِنْ حِرْزِهِ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ لِمَنْزِلِهِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ بَيْتَهُ فَدَخَلَ حُجْرَتَهُ قِيلَ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ مَا دَخَلَ بَيْتَهُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي دَارٍ لَمْ يَحْنَثْ قَالُوا: وَفِي عُرْفِ دِيَارِنَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ فَاسْمُ الْبَيْتِ يَتَنَاوَلُ السُّفْلَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ بَاتَ فِي حُجْرَتِهِ إذَا قِيلَ لَهُ: أنذيت الْبَلْدَةَ اللَّيْلَةَ يَسْتَجِيرُ أَنْ يَقُولَ فِي بَيْتِي؟
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْخُذُ مَالَهُ عَلَى فُلَانٍ إلَّا جَمِيعًا فَأَخَذَ حَقَّهُ جَمِيعًا إلَّا دِرْهَمًا وَهَبَهُ لِلْمَطْلُوبِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ عَلَى فُلَانٍ مُتَفَرِّقًا، فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَثْنَى الْأَخْذَ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَرَفْنَا أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْأَخْذُ مُتَفَرِّقًا، فَإِذَا وَهَبَ لَهُ الْبَعْضَ أَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ الْبَعْضِ فَلَمْ يُوجَدْ الْأَخْذُ مُتَفَرِّقًا فَلَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَخَذَ جَمِيعَ حَقِّهِ فَوَجَدَ فِيهِ دِرْهَمًا مُتَفَرِّقًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَسْتَبِدَّ لَهُ فَإِنْ اسْتَبَدَّ لَهُ حِينَئِذٍ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الِاسْتِبْدَالِ لَمْ يُوجَدْ أَخْذُ جَمِيعِ الْحَقِّ مُتَفَرِّقًا، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ أَخْذُ بَعْضِ حَقِّهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطَ حِنْثِهِ فَأَمَّا بَعْدَ الِاسْتِبْدَالِ، فَقَدْ أَخَذَ جَمِيعَ الْحَقِّ مُتَفَرِّقًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّتُّوقَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ وَبِقَبْضِهِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بِهِ الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ لَمْ يَجُزْ فَحِينَ اسْتَبْدَلَهُ، فَقَدْ وُجِدَ الْآنَ قَبْضُ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ، وَقَدْ كَانَ قَبَضَ بَعْضَهُ فِي الِابْتِدَاءِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ وَجَدَ أَخْذَ جَمِيعِ الْحَقِّ مُتَفَرِّقًا حَتَّى لَوْ وَجَدَ الْكُلَّ سُتُّوقًا فَاسْتَبْدَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مَا أَخَذَ حَقَّهُ مُتَفَرِّقًا وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَقَاضَى فُلَانًا فَلَزِمَهُ فَلَمْ يَتَقَاضَاهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ غَيْرُ التَّقَاضِي فَالتَّقَاضِي يَكُونُ بِاللِّسَانِ وَالْمُلَازَمَةُ تَكُونُ بِالْبَدَنِ وَالْمُلَازَمَةُ غَيْرُ التَّقَاضِي فِي عُرْفِ النَّاسِ وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ وَلَوْ حَلَفَ الْمَطْلُوبُ لِيُعْطِيَهُ حَقَّهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَأَعْطَاهُ بَعْضَ حَقِّهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ إعْطَاءُ جَمِيعِ حَقِّهِ مُتَفَرِّقًا، فَإِنَّ قَوْلَهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ عِبَارَةٌ عَنْ التَّفَرُّقِ عَادَةً، وَهُوَ بِإِعْطَاءِ بَعْضِ الْحَقِّ إنَّمَا أَعْطَاهُ حَقَّهُ مُتَفَرِّقًا وَلَوْ حَلَفَ الطَّالِبُ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا لَهُ عَلَيْهِ فَنَامَ الطَّالِبُ أَوْ غَفَلَ فَهَرَبَ الْمَطْلُوبُ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدَ يَمِينِهِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَا فَارَقَ الْمَطْلُوبَ إنَّمَا الْمَطْلُوبُ فَارَقَهُ حِينَ هَرَبَ مِنْهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُهُ فَأَمَرَهُ السُّلْطَانُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُ وَحَال بَيْنَهُ وَبَيْنَ لُزُومِهِ فَذَهَبَ الْمَطْلُوبُ، وَلَمْ يَقْدِرْ الطَّالِبُ عَلَى إمْسَاكِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ مَا فَارَقَهُ إنَّمَا الْمَطْلُوبُ هُوَ الَّذِي هَرَبَ مِنْهُ وَفِعْلُ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ فِعْلًا لَهُ وَلِكَوْنِهِ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ عَجَزَ عَنْ إمْسَاكِهِ وَبِهَذَا لَا يَصِيرُ مُفَارِقًا لَهُ وَلَوْ قَالَ كُلُّ شَيْءٍ أُبَايِعُ بِهِ فُلَانًا، فَهُوَ صَدَقَةٌ ثُمَّ بَايَعَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ مِلْكَهُ، فَإِنَّمَا أَضَافَ النَّذْرَ بِالصَّدَقَةِ إلَى حَالِ زَوَالِ مِلْكِهِ عَمَّا بَايَعَ غَيْرَهُ بِهِ وَالْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ كَالْمُنْشَأِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَبَعْدَ مَا زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ عَنْ الْعَيْنِ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذَا الْعَيْنِ لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ هَذَا اللَّفْظُ الْتِزَامًا لِلتَّصَدُّقِ بِيَمِينِهِ قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ، فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلَمْ يَقُلْ قِيمَتُهُ صَدَقَةٌ وَالْمُلْتَزِمُ لِلتَّصَدُّقِ بِالْعَيْنِ لَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِلتَّصَدُّقِ بِالثَّمَنِ وَلَوْ حَلَفَ الْمَطْلُوبُ أَنْ لَا يُعْطِيَ الطَّالِبَ شَيْئًا ثُمَّ أَمَرَ الْمَطْلُوبُ رَجُلًا فَأَعْطَاهُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ هُوَ الْمُعْطِي، فَإِنَّ الدَّافِعَ رَسُولٌ مِنْ جِهَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى فُلَانٍ فَيَصِيرُ الْمُعْطِي فُلَانًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلَى إنْسَانٍ لِيُفَرِّقَهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ ثُمَّ إنَّ الدَّافِعَ لَمْ يُحْضِرْ النِّيَّةَ عِنْدَ التَّصَدُّقِ جَازَ إذَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ مِمَّنْ أَمَرَهُ بِالصَّدَقَةِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُعْطِي فَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ حَلَفَ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِهِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ إعْطَاءً مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِالْمُنَاوَلَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ مِنْ يَدِهِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْمُعْطِي، وَهُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْإِعْطَاءِ فِيهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَإِذَا صَرَّحَ فِي يَمِينِهِ بِالْإِعْطَاءِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ لَا يَحْنَثُ بِمَا دُونَهُ، وَإِذَا أَطْلَقَ اللَّفْظَ يُعْتَبَرُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ سَوَاءٌ أَعْطَاهُ بِيَدِهِ أَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ فَأَعْطَاهُ وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ مَا عَلَيْهِ دِرْهَمًا فَمَا فَوْقَهُ فَأَعْطَاهُ حَقَّهُ كُلَّهُ دَنَانِيرَ، وَإِنَّمَا عَنَى الدَّرَاهِمَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ فِي يَمِينِهِ بِالدَّرَاهِمِ، وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَا صَرَّحَ بِهِ خُصُوصًا إذَا تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِنِيَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمْتَنِعُ مِنْ إعْطَاءِ الدَّرَاهِمِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ إعْطَاءِ الدَّنَانِيرِ لِمَالِهِ مِنْ الْمَقْصُودِ فِي الصَّرْفِ وَالتَّقْيِيدِ إذَا كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: إنْ أَكَلْت عِنْدَك طَعَامًا أَبَدًا، فَهُوَ كُلُّهُ حَرَامٌ يَنْوِي بِذَلِكَ الْعَيْنَ فَأَكَلَهُ عِنْدَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْحَرَامَ مَا أَكَلَهُ وَبَعْدَمَا أَكَلَهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجْعَلَهُ حَرَامًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وَصْفَ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ حَرَامٌ بِطَرِيقِ أَنَّهُ مَحَلٌّ لِإِيقَاعِ الْفِعْلِ الْحَرَامِ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْأَكْلِ وَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ إنَّمَا يَكُونُ يَمِينًا إذَا صَادَفَ مَحَلَّهُ فَأَمَّا إذَا لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ كَانَ لَغْوًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ بَعْدَمَا أَكَلَهُ حَرَامٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ انْفَصَلَ عَنْهُ كَانَ حَرَامًا؟ فَيَقُولُ هُوَ صَادَفَ مَحَلَّهُ فِي كَلَامِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ فَتَحْرِيمُ الْحَرَامِ يَمِينٌ حَتَّى إذَا قَالَ: هَذَا الْخَمْرُ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الطَّرِيقَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ أَصْلًا وَلَوْ حَلَفَ لَا يَذُوقُ طَعَامًا لِفُلَانٍ فَأَكَلَ طَعَامًا لَهُ وَلِآخَرَ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَاقَ طَعَامَ فُلَانٍ وَالطَّعَامُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءٌ مِنْهُ وَالذَّوْقُ يَتِمُّ بِذَلِكَ الْجُزْءِ كَالْأَكْلِ يَتِمُّ بِهِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامَ فُلَانٍ فَأَكَلَ طَعَامًا لَهُ وَلِآخَرَ كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ فُلَانٍ فَلَبِسَ ثَوْبًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ أَوْ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكٌ لِفُلَانٍ لَا يُسَمَّى ثَوْبًا، وَلَا دَابَّةً وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لُقْمَةً لِفُلَانٍ فَأَكَلَ طَعَامًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ كُلَّ لُقْمَةٍ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ أَكْلَ لُقْمَةِ فُلَانٍ خَاصَّةً، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الشَّرَابَ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ بِهَذَا غَيْرَ الْخَمْرِ فَإِنْ شَرِبَ غَيْرَهَا لَمْ يَحْنَثْ يَعْنِي غَيْرَهَا مِمَّا لَا يُسْكِرُ فَأَمَّا مَا يُشْرَبُ لِلسُّكْرِ وَالتَّلَهِّي بِهِ إذَا شَرِبَ شَيْئًا مِنْهُ كَانَ حَانِثًا؛ لِأَنَّ الشَّرَابَ فِي النَّاسِ إذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ الْمُسْكِرُ وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ السُّكْرِ فَيَتَنَاوَلُ مُطْلَقَ لَفْظِهِ مَا يُسْكِرُ وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ لَفْظِهِ بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِشُرْبِ الْمَاءِ أَوْ اللَّبَنِ، وَهُوَ شَرَابٌ فَالشَّرَابُ حَقِيقَةً مَا يُشْرَبُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُزَايِلُ حَرَامًا فَشَرِبَ خَمْرًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْفُجُورُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَيَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ دَلِيلَ الْعُرْفِ يَغْلِبُ عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا يَنْصَرِفُ إلَى دُهْنِ الْبَنَفْسَجِ دُونَ الْوَرَقِ وَالْبَنَفْسَجُ لِلْوَرَقِ حَقِيقَةً فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعُرْفَ يُعْتَبَرُ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ، وَإِنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يَتَقَيَّدُ بِمَقْصُودِ الْحَالِفِ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ أَمْسَيْت قَبْلَ أَنْ أُطْعَمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ قَالَ إنْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَلَمْ يُطْعَمْ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ دُخُولُ اللَّيْلِ، وَذَلِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنَّ الْإِمْسَاءَ قَبْلَ الْإِصْبَاحِ، فَإِنَّمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِآخَرَ كَيْفَ أَصْبَحْت فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَكَيْف أَمْسَيْت فِي آخِرِ النَّهَارِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّائِمَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ مِنْ الصَّبَاحِ إلَى الْمَسَاءِ وَيَنْتَهِي ذَلِكَ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ؟ فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَلَمْ يَطْعَمْ، فَقَدْ أَمْسَى قَبْلَ أَنْ يَطْعَمَ فَيَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الْجَمَلَ فَكَبِرَ حَتَّى صَارَ مُسِنًّا فَأَكَلَهُ حَنِثَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْأَيْمَانِ مِنْ الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ أَنَّ فِي الْحَيَوَانِ الْعَيْنُ لَا تَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْوَصْفِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ وَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَبَّ أَوْ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَاخَ حَنِثَ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ فَأَكَلَهُ بَعْدَ مَا صَارَ ثَمَرًا لَمْ يَحْنَثْ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.