فصل: بَابُ صَلَاةِ الْمَرِيضِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ صَلَاةِ الْمَرِيضِ:

(قَالَ) وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ، فَأَمَّ قَوْمًا يُومِئُونَ وَقَوْمًا يَسْجُدُونَ فَإِنَّهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ وَلَا تَجُوزُ صَلَاةُ مَنْ يَسْجُدُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَبْنِي صَلَاتَهُ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ وَيَجُوزُ بِنَاءُ الضَّعِيفِ عَلَى الضَّعِيفِ وَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ هُنَا فَقَالَ إذَا كَانَ الْإِمَامُ مُسْتَلْقِيًا يُومِئُ إيمَاءً وَخَلْفَهُ مَنْ يُومِئُ مُسْتَلْقِيًا وَمَنْ يُومِئُ قَاعِدًا فَإِنَّهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ، وَلَا تَجُوزُ صَلَاةُ الْقَاعِدِ لِمَا فِيهِ مِنْ بِنَاءِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ فَإِنَّ حَالَ الْمُسْتَلْقِي فِي الْإِيمَاءِ دُونَ حَالِ الْقَاعِدِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِيمَاءُ مُسْتَلْقِيًا مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الْقُعُودِ فِي النَّافِلَةِ وَلَا فِي الْمَكْتُوبَةِ وَبِهَذَا الْحَرْفِ يُفَرِّقُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ اقْتِدَاءِ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ الَّذِي يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ فَإِنَّهُمَا يَجُوزَانِ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ حَالَ الْإِمَامِ قَرِيبٌ مِنْ حَالِ الْمُقْتَدِي حُكْمًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ النَّفْلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ مَعَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَجُوزَ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّ «آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ هُوَ قَاعِدًا وَهُمْ خَلْفَهُ قِيَامٌ» وَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ لَا يَلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلِهَذَا أَخَذْنَا فِيهِ بِالْقِيَاسِ.
وَلَوْ افْتَتَحَ الْمَكْتُوبَةَ وَهُوَ صَحِيحٌ مَعَ الْإِمَامِ قَاعِدًا ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يُعِدْ التَّكْبِيرَ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ مَرِضَ بَعْدَ مَا كَبَّرَ وَلَمْ يَسْتَطِعْ الْقِيَامَ إلَّا أَنْ يُعِيدَ التَّكْبِيرَ بَعْدَ أَنْ يَقُومَ أَوْ بَعْدَ مَا يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ شَرْطٌ عِنْدَ التَّحَرُّمِ فِي حَقِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ فَلَمْ تَنْعَقِدْ تَحْرِيمَتُهُ لِلْمَكْتُوبَةِ إلَّا أَنْ يُجَدِّدَ التَّكْبِيرَ لَهَا بَعْدَ الْعَجْزِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ افْتَتَحَ صَلَاةَ الظُّهْرِ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ ثُمَّ زَالَتْ الشَّمْسُ فَأَدَّاهَا لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْمَكْتُوبَةِ لِانْعِدَامِ شَرْطِهَا وَهُوَ الْوَقْتُ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ إلَّا أَنْ يُجَدِّدَ التَّكْبِيرَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانِهِ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ وَهُوَ مَرِيضٌ قَاعِدًا وَصَلَّى الْقَوْمُ مَعَهُ قِيَامًا فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يُجْزِي فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فَرْضٌ فِي حَقِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ كَمَا هُوَ فَرْضٌ فِي سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ وَقَدْ بَيَّنَّا اقْتِدَاءَ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ أَنَّهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ وَكَذَلِكَ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ فِي التَّطَوُّعَاتِ كَالْقِيَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فَكَذَلِكَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ إلَّا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَهُنَا لَا يُجْزِي أَنَّهُ لَا يُجْزِي الْقَوْمَ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فَتَتَأَدَّى بِأَدَاءِ الْإِمَامِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَالْإِمَامُ الَّذِي صَلَّى قَاعِدًا عَلَيْهَا كَانَ مَرِيضًا فَجَازَتْ صَلَاتُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ تَسْقُطُ بِأَدَاءِ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ هُوَ الْوَلِيُّ وَلَيْسَ لِلْقَوْمِ أَنْ يُعِيدُوا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَلَوْ أَنَّ جِنَازَةً تَشَاجَرَ فِيهَا قَوْمٌ أَيُّهُمْ يُصَلِّي عَلَيْهَا فَوَثَبَ رَجُلٌ غَرِيبٌ فَصَلَّى عَلَيْهَا وَصَلَّى مَعَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ، وَإِنْ أَحَبَّ الْأَوْلِيَاءُ أَعَادُوا الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ لِلْأَوْلِيَاءِ فَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُمْ وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَلَّى غَيْرُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْمَكْتُوبَةَ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ حَقُّ الْإِعَادَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى فِيهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ حَقُّ الْإِعَادَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ حِينَ افْتَتَحَ الرَّجُلُ الْغَرِيبُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ اقْتَدَى بِهِ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ فَلَيْسَ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَقُّ الْإِعَادَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي اقْتَدَى بِهِ رَضِيَ بِإِمَامَتِهِ فَكَأَنَّهُ قَدَّمَهُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ مُتَكَامِلَةٌ فَإِذَا سَقَطَ بِأَدَاءِ أَحَدِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَاقِينَ حَقُّ الْإِعَادَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ جَوَازَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْمِصْرِ، زَادَ هَهُنَا فَقَالَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هُوَ بِنَفْسِهِ الْإِمَامُ وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْمِصْرِ قَالَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إنَّمَا يَجُوزُ فِي حَالِّ عَدَمِ الْمَاءِ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ فَلَا يَكُونُ طَهَارَةً إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهُوَ خَوْفُ الْفَوْتِ وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْإِمَامِ الَّذِي يَكُونُ حَقُّ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ لَهُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَنْتَظِرُونَهُ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلُوا كَانَ لَهُ حَقُّ إعَادَةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَلَا يُجْزِيه الْأَدَاءُ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا فَاجَأَتْكَ جِنَازَةٌ وَأَنْتَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَتَيَمَّمْ وَصَلِّ عَلَيْهَا وَلِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْقَوْمُ فَإِنَّهُ عِنْدَ كَثْرَةِ الزِّحَامِ رُبَّمَا يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ إذَا ذَهَبَ إلَى مَوْضِعِ الْمَاءِ لِيَتَوَضَّأَ أَوْ لَا يَنْتَظِرُهُ النَّاسُ فَيُصَلُّونَ عَلَيْهَا وَيَدْفِنُونَ الْمَيِّتَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ هُوَ مِنْ الطَّهَارَةِ وَلَوْ انْتَظَرَهُ النَّاسُ رُبَّمَا يَلْحَقُهُمْ الْحَرَجُ فِي ذَلِكَ فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ جَوَّزْنَا لَهُ الْأَدَاءَ بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّمَا التَّيَمُّمُ إنَّمَا جُعِلَ طَهَارَةً لِدَفْعِ الْحَرَجِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} الْآيَةَ وَفِيهِ مَعْنًى آخَرَ فِي حَقِّ الْقَوْمِ وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ دُعَاءٌ وَلَيْسَتْ بِصَلَاةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَرْكَانُ الصَّلَاةِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالطَّهَارَةُ شَرْطُ صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَتَأَدَّى الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهَا صَلَاةً تَسْمِيَةً شَرَطْنَا فِيهَا نَوْعَ طَهَارَةٍ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ.
وَعَلَى هَذَا قَالَ لَوْ كَانَ جُنُبًا فِي الْمِصْرِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى عَلَيْهَا أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْجُنُبِ إلَّا أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا كَمَا «تَيَمَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَدِّ السَّلَامِ» فِي حَدِيثٍ مَعْرُوفٍ بَيَّنَّاهُ فِي الصَّلَاةِ.
فَإِنْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَلَمْ يَفْعَلْ أَعَادَ التَّيَمُّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَقَدْ انْتَهَى تَيَمُّمُهُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ وَخَافَ إنْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ أَنْ تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ ثَانِيًا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُصَلِّي عَلَيْهَا بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُعِيدُ التَّيَمُّمَ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ تَيَمُّمَهُ الْأَوَّلَ كَانَ لِحَاجَتِهِ إلَى إحْرَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الْأُولَى وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ بِالْفَرَاغِ مِنْهَا فَانْتَهَى حُكْمُ ذَلِكَ التَّيَمُّمِ ثُمَّ حَدَثَتْ لَهُ حَاجَةٌ جَدِيدَةٌ إلَى إحْرَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الثَّانِيَةِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَيَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِهَا وَقَاسَ بِمَا لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الْوُضُوءِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجَلِهِ جَوَّزْنَا الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ الْأُولَى بِالتَّيَمُّمِ قَائِمٌ بَعْدُ وَهُوَ خَوْفُ الْفَوْتِ فَيَبْقَى تَيَمُّمُهُ بِبَقَاءِ الْمَعْنَى بِخِلَافِ مَا إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الطَّهَارَةِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ.
يُوضِحُهُ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَعْدَ مَا صَحَّ لَا يَنْتَقِضْ إلَّا بِالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَهُوَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِالْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الْأُولَى إذَا كَانَ يَخَافُ فَوْتَ الثَّانِيَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الطَّهَارَةِ بَيْنَهُمَا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكَّنٍ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ كَانَ فَرْضُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ سَاقِطًا عَنْهُ فَيَكُونُ وُجُودُ الْمَاءِ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِ سَوَاءً.
وَإِنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَكَبَّرَ تَكْبِيرَةً ثُمَّ جِيءَ بِأُخْرَى فَوُضِعَتْ إلَى جَنْبِهَا فَإِنْ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَنْوِي الصَّلَاةَ عَلَى الْأُولَى أَوْ عَلَيْهِمَا أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْأُولَى عَلَى حَالِهِ يُتِمُّهَا ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا هُوَ مَوْجُودُ وَعِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ يَكُونُ فِعْلُهُ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إتْمَامُ الصَّلَاةِ عَلَى الْأُولَى، وَإِنْ كَبَّرَ يَنْوِي الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ رَافِضٌ لِلْأُولَى شَارِعٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ جِنَازَةٍ فَرْضٌ عَلَى حِدَةٍ وَمَنْ كَانَ فِي فَرِيضَةٍ فَكَبَّرَ يَنْوِي فَرِيضَةً أُخْرَى كَانَ رَافِضًا لِلْأُولَى شَارِعًا فِي الثَّانِيَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ.
وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً حَائِضًا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ فِي مِصْرٍ فَتَيَمَّمَتْ فَصَلَّتْ عَلَى جِنَازَةٍ فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا فَذَلِكَ يُجْزِئُهَا؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِخُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ بِمُضِيِّ أَيَّامِهَا، وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهَا الِاغْتِسَالُ فَقَطْ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْجُنُبِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشْرِ وَقَدْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٍ بَعْدَ مَا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ طَاهِرَةً حُكْمًا حَتَّى وَجَبَتْ الصَّلَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا وَلِهَذَا حَلَّ لِلزَّوْجِ غَشَيَانُهَا وَحُكِمَ بِخُرُوجِهَا مِنْ الْعِدَّةِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشْرِ وَلَمْ يَمْضِ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٌ فَإِنَّهُ لَا تُجْزِئُهَا الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ الْحَيْضِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرُبَهَا وَلَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الرَّجْعَةِ بِنَفْسِ انْقِطَاعِ الدَّمِ.
وَإِذَا كَانَتْ حَائِضًا حُكْمًا فَلَيْسَ لِلْحَائِضِ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ فِي سَفَرٍ وَهِيَ عَادِمَةٌ لِلْمَاءِ فَحِينَئِذٍ لَهَا أَنْ تَتَيَمَّمَ بَعْدِ انْقِطَاعِ الدَّمِ وَتُصَلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمِ فِي حَقِّهَا بِمَنْزِلَةِ الِاغْتِسَالِ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَلِهَذَا يَجُوزُ لَهَا أَدَاءُ الْمَكْتُوبَةِ بِالتَّيَمُّمِ فَكَذَلِكَ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ ثُمَّ هَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ يَقُولُ الرَّجْعَةُ تَنْقَطِعُ بِنَفْسِ التَّيَمُّمِ وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الرَّجْعَةُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَنْقَطِعُ بِنَفْسِ التَّيَمُّمِ وَلَكِنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ بِالنَّصِّ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ دُونَ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ طَهَارَةً فِي حَقِّ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ أَنْ يَكُونَ طَهَارَةً فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ أَيْضًا فَإِنْ غُسِّلَ مَيِّتٌ وَبَقِيَ مِنْهُ عُضْوٌ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ فَكُفِّنَ فَإِنَّهُ يُخْرَجُ مِنْ الْكَفَنِ فَيُغَسَّلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ ثُمَّ يُكَفَّنُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعُضْوِ الْكَامِلِ فِي حُكْمِ الِاغْتِسَالِ كَبَقَاءِ جَمِيعِ الْبَدَنِ حَتَّى لَا تَنْقَطِعَ الرَّجْعَةُ إذَا اغْتَسَلَتْ الْمَرْأَةُ وَبَقِيَ مِنْهَا عُضْوٌ فَيَكُونُ هَذَا وَمَا لَوْ كُفِّنَ قَبْلَ أَنْ يُغَسَّلَ سَوَاءً، وَهُنَاكَ يُخْرَجُ مِنْ الْكَفَنِ وَيُغَسَّلُ؛ لِأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى حَالِهِ بَعْدَ مَا كُفِّنَ فَلَا يَسْقُطُ فَرْضُ غُسْلِهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الدَّفْنِ فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ حِينَ أَهَالُوا التُّرَابَ عَلَيْهِ فَيَسْقُطُ فَرْضُ الْغُسْلِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ بَقِيَ مَوْضِعُ أُصْبُعٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُخْرَجُ مِنْ الْكَفَنِ لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُخْرَجُ فَيُغَسَّلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ اللُّمْعَةِ كَبَقَاءِ جَمِيعِ الْبَدَنِ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ فِي اغْتِسَالِ الْحَيِّ فَكَذَلِكَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَدَنَ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَكَمَا لَا يَتَجَزَّأُ حُكْمُ الْغُسْلِ فِي الْبَدَنِ وُجُوبًا فَكَذَلِكَ لَا يَتَجَزَّأُ سُقُوطًا وَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِغَسْلِهِ وَقِيَامُ الْخِطَابِ بِغَسْلِهِ عُذْرٌ لَهُمْ فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ الْكَفَنِ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ عَلِمُوا بِهِ مِنْ قَبْلِ التَّكْفِينِ سَوَاءً وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقُولَانِ لَا يُتَيَقَّنُ بِقِيَامِ فَرْضِ الْغُسْلِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِمَّا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ فَلَعَلَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ الْمَاءُ ثُمَّ جَفَّ وَقَدْ اعْتَبَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي حُكْمِ الرَّجْعَةِ فَقُلْنَا بِانْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ عِنْدَ بَقَاءِ اللُّمْعَةِ لِهَذَا فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْكَفَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ بَأْسٍ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَلِيلَ يَتَأَدَّى فَرْضُ الْغُسْلِ فِيهِ بِدُونِ اسْتِعْمَالِ مَاءٍ جَدِيدٍ بِأَنْ تُحَوَّلَ الْبَلَّةُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ إلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَلَ ثُمَّ رَأَى لُمْعَةً عَلَى بَدَنِهِ فَغَسَلَهَا بِحُمَّةٍ» أَيْ أَخَذَ الْبُلَّةَ مِنْهَا فَغَسَلَ تِلْكَ اللُّمْعَةَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ اسْتِعْمَالُ مَاءٍ جَدِيدٍ فِي غُسْلِهِ كَانَ هَذَا وَمَا لَوْ فَرَغُوا مِنْ غَسْلِهِ سَوَاءً، فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْكَفَنِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَ عُضْوٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ.
وَلَوْ خَرَجَ شَيْءٌ مِنْ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَا غُسِّلَ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ ذَلِكَ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ إمَاطَةِ الْأَذَى وَلَا يُعَادُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُحْدِثُ وَلَا يُجْنِبُ.
وَلَوْ أَنَّ صَبِيًّا حُمِلَ فِي سَفَطٍ عَلَى دَابَّةٍ فَصَلَّوْا عَلَيْهَا وَهُوَ عَلَى الدَّابَّةِ لَمْ تُجْزِهِمْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَهُمْ إنَّمَا صَلَّوْا عَلَى الدَّابَّةِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ يَجُوزُ وَهُوَ نَظِيرُ الْقِيَاسِ، وَالِاسْتِحْسَانُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُصَلِّي عَلَى الدَّابَّةِ، فَإِنَّ فِي الْقِيَاسِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ دُعَاءٌ وَدُعَاءُ الرَّاكِبِ وَالنَّازِلِ سَوَاءٌ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ التَّكْبِيرَاتُ وَالْقِيَامُ فَكَمَا لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ التَّكْبِيرَاتِ لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ الْقِيَامِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الْمُصَلِّي عَلَى الدَّابَّةِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَيِّتُ عَلَى الدَّابَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بَابُ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلٌ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ بِعَرَفَةَ الظُّهْرَ ثُمَّ أَهَلَّ بِحِجَّةٍ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ مَعَهُ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاتَيْنِ مَعَهُ جَمِيعًا وَهُوَ مُهِلٌّ بِالْحَجِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ يَجُوزُ أَنَّ التَّغَيُّرَ إنَّمَا حَصَلَ فِي الْعَصْرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُعَجَّلٌ عَلَى وَقْتِهِ وَلَا تَغَيُّرَ فِي الظُّهْرِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَدًّى فِي وَقْتِهِ فَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ التَّغَيُّرُ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ شَرْطُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بِأَدَاءِ الْعَصْرِ دُونَ الظُّهْرِ.
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْعَصْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ تَقْدِيمُ الظُّهْرِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ وَكَانَ الْيَوْمُ يَوْمَ غَيْمٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالْعَصْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِهِ الْعَصْرُ وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ جَدَّدَ الْوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَمْ يُجْزِهِ الْعَصْرُ فَثَبَتَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْعَصْرِ تَقْدِيمُ الظُّهْرِ عَلَيْهِ وَالْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ شَرْطٌ لِأَدَاءِ الْعَصْرِ فَيُشْتَرَطُ لِأَدَاءِ الظُّهْرِ أَيْضًا كَالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ تَقَدُّمُ الْخُطْبَةِ وَالسُّلْطَانُ شَرْطٌ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ كَانَ شَرْطًا لِإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ أَيْضًا.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْحَاجَةِ إلَى امْتِدَادِ الْوُقُوفِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ فَيُشْتَرَطُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ لِهَذَا الْجَمْعِ ثُمَّ الْجَمْعُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِهِمَا جَمِيعًا فَيُشْتَرَطُ الْإِحْرَامُ فِيهِمَا.
وَلَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمَوْسِمِ جَمَعَ بِمَكَّةَ وَهُوَ مُسَافِرٌ جَازَ؛ لِأَنَّهُ فُوِّضَ إلَيْهِ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَكُونُ هُوَ دُونَ الْقَاضِي وَصَاحِبِ الشَّرْطِ فِي إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِمَكَّةَ، وَلَوْ صَلَّى بِهِمْ بِمِنًى لَمْ يُجْزِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ أُمِرَ بِإِقَامَةِ الْمَنَاسِكِ وَمَا أُمِرَ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ أَنَّ مَكَّةَ مِصْرٌ وَأَهْلُهَا يَحْتَاجُونَ إلَى إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فَمَنْ كَانَ ذَا سُلْطَانٍ فَهُوَ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا وَأَمَّا أَهْلُ مِنًى فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى إقَامَةِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ لِأَمِيرِ الْمَوْسِمِ أَنْ يُقِيمَ الْجُمُعَةَ بِمِنًى فَإِنْ كَانَ أَمِيرُ مَكَّةَ أَوْ أَمِيرُ الْحِجَازِ أَوْ الْخَلِيفَةُ حَجَّ بِنَفْسِهِ فَفِي إقَامَةِ الْجُمُعَةِ لَهُ بِمِنًى خِلَافٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
فَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِعَرَفَاتٍ وَلَمْ يَخْطُبْ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ خُطْبَةُ وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ وَتَعْلِيمٍ لِبَعْضِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَتَرْكُهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ كَالْخُطْبَةِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ فِي الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِمَكَانِ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْطُبَ فِي الْحَجِّ ثَلَاثَ خُطَبٍ: خُطْبَةٌ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ يَخْطُبُهَا بِمَكَّةَ بَعْدَ الظُّهْرِ وَخُطْبَةٌ بِعَرَفَاتٍ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَخُطْبَةٌ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَهُوَ يَوْمُ الْقَرِّ كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَرَظٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» يُرِيدُ الْيَوْمَ الثَّانِيَ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ يَقِرُّونَ فِيهِ بِمِنًى وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ بَعْدَ الظُّهْرِ وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَخْطُبُ ثَلَاثَ خُطَبٍ: خُطْبَةٌ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَخُطْبَةٌ يَوْمَ عَرَفَةَ وَخُطْبَةٌ يَوْمَ النَّحْرِ وَمَا قُلْنَاهُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ هُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى فَلَا يَتَفَرَّغُونَ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْطُبَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ يُعَلِّمُهُمْ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى ثُمَّ مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَاتٍ ثُمَّ يَخْطُبُ يَوْمَ عَرَفَةَ يُعَلِّمُهُمْ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ كَيْفِيَّةَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَالْإِفَاضَةَ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ وَالْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَالرَّمْيَ وَالذَّبْحَ وَالْحَلْقَ وَالرُّجُوعَ إلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَالسَّعْيِ ثُمَّ الْعَوْدَ إلَى مِنًى ثُمَّ يَخْطُبُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ يُعَلِّمُهُمْ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ بَقِيَّةَ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَيَكُونُ لِلتَّعْلِيمِ يَوْمٌ وَلِلْعَمَلِ يَوْمٌ فَكَانَ هَذَا أَحْسَنَ مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.